الحمد لله(1)
الحمد لله الذي كان في أوّليّته، وحدانياً في أزليّته، متعظّماً بإلهيته، متكبّراً بكبريائه وجبروته. ابتدأ ما ابتدع، وأنشأ ما خلق، على غير مثالٍ كان سبق مما خلق.
ربّنا اللطيف بلطف ربوبيّته، وبعلم خبره فتق، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق، فلا مبدّل لخلقه، ولا مغيّر لصنعه، ولا معقب لحكمه، ولا رادّ لأمره، ولا مستراح عن دعوته. خلق جميع ما خلق ولا زوال لملكه، ولا انقطاع لمدته، فوق كلّ شيءٍ علا، ومن كلّ شيءٍ دنا، فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى وهو بالمنظر الأعلى.
احتجب بنوره، وسما في علوّه، فاستتر عن خلقه، وبعث إليهم شهيداً عليهم، وبعث فيهم النبيين مبشّرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بيّنةٍ، ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروه.
والحمد لله الذي أحسن الخلافة علينا أهل البيت، وعنده نحتسب عزانا في خير الآباء: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعند الله نحتسب عزانا في أمير المؤمنين ولقد أصيب به الشرق والغرب. والله ما خلّف درهماً ولا ديناراً إلا أربعمائة درهمٍ، أراد أن يبتاع لأهله خادماً، ولقد حدّثني حبيبي: جدي: رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منّا إلا مقتول أو مسموم.
صفة الله(2)
الحمد لله الذي لم يكن له اول معلوم، ولا آخر متناهٍ، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بحتّى، ولا شخص فيتجزأ، ولا اختلاف صفةٍ فيتناهي، فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها ولا الألباب وأذهانها صفته فيقول: متى؟ ولا بدئ ممّ؟ ولا ظاهر على ممّ؟ ولا باطن ممّ؟ ولا تارك فهلاّ؟ خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد ما استزاد، ذلكم الله ربّ العالمين(3).
الله عارضنا(4)
الحمد لله الذي من تكلم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده. والحمد لله الواحد بغير تشبيهٍ، الدائم بغير تكوينٍ، القائم بغير كلفةٍ، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غايةٍ المعروف بغير محدوديّةٍ العزيز لم يزل قديماً في القدم، وعنت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزّته، وخضعت الرقاب لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصلون منهم لكنه عظمته. ولا تبلغه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير بتدبير أمورها. أعلم خلقه به الذي بالحدّ لا يصفه. يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير، أمّا بعد فإن القبور محلّتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، وإن عليّاً باب من دخله كان آمناً ومن خرج منه كان كافراً، أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
لا تناله الأوهام(5)
يا فتح! من أرضى الخالق، لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن ان يسلّط عليه سخط المخلوق، وإنّ الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به! جلّ عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، قريب وفي قربه بعيد، كيّف الكيف، فلا يقال له: كيف، وأيّن الأين، فلا يقال له: أين، إذ هو مبدع الكيفوفيّة، والأينونيّة.
يا فتح! كلّ جسمٍ مغذّىً بغذاء، إلا الخالق الرازق، فإنه جسّم الأجسام، وهو ليس بجسمٍ ولا صورةٍ، لم يتجزّأ، ولم يتناه، ولم يتزايد، ولم يتناقص، مبرّا من ذات ما ركّب في ذات من جسّمه، وهو اللطيف الخبير، الواحد الأحد، الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لو كان كما تقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق، ولا الرازق من المرزوق، ولا المنشئ من المنشأ، لكنه المنشئ، فرّق بين من جسّمه وصوّره، وشيّأه وبيّنه، إذا كان لا يشبهه شيء.
قلت: فالله واحد، والانسان واحد، فليس قد تشابهت الوحدانية؟
قال: أحلت - ثبّتك الله -، إنما التشبيه في المعاني، وأمّا في الأسماء فهي واحدة، وهي دلالة على المسمّى، وذلك أنّ الانسان وإن قيل: واحد فانه يجزّأ، إنه جثّة واحدة، وليس باثنين والانسان نفسه [و] ليس بواحدٍ، لأن أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء متجزأة، ليس سواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالانسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى، والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره، ولا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة، ولا نقصان، فامّا الانسان، المخلوق المصنوع المؤلّف، فمن أجزاءٍ مختلفةٍ، وجواهر شتّى، غير انّه بالاجتماع شيء واحد.
