قواعد التعويض الالهي
إن رب العالمين في عالم العرش كُل شيءٍ عندهُ بمقدار، يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.. هذهِ الورقة اليابسة ما قيمتها؟.. ولكن هذهِ الورقة لها ملفٌ في العَرش: متى تيبس، ومتى تسقط، وبأي بسرعة، وفي أي مكانٍ، وعلى أي وجه، ومن سيأكلها!.. فإذن، هناك ملف كبير لكل ورقةٍ، تسقط من شجرةٍ في غابةٍ من غابات الأرض؛ فكيفَ بالإنسان، وكيفَ بالمؤمن؟!.. حيث أن ربّ العالمين لهُ عناية بالمؤمنين في مقابل عنايتهِ بالوجود، فالمجرات والذرات في كفة، والمؤمن في كفة!..
مبدأ التعويض الإلهي..
إن هذهِ الدُنيا دارُ بلاء، محفوفةٌ بالمكاره.. يقول علي -عليه السلام-: (دارٌ بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة.. لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها.. أحوالٌ مختلفة، وتارات متصرّفة.. العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم.. وإنما أهلها فيها أغراض مُستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها).. ولهذا أبناءُ المُترفين الذينَ يعيشونَ بينَ الحريرِ والديباج؛ هؤلاء عندما يكبرونَ في المجتمع، يصبحون كالأواني الزجاجية الرقيقة، فأول صدمةٍ تكسرهم.. ومن هنا نجد أن المبدعين والمتفوقين هذهِ الأيام غالباً ما يكونون من البيئة المتوسطة؛ لأن الفَقر أيضاً مُشغل، وقد ورد في الحديث: (وكادَ الفقرُ أنْ يكونَ كُفراً)!.. وعليه، فإن خير الأمور أوسطها!.. والبلاء أمرٌ محتوم، فالأنبياء على عظمتهم ابتلوا: فموسى -عليهِ السلام- اُبتليَ بطاغية كفرعون، وفرعون أبتُليَ بموسى -عليهِ السلام- حيث دعا عليه، وكانَ سبباً في غرقه، عندما ضربَ عصاهُ في البحر؛ فانفلقَ البحر، ونجا موسى، وأهلكَ فرعون، فلولا موسى لما غَرقَ فرعون!.. والبلاء هو خلاف المزاج، فالبعض لعله لا يمر عليه يوم إلا وتأتيه مُصيبة، والبعضُ كُل أسبوعٍ له بلاء، والبعضُ الآخر كُلُ شهر.. والله العالم!.. ليس هناك مخلوق منذُ آدم -عليه السلام- إلى يومنا، ما وجَدَ حُزناً أو مكروهاً، على الأقل في السنةِ مرة واحدة!..
إن البعض يطلب من الله -سبحانه وتعالى- أن لا يبتليه بشيء، ويرزقه الذرية الطيبة، والزوجة المُطيعة، والمال الوفير، والمنصب الاجتماعي المرموق، وأن يكون من العباد الصالحين.. ولكن هذهِ أُمنية لا يجدُها في الدُنيا، بل عليهِ أن ينتظر قليلاً ليدخل الجَنة، هُناك ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، هُناكَ دارُ السرور، حيث يقول المؤمنون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾.. وأما الدُنيا: فعن النبي (ص) أنه قال: (الناس يطلبون الراحة في الدنيا، وقد جعلتها في الآخرة).. هُنا يأتي مبدأُ التعويض، فرب العالمين لا يبتلي الإنسان ببليةٍ إلا وهُناكَ تعويض!.. ولكن هذا التعويض لهُ قوانين، ولهُ شروط.. فالتعويض لا يكون إلا للمؤمنين الصابرين حقاً، ومن علامات الإيمان الصحيح: التوكل على الله، والتفويض لله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله.. إن كانت هذه الصفات تنطبق على الإنسان المبتلى؛ فإن رَب العالمين يعوّضه خيراً!..
قواعد التعويض..
