بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد
وبعد: حتى نهاية القرن الثامن عشر من الميلاد، بقيت الأمة الإسلامية القمة والقدوة للأمم جمعاء. وكانت مؤهلاتها كثيرة تحفظها في هذا المركز، أهمها مبادئها المتمثلة في القرآن، وتاريخها الضخم من خلال فتوحاتها.
ورغم القرون العديدة التي مضت على ترهل الأمة الإسلامية، إلا أنَّ أحداً من القادة ـ في العالم ـ ما كان يسمح لنفسه بالتفكير في تحدي الأمة الإسلامية، إذ لم يكن في استطاعة أحد أن يقنع نفسه بتخلي اُمة القرآن عن القرآن، أو بعجزها عن الاحتفاظ بأمجادها العظيمة.
أقصى ما كان المفكرون يحاولونه، تقليد المسلمين في مسلكيتهم. وهذا التقليد قادهم إلى دراسة حياة قادة الإسلام، ابتداءً بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاءً بآخر معروف من الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين. فكانت الظاهرة التي تبرز في الساحة هي (الواقعية) التي تطبع حياة الرسول الأكرم بشكل ملفت.
سلاح الواقعية:
وقد استخدم الغرب هذه (الواقعية) في الثورة على خرافات الكنيسة، ابتداءً من (فكرة التثليث) التي تعطل (العقل) وانتهاءً بأخلاقيات الكنيسة التي تعطل (العلم). فأعاد الاعتبار إلى (العقل) و(العلم).
وقد استخدم المسلمون هذه (الواقعية) من استيراد الفلسفات الأجنبية، واحترامها كمدارس علمية تنشط (العقل) و(العلم) ولم يحسنوا هضمها والاستفادة من تجربتها، فابتعدوا بها عن (الدين).
وهكذا..التقى الغربيون والمسلمون على نقطة واحدة هي (الواقعية)، غير إنهم اختلفوا على توظيفها:فوظفها الغربيون في الثورة على الكنيسة، التي كانت عقدة تخلفهم ووظفها المسلمون في الثورة على الإسلام، الذي كان سر تقدمهم. فكانت (حرية العقيدة) ـ التي هي من الأفكار الإسلامية ـ علة ارتفاع الغربيين إلى القمة، وانحدار المسلمين منها.
وهكذا..عرف الغربيون شيئاً من الإسلام فتقدموا به، وعرف المسلمون شيئاً من الإسلام فتأخروا به.
لقد عرف الغربيون الإسلام متأخراً، ولكنهم عرفوه أخيراً. وعرف المسلمون الإسلام مبكراً، ولكنهم ألحدوا به أخيراً. فكان من الطبيعي أن تنقل المعادلة.
إن كان من المؤسف أن الغرب عجز عن الأخذ بالإسلام ككل، تحت ضغط الكنيسة التي تلقت ضربات الحرية بمرونة كبيرة، فلم تلبث أن لملمت أنقاضها بسرعة، واستعادة هيبتها وسيطرتها، بإعادة تحالفها مع القوى السياسية الحاكمة، إن لم تكن بشكلها السابق كقوة قائدة، فبشكلها المعاصر كقوة معاصرة في مجرى الأحداث.
ولو استطاع الغرب أن يتخلص من الكنيسة تماماً، ويأخذ بالإسلام ككل ـ كما كان يحلم به بعض المفكرين ـ لأنقذ العالم من ويلاته المعاصرة، وقاده الى السعادة المثالية كما قاده المسلمون من قبل، ولأخذ دور المسلمين بجدارة. ولكن صعقة قادة الكنيسة تحت ضربات الحرية، ومخاوفهم التاريخية من الإسلام، أدتا الى وقوفهم ـ بحزم ضد تيار الفكر الإسلامي. فأسفرت الثورة ضد الكنيسة، عن مقايضة من ثلاثة بنود هي:
1ـ تخلى الكنيسة عن احتكار العلم ومحاربه العلماء
2ـ خروج الكنيسة عن الساحة السياسية كقوة قائدة.
3ـ بقاء المسيحية ديانة رسمية، وبقاء الكنيسة ممثلها الشرعي الوحيد.