قلت: فقولك: اللطيف، فسّره لي، فإني أعلم: أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل، غير أنّي أحبّ أن تشرح لي.
فقال: يا فتح إنّما قلت: اللطيف للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف، ألا ترى إلى اثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف، وفي الخلق، من اجسام الحيوان، من الجرجس، والبعوض، وما هو أصغر منهما، مما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره، الذكر من الأنثى، والمولود من القديم، فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتداءه للسفاد، والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه ممّا في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وافهام بعضها عن بعضٍ منطقها، وما تفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثم تأليف ألوانها: حمرةً مع صفرة، وبياضاً مع حمرةٍ، علمنا: أنّ خالق هذا الخلق لطيف، وانّ كلّ صانع شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق اللطيف الجليل، خلق وصنع لا من شيء.
قلت: - جعلت فداك - وغير الخالق الجليل خالق؟
قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: (تبارك الله أحسن الخالقين) فقد أخبر: أن في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى (عليه السلام) خلق من الطين كهيئة الطير باذن الله، فنفخ فصار طائراً باذن الله. والسامريّ خلق لهم عجلا جسداً له خوار.
قلت: إنّ عيسى خلق من الطين طيراً، دليلاً على نبوته، والسامريّ خلق عجلاً جسداً لنقض نبوة موسى (عليه السلام) وشاء الله أن يكون ذلك كذلك، إن هذا لهو العجب.
فقال: ويحك - يا فتح - إن لله إرادتين ومشيئتين: ارادة حتمٍ وارادة عزمٍ، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رايت أنّه نهي آدم و زوجته: أن يأكلا من الشجرة، وهو شاء ذلك، لولم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشية الله.. وأمر ابراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة ابراهيم مشية الله عزّ وجلّ.
قلت: فرّجت عني، فرّج الله عنك، غير أنك قلت: السميع البصير، سميع بأذنٍ وبصير بالعين؟
فقال: إنه يسمع بما يبصر، ويرى بما يسمع، بصير لا بعينٍ مثل عين المخلوقين، وسميع لا بمثل سمع السامعين، لكن لمّا لا تخفى عليه خافية، من أثر الذرة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، تحت الثرى والبحار، قلنا: بصير لا بمثل عين المخلوقين، وسميع بما لم تشتبه عليه ضروب اللغات، ولم يشغله سمع عن سمعٍ. قلنا: سميع لا بمثل السامعين.
قلت: - جعلت فداك - قد بقيت مسألة.
قال: هات لله أبوك.
قلت: يعلم القديم، الشيء الذي لم يكن، ان لو كان كيف كان يكون؟
قال: ويحك - إنّ مسائلك لصعبة - أما سمعت الله يقول: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله: (ولعلا بعضهم على بعضٍ) وقال - ويحكى قول أهل النار -: (أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل) وقال: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه) فقد علم الشيء الذي لم يكن، ان لو كان كيف كان يكون.
فقمت لأقبّل يده ورجله، فأدنى رأسه، فقبّلت وجهه ورأسه، فخرجت وبي من السرور والفرح، ما أعجز عن وصفه، لما تبينت من الخير والحظّ.
القدر(6)
بسم الله الرحمن الرحيم. وصل إليّ كتابك، ولولا ما ذكرت من حيرتك، وحيرة من مضى قبلك، إذاً ما أخبرتك، أمّا بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه، أنّ الله يعلمه فقد كفر، ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر، إنّ الله لم يطع مكرها، ولم يعص مغلوباً، ولم يهمل العباد سدىً من المملكة، بل هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً، ونهاهم تحذيراً، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّاً، وان انتهوا إلى معصيةٍ فشاء أن يمنّ عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل، وان لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً، ولا ألزموها كرهاً، بل منّ عليهم بأن بصّرهم و عرّفهم وحذّرهم، وأمرهم ونهاهم، لا جبلا لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه، (ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) والسلام على من اتبع الهدى.
