هذا هو السعيد حقا !
رُوِيَ عَنْ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ [1] ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ جَدِّهِ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ، عَنْ أَبِيهِ ( عليهم السلام ) ، قَالَ : بَيْنَا أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) ذَاتَ يَوْمٍ جَالِسٌ مَعَ أَصْحَابِهِ يُعَبِّيهِمْ لِلْحَرْبِ إِذَا أَتَاهُ شَيْخٌ عَلَيْهِ شَحْبَةُ السَّفَرِ .
فَقَالَ : أَيْنَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ؟
فَقِيلَ : هُوَ ذَا .
فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، ثُمَّ قَالَ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، إِنِّي أَتَيْتُكَ مِنْ نَاحِيَةِ الشَّامِ ، وَ أَنَا شَيْخٌ كَبِيرٌ قَدْ سَمِعْتُ فِيكَ مِنَ الْفَضْلِ مَا لَا أُحْصِي ، وَ إِنِّي أَظُنُّكَ سَتُغْتَالُ ، فَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ .
قَالَ : " نَعَمْ يَا شَيْخُ ، مَنِ اعْتَدَلَ يَوْمَاهُ فَهُوَ مَغْبُونٌ ، وَ مَنْ كَانَتِ الدُّنْيَا هِمَّتَهُ اشْتَدَّتْ حَسْرَتُهُ عِنْدَ فِرَاقِهَا ، وَ مَنْ كَانَ غَدُهُ شَرَّ يَوْمَيْهِ فَهُوَ مَحْرُومٌ ، وَ مَنْ لَمْ يُبَالِ بِمَا رُزِئَ مِنْ آخِرَتِهِ إِذَا سَلِمَتْ لَهُ دُنْيَاهُ فَهُوَ هَالِكٌ ، وَ مَنْ لَمْ يَتَعَاهَدِ النَّقْصَ مِنْ نَفْسِهِ غَلَبَ عَلَيْهِ الْهَوَى ، وَ مَنْ كَانَ فِي نَقْصٍ فَالْمَوْتُ خَيْرٌ لَهُ .
يَا شَيْخُ ، ارْضَ لِلنَّاسِ مَا تَرْضَى لِنَفْسِكَ ، وَ ائْتِ إِلَى النَّاسِ مَا تُحِبُّ أَنْ يُؤْتَى إِلَيْكَ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى أَصْحَابِهِ ، فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ أَ مَا تَرَوْنَ إِلَى أَهْلِ الدُّنْيَا يُمْسُونَ وَ يُصْبِحُونَ عَلَى أَحْوَالٍ شَتَّى ، فَبَيْنَ صَرِيعٍ يَتَلَوَّى ، وَ بَيْنَ عَائِدٍ وَ مَعُودٍ ، وَ آخَرُ بِنَفْسِهِ يَجُودُ ، وَ آخَرُ لَا يُرْجَى ، وَ آخَرُ مُسَجًّى ، وَ طَالِبِ الدُّنْيَا وَ الْمَوْتُ يَطْلُبُهُ ، وَ غَافِلٍ وَ لَيْسَ بِمَغْفُولٍ عَنْهُ ، وَ عَلَى أَثَرِ الْمَاضِي يَصِيرُ الْبَاقِي " .
فَقَالَ لَهُ زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ الْعَبْدِيُّ : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ، أَيُّ سُلْطَانٍ أَغْلَبُ وَ أَقْوَى ؟
قَالَ : " الْهَوَى " .
قَالَ : فَأَيُّ ذُلٍّ أَذَلُّ ؟
قَالَ : " الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا " .
قَالَ : فَأَيُّ فَقْرٍ أَشَدُّ ؟
قَالَ : " الْكُفْرُ بَعْدَ الْإِيمَانِ " .
قَالَ : فَأَيُّ دَعْوَةٍ أَضَلُّ ؟
قَالَ : " الدَّاعِي بِمَا لَا يَكُونُ " .
قَالَ : فَأَيُّ عَمَلٍ أَفْضَلُ ؟
قَالَ : " التَّقْوَى " .
قَالَ : فَأَيُّ عَمَلٍ أَنْجَحُ ؟
قَالَ : " طَلَبُ مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ " .
قَالَ : فَأَيُّ صَاحِبٍ لَكَ شَرٌّ ؟
قَالَ : " الْمُزَيِّنُ لَكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْخَلْقِ أَشْقَى ؟
قَالَ : " مَنْ بَاعَ دِينَهُ بِدُنْيَا غَيْرِهِ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْخَلْقِ أَقْوَى ؟
قَالَ : " الْحَلِيمُ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْخَلْقِ أَشَحُّ ؟
قَالَ : " مَنْ أَخَذَ الْمَالَ مِنْ غَيْرِ حِلِّهِ فَجَعَلَهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ أَكْيَسُ ؟
قَالَ : " مَنْ أَبْصَرَ رُشْدَهُ مِنْ غَيِّهِ ، فَمَالَ إِلَى رُشْدِهِ " .