نداءٌ إلى الغرب:
واليوم، وقد انجلى دخان المعركة، واطمأن كل فريق إلى موقعة، نستطيع أن نوجه ندائنا إلى الغرب:ـ
(إن الإسلام ليس ديننا ـ نحن المسلمين ـ فقط، وإنما هو دين الله على الأرض، فليس أحد أولى به من أحد إلا بمدى التمسك به.
ونحن المسلمين اليوم تخلينا عنه واقعياً ـ وإن بقينا متمسكن به رسمياً ـ فتبنوه أنتم اليوم، لا لمجرد كونه ديناً سماوياً صحيحاً، وإنما لكونه قادراً على إنقاذ العالم من مآسيه أيضاً) .
وهذا.. نداء أطلق للتاريخ وللحق، وإلا فإن المسلمين يخسرون الكثير إذا أخذ الغرب بالإسلام ونجح في إنقاذ العالم، بعد أن تركه المسلمون رغم تجربتهم التاريخية العظيمة.
العقل والعلم لا يكفيان:
إن الغرب ـ اليوم ـ ليس مستعمراً لدول عظمى تحجب عنه حرية الديانة، ولكنه مكبل ـ من داخله ـ بالكنيسة التي تمنعه من الإسلام.
والديانة المسيحية، الموجودة اليوم، ليست قادرة على هدايته إلى السعادة.
والمسلمون ـ اليوم ـ مستعمرون ثقافياً واقتصادياً، فليسوا قادرين على العودة إلى الإسلام، الذي هو قادر على هدايتهم وهداية العالم ـ من ورائهم ـ إلى السعادة ولذلك: بقي العالم ـ بشقيهم الغربي والإسلامي ـ متمسكاً بما هو متاح له، وكل ما هو متاح يتمثل في أمرين لا ثالث لهما، وهما: (العقل) و (العلم).
وقد حرك المفكرون عقولهم ما وسعهم تحريكه، وأرخص العلماء التضحيات ـ ما وسعهم التضحية ـ في سبيل المزيد من العلم، ولا زالوا يواصلون التضحيات، ولكنهم لم يستطيعوا تأمين حاجات البشرية حتى اليوم، ولا توجد في الأفق بوادر تؤمل بإمكان ذلك في وقت قريب ـ على الأقل ـ .
كل ما يستطيع (العقل) و(العلم) أن يقدماه للبشرية، يتلخص في تأمين (الخدمات) لها بشكل أفضل، من: تحسين وسائل المواصلات، ومكننة الزراعة، وتصنيع البلاد، وتسخير المزيد من طاقات الأرض والجو لخدمة الإنسان... بعبارة واحدة: (ترفيه حياته المادية).
وهذا.. ما يشك في كونه خدمة حقيقة لإنسان، لأن الرفاه المادي أدى إلى ضعف بنيته الجسدية.
وإذا استفتينا مليون مفكر:
(هل الإنسان القوي غير المرفه أفضل أو المرفه الضعيف)؟
لم يصوت الجميع إلى جانب الثاني، وربما تحيزت الأكثرية إلى جانب الأول وإن كان من الصعب على المرفهين أن يتركوا الرفاه، لأنهم ـ بعد أن ضعفوا بالرفاه ـ يعجزون عن ممارسة الحياة بدونه.
وكل ما قدمه (العقل) و(العلم) لتأمين السعادة للإنسان، هو نبش الأجداث القديمة عن (الديمقراطية).
وإذا استفتينا ألف مفكر: (هل الديمقراطية ـ كنظام للدنيا ـ أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة. فإن نسبة عالية منهم تصوت إلى جانب الديكتاتورية الملتزمة وتستشهد بأن الديكتاتورية باسم الثورة أو في ظل ديمقراطية شكلية مع العلم بأننا لو استفتيناهم بالصيغة التالية:
ـ (هل الديمقراطية أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة)؟
فسيختارون الديمقراطية، خوفاً من الديكتاتورية أن لا تبقى ملتزمة.
إذن: فتجارب القرنين الأخيرين، تدل ـ بوضوح ـ على أن (العقل) و(العلم) لا يستطيعان تأمين حاجات الإنسان، فلا بد أن يدخل الساحة عنصر آخر يكمل هذين العنصرين.