لا جبر ولا تفويض(7)
من لم يؤمن بالله قضائه وقدره فقد كفر، ومن حمل ذنبه على ربّه فقد فجر. إنّ الله لا يطاع استكراهاً. ولا يعصى لغلبةٍ، لانه المليك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا، فإذا لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم على ذلك، فلو أجبر الله الخلق على الطاعة لاسقط عنهم الثواب، ولو أجبرهم على المعاصي لا سقط عنهم العقاب، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة، ولكن له فيهم المشيئة التي غيّبها عنهم، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنّة عليهم، وإن عملوا بالمعصية كانت الحجة عليهم.
عفو الله(8)
إنّ الله ليعفو يوم القيامة، عفواً يحيط على العباد، حتى يقول أهل الشّرك: والله ربّنا ما كنّا مشركين.
لطف الله(9)
ما فتح الله عزّ وجلّ على أحدٍ باب مسألة فخزن عنه باب الإجابة، ولا فتح على رجلٍ باب عملٍ فخزن عنه باب القبول، ولا فتح لعبدٍ باب شكرٍ فخزن عنه باب المزيد.
الجواد(10)
كان (عليه السلام) يطوف في بيت الله الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد فقال له:
إنّ لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنّ الجواد الذي يؤدّي ما افترض عليه، والبخيل الذي يبخل بما افترض عليه، وإن كنت تسأل عن الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له.
القرآن(11)
إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فليجل جالٍ بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإنّ التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور.
ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتّخذوه إماماً يدلّكم على هداكم. وإنّ أحقّ الناس من عمل به وإن لم يحفظه، وابعدهم من لم يعمل به وإن كان يقرأه(12).
إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً، يقود قوماً إلى الجنة أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه، ويسوق قوماً إلى النار ضيّعوا حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه(13).
من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ(14).
الحمد لله الذي كان في أوّليّته، وحدانياً في أزليّته، متعظّماً بإلهيته، متكبّراً بكبريائه وجبروته. ابتدأ ما ابتدع، وأنشأ ما خلق، على غير مثالٍ كان سبق مما خلق.
ربّنا اللطيف بلطف ربوبيّته، وبعلم خبره فتق، وبإحكام قدرته خلق جميع ما خلق، فلا مبدّل لخلقه، ولا مغيّر لصنعه، ولا معقب لحكمه، ولا رادّ لأمره، ولا مستراح عن دعوته. خلق جميع ما خلق ولا زوال لملكه، ولا انقطاع لمدته، فوق كلّ شيءٍ علا، ومن كلّ شيءٍ دنا، فتجلّى لخلقه من غير أن يكون يرى وهو بالمنظر الأعلى.
احتجب بنوره، وسما في علوّه، فاستتر عن خلقه، وبعث إليهم شهيداً عليهم، وبعث فيهم النبيين مبشّرين ومنذرين، ليهلك من هلك عن بيّنةٍ، ويحيا من حيّ عن بيّنةٍ، وليعقل العباد عن ربّهم ما جهلوه، فيعرفوه بربوبيته بعد ما أنكروه.
والحمد لله الذي أحسن الخلافة علينا أهل البيت، وعنده نحتسب عزانا في خير الآباء: رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعند الله نحتسب عزانا في أمير المؤمنين ولقد أصيب به الشرق والغرب. والله ما خلّف درهماً ولا ديناراً إلا أربعمائة درهمٍ، أراد أن يبتاع لأهله خادماً، ولقد حدّثني حبيبي: جدي: رسول الله صلى الله عليه وآله: إن الأمر يملكه اثنا عشر إماماً من أهل بيته وصفوته، ما منّا إلا مقتول أو مسموم.
