وردت هذه القصة في كتاب ( بحار الأنوار / جزء 75 / صفحة [383] )
" قصة (بلوهر) الحكيم ، والملك (يوذاسف) "
المقطع الأول :
" قصة (بلوهر) الحكيم ، والملك (يوذاسف) "
المقطع الأول :
عن محمد بن زكريا أن ملكا من ملوك الهند كان كثير الجند، واسع المملكة، مهيبا في أنفس الناس، مظفرا علي الاعداء، وكان مع ذلك عظيم النهمه في شهوات الدنيا ولذاتها وملاهيها ، مؤثرا لهواه ، مطيعا له ، وكان أحب الناس إليه وأنصحهم له في نفسه من زين له حاله وحسن رأيه ، وأبغض الناس إليه و أغشهم له في نفسه من أمره بغيرها وترك أمره فيها، وكان قد أصاب الملك فيها في حداثة سنه وعنفوان شبابه وكان له رأي أصيل ولسان بليغ ومعرفة بتدبير الناس و ضبطهم ، فعرف الناس ذلك منه فانقادوا له ، وخضع له كل صعب وذلول ، واجتمع له سكر الشباب وسكر السلطان، والشهوة والعجب، ثم قوي ذلك ما أصاب من الظفر على من ناصبه والقهر لاهل مملكته ، وانقياد الناس له ، فاستطال على الناس واحتقرهم ، ثم ازداد عجبا برأيه ونفسه لما مدحه الناس وزينوا أمره عنده ، فكان لا همة له إلا الدنيا وكانت الدنيا له مؤاتية لا يريد منها شيئا إلا ناله، غير أنه كان مئناثا لا يولد له ذكر، وقد كان الدين فشا في أرضه قبل ملكه وكثر أهله ، فزين له الشيطان عداوة الدين وأهله وأضر بأهل الدين فأقصاهم مخافة على ملكه وقرب أهل الاوثان ، وصنع لهم أصناما من ذهب وفضة، وفضلهم و شرفهم ، وسجد لاصنامهم. فلما رأى الناس ذلك منه سارعوا إلى عبادة الاوثان والاستخفاف بأهل الدين ثم إن الملك سأل يوما عن رجل من أهل بلاده كانت له منه منزلة حسنة ومكانة رفيعة وكان أراد أن يستعين به على بعض اموره ويحبوه ويكرمه، فقيل له أيها الملك إنه قد خلع الدنيا وخلي منها ولحق بالنساك فثقل ذلك على الملك، و شق عليه ، ثم إنه أرسل إليه فاوتي به ، فلما نظر إليه في زي النساك وتخشعهم زبره وشتمه وقال له : بينا أنت من عبيدي وعيون أهل مملكتي ووجههم وأشرافهم إذ فضحت نفسك وضيعت أهلك ومالك واتبعت أهل البطالة والخسارة حتى صرت ضحكة ومثلا، وقد كنت أعددتك لمهم اموري، والاستعانة بك على ما ينوبني .
فقال له : أيها الملك إن لم يكن لي عليك حق فلعقلك عليك حق ، فاستمع قولي بغير غضب ، ثم ائمر بما بدا لك بعد الفهم والتثبيت، فإن الغضب عدو العقل ، ولذلك يحول ما بين صاحبه وبين الفهم،
قال له الملك: قل ما بدا لك .
قال الناسك: فإني أسألك أيها الملك أفي ذنبي على نفسي عتبت علي أم في ذنب مني إليك سالف ؟
قال الملك : إن ذنبك إلى نفسك أعظم الذنوب عندي ، وليس كلما أراد رجل من رعيتي أن يهلك نفسه أخلي بينه وبين ذلك، ولكني أعد إهلاكه لنفسه كإهلاكه لغيره ممن أنا وليه والحاكم عليه وله ، فأنا أحكم عليك لنفسك وآخذ لها منك إذ ضيعت أنت ذلك،
فقال له الناسك: أراك أيها الملك لا تأخذني إلا بحجة ولا نفاذ لحجة إلا عند قاض، وليس عليك من الناس قاض، لكن عندك قضاة وأنت لاحكامهم منفذ، وأنا ببعضهم راض، ومن بعضهم مشفق .