يقول اينشتاين: «إن العلم يدلنا على ما هو موجود، ولكن الدين ـ وحده ـ هو الذي يدلنا على ما ينبغي أن يكون».
ويقول بوسوئه: «إن الناس يزعمون أن السعادة هي الوصول إلى الآمال، فيما السعادة ليست الوصول إلى الآمال إن الركن الأهم للسعادة هو أن يعلم الإنسان ـ أولاً ـ ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى؟
فإذا عرف ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى، فإن الوصول إليه سعادة وأما إذا لم يسطع أن يحدد مصلحته، وإن يسيطر على نفسه، فإن كثيراً مما يتمناه خاسر وخطير».
إن تجارب القرنين الأخيرين، تثبت أن المفاسد والجرائم والأمراض النفسية والجسدية، وسائر مظاهر الشقاء؛ ترتفع في خط متواز مع ارتفاع خط مظاهر التقدم العلمي وهذا... ما أدى إلى يأس المفكرين من (العقل) و(العلم) أن يؤمنا شيئاً من سعادة الإنسان، فأخذوا يزجون إلى الرأي العام مئات الكتب والمقالات معلنين حاجة الإنسان إلى السماء وإن كانوا لا يجدون نبرات السماء في المذاهب والأديان المطروحة عليهم، ولا يجرأون على التحدث باسم الاسلام، فإنهم يحاولون الإيحاء به ولكنا قد نجد الجرأة لدى بعضهم على الحديث باسم الاسلام، مثل برنارد شو حيث يقول:
«في رأيي: إن رجلاً: مثل محمد ـ لو ملك زمام الدنيا الجديدة، لعالج مشاكلها بشكل يؤمن السعادة المنشودة».
ويضيف: «في رأيي: أن الإسلام هو المذهب الوحيد، الذي يملك القدرة على السيطرة على المتغيرات الحياتية، مواجهة القرون المختلفة».
ولكن مثل هذا الرأي، يضيع بين ضجيج الآلة وصخب المصالح الكبرى، التي لا تتردد لحظة في تعريض العالم كله للدمار، إذا هددها بشكل من الأشكال.
الملجأ الوحيد:
ومهما يكن موقف العالم السياسي، ومصالحها الكبرى، لا ملجأ للعالم ـ من الدوامة الرهيبة التي يدور فيها منذ قرنين ـ غير الالتجاء إلى الدين الصحيح، المنزه من ضباب التقاليد والعادات، والأفكار التجارية التي يروجها سماسرة الأديان وسدنة المعابد.
ومن حسن الحظ، أننا نجد مثل هذا الدين في القرآن الذي حفظه الله من الدس والتحريف، فبقي ـ على أصالته وصفاءه ـ فأدرا على كشف الزيف، وإنارة الطريق، كما قال هو عن نفسه:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...).
وكما قال عنه الرسول الأعظم:
«... فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن... وهو الدليل يدل على خير سبيل».
إنه.. الملجأ الوحيد وإذا تغافله الغربيون ـ اليوم ـ مهما كانت المبررات، وإذا اكتفى المسلمون ـ اليوم ـ بتلاوته وبلاغته، أو تفسيره وتأويله في أفضل الحالات؛ فإنه لن يكسد ولن يبور، وستتجه إليه الدنيا ـ غداً ـ تحت ضغط مشاكلها المتصاعدة، لأنه الملجأ الوحيد.
القرآن ليس معجزة واحدة فحسب، وإنما هو (موسوعة معجزات): فاجتماعياته معجزة للأخلاقيين وعسكرياته معجزة للعسكريين، واقتصادياته معجزة للاقتصاديين، وتربوياته معجزة للتربويين ولكل إختصاصي معجزة في اختصاصه، فهو يفهم جانب اختصاصه أكثر من بقية جوانبه.
بل: إن القرآن معجزة لكل إنسان، في الجانب المنسجم مع أوليات ذلك الإنسان فهو معاجز بعدد الخلائق أو ليست (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)؟! فهو معجزة للناس أجمعين
اللهم صل على محمد وال محمد
وبعد: حتى نهاية القرن الثامن عشر من الميلاد، بقيت الأمة الإسلامية القمة والقدوة للأمم جمعاء. وكانت مؤهلاتها كثيرة تحفظها في هذا المركز، أهمها مبادئها المتمثلة في القرآن، وتاريخها الضخم من خلال فتوحاتها.