صفة الله(2)
الحمد لله الذي لم يكن له اول معلوم، ولا آخر متناهٍ، ولا قبل مدرك، ولا بعد محدود، ولا أمد بحتّى، ولا شخص فيتجزأ، ولا اختلاف صفةٍ فيتناهي، فلا تدرك العقول وأوهامها، ولا الفكر وخطراتها ولا الألباب وأذهانها صفته فيقول: متى؟ ولا بدئ ممّ؟ ولا ظاهر على ممّ؟ ولا باطن ممّ؟ ولا تارك فهلاّ؟ خلق الخلق فكان بديئاً بديعاً، ابتدأ ما ابتدع، وابتدع ما ابتدأ، وفعل ما أراد، وأراد ما استزاد، ذلكم الله ربّ العالمين(3).
الله عارضنا(4)
الحمد لله الذي من تكلم سمع كلامه، ومن سكت علم ما في نفسه، ومن عاش فعليه رزقه، ومن مات فإليه معاده. والحمد لله الواحد بغير تشبيهٍ، الدائم بغير تكوينٍ، القائم بغير كلفةٍ، الخالق بغير منصبة، الموصوف بغير غايةٍ المعروف بغير محدوديّةٍ العزيز لم يزل قديماً في القدم، وعنت القلوب لهيبته، وذهلت العقول لعزّته، وخضعت الرقاب لقدرته، فليس يخطر على قلب بشر مبلغ جبروته، ولا يبلغ الناس كنه جلاله، ولا يفصح الواصلون منهم لكنه عظمته. ولا تبلغه العلماء بألبابها ولا أهل التفكير بتدبير أمورها. أعلم خلقه به الذي بالحدّ لا يصفه. يدرك الأبصار ولا تدركه الأبصار وهو اللطيف الخبير، أمّا بعد فإن القبور محلّتنا، والقيامة موعدنا، والله عارضنا، وإن عليّاً باب من دخله كان آمناً ومن خرج منه كان كافراً، أقول قولي وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
لا تناله الأوهام(5)
يا فتح! من أرضى الخالق، لم يبال بسخط المخلوق، ومن أسخط الخالق فقمن ان يسلّط عليه سخط المخلوق، وإنّ الخالق لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، وأنّى يوصف الذي تعجز الحواسّ أن تدركه، والأوهام أن تناله، والخطرات أن تحدّه، والأبصار عن الإحاطة به! جلّ عما وصفه الواصفون، وتعالى عما ينعته الناعتون، نأى في قربه، وقرب في نأيه، قريب وفي قربه بعيد، كيّف الكيف، فلا يقال له: كيف، وأيّن الأين، فلا يقال له: أين، إذ هو مبدع الكيفوفيّة، والأينونيّة.
يا فتح! كلّ جسمٍ مغذّىً بغذاء، إلا الخالق الرازق، فإنه جسّم الأجسام، وهو ليس بجسمٍ ولا صورةٍ، لم يتجزّأ، ولم يتناه، ولم يتزايد، ولم يتناقص، مبرّا من ذات ما ركّب في ذات من جسّمه، وهو اللطيف الخبير، الواحد الأحد، الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد. منشئ الأشياء، ومجسّم الأجسام، ومصوّر الصور، لو كان كما تقول المشبّهة لم يعرف الخالق من المخلوق، ولا الرازق من المرزوق، ولا المنشئ من المنشأ، لكنه المنشئ، فرّق بين من جسّمه وصوّره، وشيّأه وبيّنه، إذا كان لا يشبهه شيء.
قلت: فالله واحد، والانسان واحد، فليس قد تشابهت الوحدانية؟
قال: أحلت - ثبّتك الله -، إنما التشبيه في المعاني، وأمّا في الأسماء فهي واحدة، وهي دلالة على المسمّى، وذلك أنّ الانسان وإن قيل: واحد فانه يجزّأ، إنه جثّة واحدة، وليس باثنين والانسان نفسه [و] ليس بواحدٍ، لأن أعضاءه مختلفة، وألوانه مختلفة غير واحدة، وهو أجزاء متجزأة، ليس سواء، دمه غير لحمه، ولحمه غير دمه، وعصبه غير عروقه، وشعره غير بشره، وسواده غير بياضه، وكذلك سائر جميع الخلق، فالانسان واحد في الاسم، لا واحد في المعنى، والله جلّ جلاله واحد لا واحد غيره، ولا اختلاف فيه، ولا تفاوت، ولا زيادة، ولا نقصان، فامّا الانسان، المخلوق المصنوع المؤلّف، فمن أجزاءٍ مختلفةٍ، وجواهر شتّى، غير انّه بالاجتماع شيء واحد.