قَالَ : فَمَنْ أَحْلَمُ النَّاسِ ؟
قَالَ : " الَّذِي لَا يَغْضَبُ " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ أَثْبَتُ رَأْياً ؟
قَالَ : " مَنْ لَمْ يَغُرَّهُ النَّاسُ مِنْ نَفْسِهِ ، وَ مَنْ لَمْ تَغُرَّهُ الدُّنْيَا بِتَشَوُّفِهَا " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ أَحْمَقُ ؟
قَالَ : " الْمُغْتَرُّ بِالدُّنْيَا وَ هُوَ يَرَى مَا فِيهَا مِنْ تَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ حَسْرَةً ؟
قَالَ : " الَّذِي حُرِمَ الدُّنْيَا وَ الْآخِرَةَ ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْخَلْقِ أَعْمَى ؟
قَالَ : " الَّذِي عَمِلَ لِغَيْرِ اللَّهِ يَطْلُبُ بِعَمَلِهِ الثَّوَابَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْقُنُوعِ أَفْضَلُ ؟
قَالَ : " الْقَانِعُ بِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَ جَلَّ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْمَصَائِبِ أَشَدُّ ؟
قَالَ : " الْمُصِيبَةُ بِالدِّينِ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ؟
قَالَ : " انْتِظَارُ الْفَرَجِ " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ عِنْدَ اللَّهِ ؟
قَالَ : " أَخْوَفُهُمْ لِلَّهِ ، وَ أَعْمَلُهُمْ بِالتَّقْوَى ، وَ أَزْهَدُهُمْ فِي الدُّنْيَا " .
قَالَ : فَأَيُّ الْكَلَامِ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ؟
قَالَ : " كَثْرَةُ ذِكْرِهِ ، وَ التَّضَرُّعُ إِلَيْهِ بِالدُّعَاءِ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْقَوْلِ أَصْدَقُ ؟
قَالَ : " شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " .
قَالَ : فَأَيُّ الْأَعْمَالِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ؟
قَالَ : " التَّسْلِيمُ وَ الْوَرَعُ " .
قَالَ : فَأَيُّ النَّاسِ أَصْدَقُ ؟
قَالَ : " مَنْ صَدَقَ فِي الْمَوَاطِنِ " .
ثُمَّ أَقْبَلَ ( عليه السَّلام ) عَلَى الشَّيْخِ ، فَقَالَ : " يَا شَيْخُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ خَلَقَ خَلْقاً ضَيَّقَ الدُّنْيَا عَلَيْهِمْ ، نَظَراً لَهُمْ ، فَزَهَّدَهُمْ فِيهَا وَ فِي حُطَامِهَا ، فَرَغِبُوا فِي دَارِ السَّلَامِ الَّتِي دَعَاهُمْ إِلَيْهَا ، وَ صَبَرُوا عَلَى ضِيقِ الْمَعِيشَةِ ، وَ صَبَرُوا عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَ اشْتَاقُوا إِلَى مَا عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ مِنَ الْكَرَامَةِ ، فَبَذَلَوا أَنْفُسَهُمُ ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ ، وَ كَانَتْ خَاتِمَةُ أَعْمَالِهِمُ الشَّهَادَةَ ، فَلَقُوا اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ وَ هُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ ، وَ عَلِمُوا أَنَّ الْمَوْتَ سَبِيلُ مَنْ مَضَى وَ مَنْ بَقِيَ ، فَتَزَوَّدُوا لآِخِرَتِهِمْ غَيْرَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ ، وَ لَبِسُوا الْخَشِنَ ، وَ صَبَرُوا عَلَى الْبَلْوَى ، وَ قَدَّمُوا الْفَضْلَ ، وَ أَحَبُّوا فِي اللَّهِ ، وَ أَبْغَضُوا فِي اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ ، أُولَئِكَ الْمَصَابِيحُ وَ أَهْلُ النَّعِيمِ فِي الْآخِرَةِ ، وَ السَّلَامُ " .
قَالَ الشَّيْخُ : فَأَيْنَ أَذْهَبُ وَ أَدَعُ الْجَنَّةَ وَ أَنَا أَرَاهَا وَ أَرَى أَهْلَهَا مَعَكَ ، يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ جَهِّزْنِي بِقُوَّةٍ أَتَقَوَّى بِهَا عَلَى عَدُوِّكَ .
فَأَعْطَاهُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) سِلَاحاً ، وَ حَمَلَهُ ، وَ كَانَ فِي الْحَرْبِ بَيْنَ يَدَيْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) يَضْرِبُ قُدُماً ، وَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) يَعْجَبُ مِمَّا يَصْنَعُ ، فَلَمَّا اشْتَدَّ الْحَرْبُ أَقْدَمَ فَرَسَهُ حَتَّى قُتِلَ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَ أَتْبَعَهُ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) ، فَوَجَدَهُ صَرِيعاً وَ وَجَدَ دَابَّتَهُ وَ وَجَدَ سَيْفَهُ فِي ذِرَاعِهِ ، فَلَمَّا انْقَضَتِ الْحَرْبُ أَتَى أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) بِدَابَّتِهِ وَ سِلَاحِهِ ، وَ صَلَّى عَلَيْهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ ( عليه السَّلام ) ، وَ قَالَ : " هَذَا وَ اللَّهِ السَّعِيدُ حَقّاً ، فَتَرَحَّمُوا عَلَى أَخِيكُمْ " [2].
[1] أي الإمام موسى بن جعفر الكاظم ( عليه السَّلام ) ، سابع أئمة أهل البيت ( عليهم السلام ) .
[2] من لا يحضره الفقيه : 4 / 381 ، للشيخ أبي جعفر محمد بن علي بن حسين بن بابويه القمي المعروف بالشيخ الصدوق ، المولود سنة : 305 هجرية بقم ، و المتوفى سنة : 381 هجرية ، طبعة انتشارات إسلامي التابعة لجماعة المدرسين ، الطبعة الثالثة ، سنة : 1413 هجرية ، قم / إيران .
تعليق