ورغم القرون العديدة التي مضت على ترهل الأمة الإسلامية، إلا أنَّ أحداً من القادة ـ في العالم ـ ما كان يسمح لنفسه بالتفكير في تحدي الأمة الإسلامية، إذ لم يكن في استطاعة أحد أن يقنع نفسه بتخلي اُمة القرآن عن القرآن، أو بعجزها عن الاحتفاظ بأمجادها العظيمة.
أقصى ما كان المفكرون يحاولونه، تقليد المسلمين في مسلكيتهم. وهذا التقليد قادهم إلى دراسة حياة قادة الإسلام، ابتداءً بالرسول الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم وانتهاءً بآخر معروف من الحكام الأمويين والعباسيين والعثمانيين. فكانت الظاهرة التي تبرز في الساحة هي (الواقعية) التي تطبع حياة الرسول الأكرم بشكل ملفت.
سلاح الواقعية:
وقد استخدم الغرب هذه (الواقعية) في الثورة على خرافات الكنيسة، ابتداءً من (فكرة التثليث) التي تعطل (العقل) وانتهاءً بأخلاقيات الكنيسة التي تعطل (العلم). فأعاد الاعتبار إلى (العقل) و(العلم).
وقد استخدم المسلمون هذه (الواقعية) من استيراد الفلسفات الأجنبية، واحترامها كمدارس علمية تنشط (العقل) و(العلم) ولم يحسنوا هضمها والاستفادة من تجربتها، فابتعدوا بها عن (الدين).
وهكذا..التقى الغربيون والمسلمون على نقطة واحدة هي (الواقعية)، غير إنهم اختلفوا على توظيفها:فوظفها الغربيون في الثورة على الكنيسة، التي كانت عقدة تخلفهم ووظفها المسلمون في الثورة على الإسلام، الذي كان سر تقدمهم. فكانت (حرية العقيدة) ـ التي هي من الأفكار الإسلامية ـ علة ارتفاع الغربيين إلى القمة، وانحدار المسلمين منها.
وهكذا..عرف الغربيون شيئاً من الإسلام فتقدموا به، وعرف المسلمون شيئاً من الإسلام فتأخروا به.
لقد عرف الغربيون الإسلام متأخراً، ولكنهم عرفوه أخيراً. وعرف المسلمون الإسلام مبكراً، ولكنهم ألحدوا به أخيراً. فكان من الطبيعي أن تنقل المعادلة.
إن كان من المؤسف أن الغرب عجز عن الأخذ بالإسلام ككل، تحت ضغط الكنيسة التي تلقت ضربات الحرية بمرونة كبيرة، فلم تلبث أن لملمت أنقاضها بسرعة، واستعادة هيبتها وسيطرتها، بإعادة تحالفها مع القوى السياسية الحاكمة، إن لم تكن بشكلها السابق كقوة قائدة، فبشكلها المعاصر كقوة معاصرة في مجرى الأحداث.
ولو استطاع الغرب أن يتخلص من الكنيسة تماماً، ويأخذ بالإسلام ككل ـ كما كان يحلم به بعض المفكرين ـ لأنقذ العالم من ويلاته المعاصرة، وقاده الى السعادة المثالية كما قاده المسلمون من قبل، ولأخذ دور المسلمين بجدارة. ولكن صعقة قادة الكنيسة تحت ضربات الحرية، ومخاوفهم التاريخية من الإسلام، أدتا الى وقوفهم ـ بحزم ضد تيار الفكر الإسلامي. فأسفرت الثورة ضد الكنيسة، عن مقايضة من ثلاثة بنود هي:
1ـ تخلى الكنيسة عن احتكار العلم ومحاربه العلماء
2ـ خروج الكنيسة عن الساحة السياسية كقوة قائدة.
3ـ بقاء المسيحية ديانة رسمية، وبقاء الكنيسة ممثلها الشرعي الوحيد.