قلت: فقولك: اللطيف، فسّره لي، فإني أعلم: أن لطفه خلاف لطف غيره للفصل، غير أنّي أحبّ أن تشرح لي.
فقال: يا فتح إنّما قلت: اللطيف للخلق اللطيف، ولعلمه بالشيء اللطيف، ألا ترى إلى اثر صنعه في النبات اللطيف وغير اللطيف، وفي الخلق، من اجسام الحيوان، من الجرجس، والبعوض، وما هو أصغر منهما، مما لا يكاد تستبينه العيون، بل لا يكاد يستبان لصغره، الذكر من الأنثى، والمولود من القديم، فلمّا رأينا صغر ذلك في لطفه، واهتداءه للسفاد، والهرب من الموت، والجمع لما يصلحه ممّا في لجج البحار، وما في لحاء الأشجار، والمفاوز والقفار، وافهام بعضها عن بعضٍ منطقها، وما تفهم به أولادها عنها، ونقلها الغذاء إليها، ثم تأليف ألوانها: حمرةً مع صفرة، وبياضاً مع حمرةٍ، علمنا: أنّ خالق هذا الخلق لطيف، وانّ كلّ صانع شيءٍ فمن شيءٍ صنع، والله الخالق اللطيف الجليل، خلق وصنع لا من شيء.
قلت: - جعلت فداك - وغير الخالق الجليل خالق؟
قال: إنّ الله تبارك وتعالى يقول: (تبارك الله أحسن الخالقين) فقد أخبر: أن في عباده خالقين وغير خالقين، منهم عيسى (عليه السلام) خلق من الطين كهيئة الطير باذن الله، فنفخ فصار طائراً باذن الله. والسامريّ خلق لهم عجلا جسداً له خوار.
قلت: إنّ عيسى خلق من الطين طيراً، دليلاً على نبوته، والسامريّ خلق عجلاً جسداً لنقض نبوة موسى (عليه السلام) وشاء الله أن يكون ذلك كذلك، إن هذا لهو العجب.
فقال: ويحك - يا فتح - إن لله إرادتين ومشيئتين: ارادة حتمٍ وارادة عزمٍ، ينهى وهو يشاء، ويأمر وهو لا يشاء، أو ما رايت أنّه نهي آدم و زوجته: أن يأكلا من الشجرة، وهو شاء ذلك، لولم يشأ لم يأكلا، ولو أكلا لغلبت مشيئتهما مشية الله.. وأمر ابراهيم بذبح ابنه إسماعيل (عليه السلام) وشاء أن لا يذبحه، ولو لم يشأ أن لا يذبحه لغلبت مشيئة ابراهيم مشية الله عزّ وجلّ.
قلت: فرّجت عني، فرّج الله عنك، غير أنك قلت: السميع البصير، سميع بأذنٍ وبصير بالعين؟
فقال: إنه يسمع بما يبصر، ويرى بما يسمع، بصير لا بعينٍ مثل عين المخلوقين، وسميع لا بمثل سمع السامعين، لكن لمّا لا تخفى عليه خافية، من أثر الذرة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، تحت الثرى والبحار، قلنا: بصير لا بمثل عين المخلوقين، وسميع بما لم تشتبه عليه ضروب اللغات، ولم يشغله سمع عن سمعٍ. قلنا: سميع لا بمثل السامعين.
قلت: - جعلت فداك - قد بقيت مسألة.
قال: هات لله أبوك.
قلت: يعلم القديم، الشيء الذي لم يكن، ان لو كان كيف كان يكون؟
قال: ويحك - إنّ مسائلك لصعبة - أما سمعت الله يقول: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وقوله: (ولعلا بعضهم على بعضٍ) وقال - ويحكى قول أهل النار -: (أرجعنا نعمل صالحاً غير الذي كنا نعمل) وقال: (ولو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه) فقد علم الشيء الذي لم يكن، ان لو كان كيف كان يكون.