أولاً: التعويض بحكمة.. إن التعويض الإلهي لهُ قواعد، ولا يكونُ جُزافاً.. فرب العالمين لا يعوّض الإنسان، إلا عندما يُقدم لهُ قُرباناً، يقولُ تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.. كي تُفهم الآية جيداً، نضيف لها جملة -هذهِ الجملة خارج الآية؛ ولكن نفهمها من مقاصد الشريعة-: "أنَ اللهُ يرزقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ في حساب"؛ أي أن رب العالمين يعوّضُ بغيرِ حساب؛ ولكن معَ وجود الأرضية: فالبلاء مع الصبر؛ يساوي التعويض.. ويا لهُ من تعويض!.. ومثاله:
- إبراهيم الخليل (ع): ما المانع أن يجعل رب العالمين، جدَ النبي الأكرم (ص) من نبيٍّ غير النبي إبراهيم -عليه السلام-، فالأنبياء كُثر؛ لماذا اختارَ اللهُ -عزَ وجل- إبراهيمَ الخليل، ليكون جداً للمصطفى محمد (ص)؟.. هُنالكَ أمورٌ في عالم العرش لا نعلمها، ولكنّ هناك احتمالاً قوياً: أنّهُ بسبب تضحيته بولده؛ فهذا العمل الذي قامَ بهِ إبراهيم -عليهِ السلام- عمل عظيم!.. لذا، عوّضهُ رب العالمين خيراً، بأن جعلهُ على رأسِ سلسلةٍ من الأنبياء، والأئمة -عليهم السلام-.. إذ يكفي أن يأتي يوم القيامة، ليفتخر بهذهِ الكَثرة الكاثرة من الذُرية الطاهرة!..
ثانياً: التعويض بغير حساب.. أي أن التعويض لا ينسجم معَ العمل، بل هُناكَ أضعافٌ مضاعفة!.. فالإنسان محدود، لذا يقوم بعملٍّ محدود.. أما اللهُ -سبحانهُ وتعالى- فهو اللامحدود؛ لذا فإن عطاءهُ غير محدود.. مثلاً: عندما يقوم الإنسان بعملٍ بسيطٍ في الدُنيا؛ يُعطى شجرة في الجنة، هذهِ الشجرة تبقى مليارات السنين وهي تؤتي أُكٌلها!.. فإذن، عطاء رَب العالمين لا يتناسب أبداً معَ ما قام به الإنسان!.. وهذا إغراءٌ لمن أرادَ أن يكونَ منَ المقاومين، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾.. ومن الأمثلة على التعويض بغير حساب:
- إسماعيل (ع): إن إسماعيل -عليه السلام- عطشَ لسويعات، ولكن أنظروا إلى مبدأ التعويض اللانهائي الأبدي!.. فعن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له).. أنظروا إلى البيت الحرام!.. عندما يطوف الإنسان حول الكعبة، يجب أن لا يدخل في حجر إسماعيل؛ احتراماً للذين دفنوا في هذا المكان، فلا يطأهم بقدميه.. ولو لم يكن هذا الحِجر؛ لكانَ الطواف أكثر انسيابيةً وتوازناً، عبارة عن حركة دائرية متساوية الأبعاد!..
فإذن، هذا هو الرب، الرب لا علاقةَ لهُ بأحد، رَبٌ غنيٌ ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾.. والذي يعرف أن رب العالمين بهذه الصفة؛ فإنه من الطبيعي أن يتحمل، وأن يُقدّم في سبيله ما يُقدّم.. بعض المؤمنين عندما تتوالى عليه النعم، والعافية؛ عافية: المالِ، والبدنِ، والأولاد، وغيره؛ فإنه يبكي بينَ يدي اللهِ -عزَ وجل- قائلاً: يا رب!.. ما أتحفتني ببلاءٍ يُذكرني بك!.. وبعض المؤمنين عندما يبتلى بمرض، يفرح في قرارة نفسهِ؛ ولهذا البعضُ منهم لا يُبادر إلى الطبيب في البداية.. وهُناكَ أمر في الروايات (لا تضطجع ما استطعت القيام مع العلة).. ولهذا فإن بعض المؤمنين لا يستعمل المسكنات، ويترك الألم إلى أن يذهب من تلقاءِ نفسه!..