نداءٌ إلى الغرب:
واليوم، وقد انجلى دخان المعركة، واطمأن كل فريق إلى موقعة، نستطيع أن نوجه ندائنا إلى الغرب:ـ
(إن الإسلام ليس ديننا ـ نحن المسلمين ـ فقط، وإنما هو دين الله على الأرض، فليس أحد أولى به من أحد إلا بمدى التمسك به.
ونحن المسلمين اليوم تخلينا عنه واقعياً ـ وإن بقينا متمسكن به رسمياً ـ فتبنوه أنتم اليوم، لا لمجرد كونه ديناً سماوياً صحيحاً، وإنما لكونه قادراً على إنقاذ العالم من مآسيه أيضاً) .
وهذا.. نداء أطلق للتاريخ وللحق، وإلا فإن المسلمين يخسرون الكثير إذا أخذ الغرب بالإسلام ونجح في إنقاذ العالم، بعد أن تركه المسلمون رغم تجربتهم التاريخية العظيمة.
العقل والعلم لا يكفيان:
إن الغرب ـ اليوم ـ ليس مستعمراً لدول عظمى تحجب عنه حرية الديانة، ولكنه مكبل ـ من داخله ـ بالكنيسة التي تمنعه من الإسلام.
والديانة المسيحية، الموجودة اليوم، ليست قادرة على هدايته إلى السعادة.
والمسلمون ـ اليوم ـ مستعمرون ثقافياً واقتصادياً، فليسوا قادرين على العودة إلى الإسلام، الذي هو قادر على هدايتهم وهداية العالم ـ من ورائهم ـ إلى السعادة ولذلك: بقي العالم ـ بشقيهم الغربي والإسلامي ـ متمسكاً بما هو متاح له، وكل ما هو متاح يتمثل في أمرين لا ثالث لهما، وهما: (العقل) و (العلم).
وقد حرك المفكرون عقولهم ما وسعهم تحريكه، وأرخص العلماء التضحيات ـ ما وسعهم التضحية ـ في سبيل المزيد من العلم، ولا زالوا يواصلون التضحيات، ولكنهم لم يستطيعوا تأمين حاجات البشرية حتى اليوم، ولا توجد في الأفق بوادر تؤمل بإمكان ذلك في وقت قريب ـ على الأقل ـ .
كل ما يستطيع (العقل) و(العلم) أن يقدماه للبشرية، يتلخص في تأمين (الخدمات) لها بشكل أفضل، من: تحسين وسائل المواصلات، ومكننة الزراعة، وتصنيع البلاد، وتسخير المزيد من طاقات الأرض والجو لخدمة الإنسان... بعبارة واحدة: (ترفيه حياته المادية).
وهذا.. ما يشك في كونه خدمة حقيقة لإنسان، لأن الرفاه المادي أدى إلى ضعف بنيته الجسدية.
وإذا استفتينا مليون مفكر:
(هل الإنسان القوي غير المرفه أفضل أو المرفه الضعيف)؟
لم يصوت الجميع إلى جانب الثاني، وربما تحيزت الأكثرية إلى جانب الأول وإن كان من الصعب على المرفهين أن يتركوا الرفاه، لأنهم ـ بعد أن ضعفوا بالرفاه ـ يعجزون عن ممارسة الحياة بدونه.
وكل ما قدمه (العقل) و(العلم) لتأمين السعادة للإنسان، هو نبش الأجداث القديمة عن (الديمقراطية).
وإذا استفتينا ألف مفكر: (هل الديمقراطية ـ كنظام للدنيا ـ أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة. فإن نسبة عالية منهم تصوت إلى جانب الديكتاتورية الملتزمة وتستشهد بأن الديكتاتورية باسم الثورة أو في ظل ديمقراطية شكلية مع العلم بأننا لو استفتيناهم بالصيغة التالية:
ـ (هل الديمقراطية أفضل أو الديكتاتورية الملتزمة)؟
فسيختارون الديمقراطية، خوفاً من الديكتاتورية أن لا تبقى ملتزمة.
إذن: فتجارب القرنين الأخيرين، تدل ـ بوضوح ـ على أن (العقل) و(العلم) لا يستطيعان تأمين حاجات الإنسان، فلا بد أن يدخل الساحة عنصر آخر يكمل هذين العنصرين.