فقمت لأقبّل يده ورجله، فأدنى رأسه، فقبّلت وجهه ورأسه، فخرجت وبي من السرور والفرح، ما أعجز عن وصفه، لما تبينت من الخير والحظّ.
القدر(6)
بسم الله الرحمن الرحيم. وصل إليّ كتابك، ولولا ما ذكرت من حيرتك، وحيرة من مضى قبلك، إذاً ما أخبرتك، أمّا بعد فمن لم يؤمن بالقدر خيره وشرّه، أنّ الله يعلمه فقد كفر، ومن أحال المعاصي على الله فقد فجر، إنّ الله لم يطع مكرها، ولم يعص مغلوباً، ولم يهمل العباد سدىً من المملكة، بل هو المالك لما ملّكهم، والقادر على ما عليه أقدرهم، بل أمرهم تخييراً، ونهاهم تحذيراً، فان ائتمروا بالطاعة لم يجدوا عنها صادّاً، وان انتهوا إلى معصيةٍ فشاء أن يمنّ عليهم بأن يحول بينهم وبينها فعل، وان لم يفعل فليس هو الذي حملهم عليها جبراً، ولا ألزموها كرهاً، بل منّ عليهم بأن بصّرهم و عرّفهم وحذّرهم، وأمرهم ونهاهم، لا جبلا لهم على ما أمرهم به فيكونوا كالملائكة، ولا جبراً لهم على ما نهاهم عنه، (ولله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) والسلام على من اتبع الهدى.
لا جبر ولا تفويض(7)
من لم يؤمن بالله قضائه وقدره فقد كفر، ومن حمل ذنبه على ربّه فقد فجر. إنّ الله لا يطاع استكراهاً. ولا يعصى لغلبةٍ، لانه المليك لما ملّكهم، والقادر على ما أقدرهم، فإن عملوا بالطاعة لم يحل بينهم وبين ما فعلوا، فإذا لم يفعلوا فليس هو الذي أجبرهم على ذلك، فلو أجبر الله الخلق على الطاعة لاسقط عنهم الثواب، ولو أجبرهم على المعاصي لا سقط عنهم العقاب، ولو أهملهم لكان عجزاً في القدرة، ولكن له فيهم المشيئة التي غيّبها عنهم، فإن عملوا بالطاعات كانت له المنّة عليهم، وإن عملوا بالمعصية كانت الحجة عليهم.
عفو الله(8)
إنّ الله ليعفو يوم القيامة، عفواً يحيط على العباد، حتى يقول أهل الشّرك: والله ربّنا ما كنّا مشركين.
لطف الله(9)
ما فتح الله عزّ وجلّ على أحدٍ باب مسألة فخزن عنه باب الإجابة، ولا فتح على رجلٍ باب عملٍ فخزن عنه باب القبول، ولا فتح لعبدٍ باب شكرٍ فخزن عنه باب المزيد.
الجواد(10)
كان (عليه السلام) يطوف في بيت الله الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد فقال له:
إنّ لكلامك وجهين، فإن كنت تسأل عن المخلوق فإنّ الجواد الذي يؤدّي ما افترض عليه، والبخيل الذي يبخل بما افترض عليه، وإن كنت تسأل عن الخالق، فهو الجواد إن أعطى، وهو الجواد إن منع، لأنه إن أعطى عبداً أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له.
القرآن(11)
إنّ هذا القرآن فيه مصابيح النور، وشفاء الصدور، فليجل جالٍ بضوئه، وليلجم الصفة قلبه، فإنّ التفكير حياة القلب البصير كما يمشي المستنير في الظلمات بالنور.
ما بقي في الدنيا بقية غير هذا القرآن، فاتّخذوه إماماً يدلّكم على هداكم. وإنّ أحقّ الناس من عمل به وإن لم يحفظه، وابعدهم من لم يعمل به وإن كان يقرأه(12).
إنّ هذا القرآن يجيء يوم القيامة قائداً وسائقاً، يقود قوماً إلى الجنة أحلّوا حلاله وحرّموا حرامه وآمنوا بمتشابهه، ويسوق قوماً إلى النار ضيّعوا حدوده وأحكامه واستحلّوا محارمه(13).
من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ(14).
تعليق