قال الملك: وما أولئك القضاة، قال: أما الذي أرضى قضاءه فعقلك، وأما الذي أنا مشفق منه فهواك،
قال الملك: قل ما بدا لك وأصدقني خبرك ومتى كان هذا رأيك ؟ ومن أغواك ؟
قال: أما خبري فإني كنت سمعت كلمة في حداثة سني وقعت في قلبي فصارت كالحبة المزروعة ثم لم تزل تنمي حتى صارت شجرة إلى ما ترى، وذلك ؟ أني كنت قد سمعت قائلا يقول: يحسب الجاهل الامر الذي هو لا شئ شيئا والامر الذي هو الشئ لا شئ، ومن لم يرفض الامر الذي هو لا شئ لم ينل الامر الذي هو شئ، ومن لم يبصر الامر الذي هو الشئ لم تطب نفسه برفض الامر الذي هو لا شئ، والشئ هو الاخرة، ولا شئ هو الدنيا، فكان لهذه الكلمة عندي قرار لاني وجدت الدنيا حياتها موتا وغناها فقرا، وفرحها ترحا، وصحتها سقما، و قوتها ضعفا، وعزها ذلا، وكيف لا تكون حياتها موتا، وإنما يحيى فيها صاحبها ليموت،وهو من الموت على يقين، ومن الحياة على قلعة، وكيف لا يكون غناؤها فقرا وليس اصيب أحد منها شيئا إلا احتاج لذلك الشئ إلى شئ آخر يصلحه و إلى أشياء لا بدله منها.ومثل ذلك أن الرجل ربما يحتاج إلى دابة فإذا أصابها احتاج إلى علفها وقيمها ومربطها وأدواتها، ثم احتاج لكل شئ من ذلك إلى شئ آخر يصلحه، وإلى أشياء لا بدله منها،فمتى تنقضي حاجة من هو كذلك وفاقته ؟ وكيف لا يكون فرحها ترحا وهي مرصدة لكل منأصاب منها قرة أعين أن يرى من ذلك الامر بعينه أضعافه من الحزن، إن رأى سرورا في ولده فما ينتظر من الاحزان في موته وسقمه وجايحة إن أصابته أعظم من سروره به، وإن رأى السرور في مال فما يتخوف من التلف أن يدخل عليه أعظم من سروره بالمال، فإذا كانالامر كذلك فأحق الناس بأن لا يتلبس بشئ منها من عرف هذا منها، وكيف لا يكون صحتها سقما وإنما صحتها من أخلاطها وأصح أخلاطها وأقربها من الحياة الدم، وأظهر ما يكونالانسان دما أخلق ما يكون صاحبه بموت الفجأة، والذبحة(1) والطاعون والاكلة والبرسام، وكيف لا تكون قوتها ضعفا وإنما تجمع القوى فيها ما يضره ويوبقه، وكيف لايكون عزها ذلا ولم ير فيها عز قط إلا أورث أهلها ذلا طويلا، غير أن أيام الغرقصيرة، وأيام الذل طويلة ، فأحق الناس بذم الدنيا من بسطت له الدنيا فأصاب حاجتهمنها، فهو يتوقع كل يوم وليلة وساعة وطرفة عين أن يعدى على ماله فيحتاج، وعلى حميمهفيختطف، وعلى جمعه فينهب ، وأن يؤتى بنيانه من القواعد فيهدم، وأن يدب الموت إلىجسده فيستأصل ويفجع بكل ما هو به ضنين .