يقول اينشتاين: «إن العلم يدلنا على ما هو موجود، ولكن الدين ـ وحده ـ هو الذي يدلنا على ما ينبغي أن يكون».
ويقول بوسوئه: «إن الناس يزعمون أن السعادة هي الوصول إلى الآمال، فيما السعادة ليست الوصول إلى الآمال إن الركن الأهم للسعادة هو أن يعلم الإنسان ـ أولاً ـ ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى؟
فإذا عرف ماذا ينبغي أن يريد وأن يتمنى، فإن الوصول إليه سعادة وأما إذا لم يسطع أن يحدد مصلحته، وإن يسيطر على نفسه، فإن كثيراً مما يتمناه خاسر وخطير».
إن تجارب القرنين الأخيرين، تثبت أن المفاسد والجرائم والأمراض النفسية والجسدية، وسائر مظاهر الشقاء؛ ترتفع في خط متواز مع ارتفاع خط مظاهر التقدم العلمي وهذا... ما أدى إلى يأس المفكرين من (العقل) و(العلم) أن يؤمنا شيئاً من سعادة الإنسان، فأخذوا يزجون إلى الرأي العام مئات الكتب والمقالات معلنين حاجة الإنسان إلى السماء وإن كانوا لا يجدون نبرات السماء في المذاهب والأديان المطروحة عليهم، ولا يجرأون على التحدث باسم الاسلام، فإنهم يحاولون الإيحاء به ولكنا قد نجد الجرأة لدى بعضهم على الحديث باسم الاسلام، مثل برنارد شو حيث يقول:
«في رأيي: إن رجلاً: مثل محمد ـ لو ملك زمام الدنيا الجديدة، لعالج مشاكلها بشكل يؤمن السعادة المنشودة».
ويضيف: «في رأيي: أن الإسلام هو المذهب الوحيد، الذي يملك القدرة على السيطرة على المتغيرات الحياتية، مواجهة القرون المختلفة».
ولكن مثل هذا الرأي، يضيع بين ضجيج الآلة وصخب المصالح الكبرى، التي لا تتردد لحظة في تعريض العالم كله للدمار، إذا هددها بشكل من الأشكال.
الملجأ الوحيد:
ومهما يكن موقف العالم السياسي، ومصالحها الكبرى، لا ملجأ للعالم ـ من الدوامة الرهيبة التي يدور فيها منذ قرنين ـ غير الالتجاء إلى الدين الصحيح، المنزه من ضباب التقاليد والعادات، والأفكار التجارية التي يروجها سماسرة الأديان وسدنة المعابد.
ومن حسن الحظ، أننا نجد مثل هذا الدين في القرآن الذي حفظه الله من الدس والتحريف، فبقي ـ على أصالته وصفاءه ـ فأدرا على كشف الزيف، وإنارة الطريق، كما قال هو عن نفسه:
(إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم...).
وكما قال عنه الرسول الأعظم:
«... فإذا التبست عليكم الفتن كقطع الليل المظلم، فعليكم بالقرآن... وهو الدليل يدل على خير سبيل».
إنه.. الملجأ الوحيد وإذا تغافله الغربيون ـ اليوم ـ مهما كانت المبررات، وإذا اكتفى المسلمون ـ اليوم ـ بتلاوته وبلاغته، أو تفسيره وتأويله في أفضل الحالات؛ فإنه لن يكسد ولن يبور، وستتجه إليه الدنيا ـ غداً ـ تحت ضغط مشاكلها المتصاعدة، لأنه الملجأ الوحيد.
القرآن ليس معجزة واحدة فحسب، وإنما هو (موسوعة معجزات): فاجتماعياته معجزة للأخلاقيين وعسكرياته معجزة للعسكريين، واقتصادياته معجزة للاقتصاديين، وتربوياته معجزة للتربويين ولكل إختصاصي معجزة في اختصاصه، فهو يفهم جانب اختصاصه أكثر من بقية جوانبه.
بل: إن القرآن معجزة لكل إنسان، في الجانب المنسجم مع أوليات ذلك الإنسان فهو معاجز بعدد الخلائق أو ليست (الطرق إلى الله بعدد أنفاس الخلائق)؟! فهو معجزة للناس أجمعين
تعليق