فأذم إليك أيها الملك الدنيا الاخذة ما تعطي، والمورثة بعد ذلك التبعة، السالبة لمن تكسو، والمورثة بعد ذلك العرى، المواضعة لمن ترفع، والمورثة بعد ذلك الجزع، التاركة لمن يعشقها، والمورثة بعد ذلك الشقوة، المغوية لمن أطاعها واغتر بها، الغدارة بمن ائتمنها وركن إليها، هي المركب القموص والصاحب الخؤون، والطريق الزلق، والمهبط المهوي، هي المكرمة التي لا تكرم أحدا إلا أهانته، المحبوبة التي لا تحب أحدا،الملزومة التي لا تلزم أحدا، يوفى لها وتغدر، ويصدق لها وتكذب، وينجز لها وتخلف، هي المعوجة لمن استقام بها، المتلاعبة بمن استمكنت منه، بينا هي تطعمه إذ حولته مأكولا، وبينا هي تخدمه إذ جعلته خادما، وبينا هي تضحكه إذ ضحكت منه، وبينا هي تشتمه إذ شتمت منه وبينا هي تبكيه إذا بكت عليه، وبينا هي قد بسطت يده بالعطية إذ بسطتها بالمسألة، وبينا هو فيها عزيز إذ أذلته، وبينا هو فيها مكرم إذ أهانته، وبينا هو فيها معظم إذ صار محقورا، وبينا هو فيها رفيع إذ وضعته، وبينا هي له مطيعة إذ عصته، وبينا هو فيها مسرور إذ أخزنته، وبينا هو فيها شبعان إذ أجاعته، وبينا هوفيها حي إذ أماتته. فأف لها من دار إذ كان هذا فعالها، وهذه صفتها، تضع التاج على رأسه غدوة وتعفر خده بالتراب عشية، وتجعلها في الاغلال غدوة [تحلى الايدي بأسورة الذهب عشية، وتجعلها في الاغلال غدوة وتقعد الرجل على السرير غدوة، وترمي به في السجن عشية، تفرش له الديباج عشية، وتفرش له التراب غدوة، وتجمع له الملاهي والمعازف غدوة، وتجمع عليه النوائح والنوادب عشية تحبب إلى أهله قربه عشية وتحبب إليهم بعده غدوة، تطيب ريحه غدوة وتنتن ريحه عشية، فهو متوقع لسطواتها، غير ناج من فتنتها وبلائها، تمتع نفسه من أحاديثها وعينه من أعاجيبها، ويده مملؤة من جمعها، ثم تصبح الكف صفرا، والعينهامدة، ذهب ما ذهب، وهوى ما هوى، وباد ما باد، وهلك ما هلك، تجد في كل من كل خلفا،وترضى بكل من كل بدلا، تسكن دار كل قرن قرنا، وتطعم سؤر كل قوم قوما، تقعد الاراذلمكان الافاضل، والعجزة مكان الحزمة تنقل أقواما من الجدب [ اي القحط ] إلى الخصب ، ومن الرجلة إلى المركب ومن البؤس إلى النعمة، ومن الشدة إلى الرخاء، ومن الشقاء إلى الخفض والدعة، حتى إذا غمستهم في ذلك انقلبت بهم فسلبتهم الخصب، ونزعت منهم القوة،فعادوا إلى أبأس البؤس، وأفقر الفقر، وأجدب الجدب .
فأما قولك أيها الملك في إضاعة الاهل وتركهم فإني لم أضيعهم، ولم أتركهم، بل وصلتهم وانقطعت إليهم، ولكني كنت وأناأنظر بعين مسحورة لا أعرف بها الاهل من الغرباء، ولا الاعداء من الاولياء، فلماانجلى عني السحر استبدلت بالعين المسحورة عينا صحيحة، واستنبت الاعداء من الاولياء ، والاقرباء من الغرباء، فإذا الذين كنت أعدهم أهلين وأصدقاء وإخوانا وخلطاء إنما هم سباع ضارية (2) لاهمة لهم إلا أن تأكلني وتأكل بي، غير أن اختلاف منازلهم في ذلك على قدر القوة، فمنهم كالاسد في شدة السورة (3) ومنهم كالذئب في الغارة والنهبة ، ومنهم كالكلب في الهرير والبصبصة، ومنهم كالثعلب في الحيلة والسرقة، فالطرق واحدةوالقلوب مختلفة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) الذبحة - بضم الذال وفتح الباء والعامة تسكن الباء - ورم حار في العضلات من جانب الحلقوم التى بها يكون البلع. وقال العلامة: وقد يطلق الذبحة على الاختناق. والشيخ لا يفرق بينهما، وقيل هي ورم اللوزتين (بحر الجواهر).
(2) الضارى من الكلاب ما لهج بالصيد وتعود أكله.
(3) السورة: الحدة.
يتبع ...
تعليق