ثالثاً: التعويض لا يترتبُ مباشرةً على العمل.. إن البعض لهُ عجلة، يدعو ويطلب الاستجابة فوراً: فإن مرض، يُريدُ شيئاً عاجلاً!.. وإن صلى صلاة الليل؛ يريد نوراً.. بينما الذي يُريد التعويض عليهِ أن لا يستعجل، فلو أنّ كُلَ إنسان صلى ليلاً؛ أضاءَ وجههُ نهاراً.. ولو أنّ كُلَ إنسان أنفقَ درهماً، في اليوم اللاحق كسبَ درهمين؛ لصار الناس أمةً واحدة، والكُل زُهادٌ وعُباد؛ ولكن البناء هو على الاختبار.. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
1. دعاء موسى (ع): عندما ذَهبَ موسى -عليه السلام- لهدايةِ فرعون قال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾.. رب العالمين وعدَ موسى -عليه السلام- باستجابة الدعوة، ولكن لم تستجب إلا بعد أربعين سنة.. قال الباقر -عليه السلام-: (أملى الله -عز وجل- لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة، ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى.. وكان بين أن قال الله -عز وجل- لموسى وهارون: ﴿قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾، وبين أن عرّفه الله الإجابة أربعين سنة..).
2. دعاء الإمام الحُسين (ع): إن الإمام الحسين -عليه السلام- دعا على الذينَ قتلوه قائلاً: (اللهم!.. إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً.. فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدو علينا يقاتلونا)!.. ولكن هذه الدعوة ما أجيبت لا في السنة الأولى ولا في الثانية؛ إنما بعد خمس سنين!..
3. فتح مكة: إن المسلمين يوم صُلح الحُديبية وعدوا بدخول مكة، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾؛ ولكن رَب العالمين أخّرَ ذلك.. فتم الفتح بعد سنتين من الوعد، ولو شاءَ الله -عز وجل- لفتحَ مكة في سنة الوعد.
رابعاً: التعويض في الآخرة.. إن التعويض يأتي، ولكن يجب الصبر.. وهذا التعويض، قد لا يكونُ في الدُنيا أبداً!.. بعض الناس طوال حياته يدعو بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾!.. فيموت ولا يرى له ذرية؛ لأن رَب العالمين قضى أن يكونَ عقيماً ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.. ولكن بعض هؤلاء الذينَ لا ذرية لهم، رَب العالمين أجرى على أيديهم الصدقات الجارية.. وما الذي يريده الإنسان منَ الولد، غير ما ورد في الحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. فقد يُرزق الإنسان بذرية كبيرة، ولكن عندما يموت ينقطع ذكره: فلا صدقة جارية له، ولا ولد صالح يدعو له.. وهذا الذي حُرم الذرية؛ يبقى ذِكرهُ مُخلداً!.. فإذن، الإنسان عليه الدعاء، والله -عزَ وجل- يعوّضه بالطريقة التي يراها مناسبة!..
الإمام السجاد -عليه السلام-..
أولاً: سلوكه مع الفقراء.. إن الإمام زين العابدين -عليهِ السلام- هو عندَ البعض مظهر: البكاء والحُزن، وهو العليل والأسير!.. هذا كلهُ صحيح؛ ولكن أيضاً له صفات أخرى، يقول الإمام الباقر -عليه السلام-: (... وكان -عليه السلام- ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يُناول من يخرج إليه.. وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً؛ لئلا يعرفه.. فلما توفي -عليه السلام- فقدوا ذلك؛ فعلموا أنه كان علي بن الحسين -عليه السلام-.. ولما وُضع -عليه السلام- على المغتسل، نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل، مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين...).. تصوّروا الإمام زين العابدين، وقُرة عين الساجدين، هذا الوجه البهي، تركة الحُسين -عليهِ السلام-، ووارث مصائب عاشوراء، والحطبُ على ظهره!.. إمام معصوم، لحظات عمرهِ تساوي أعمارنا جميعاً!.. فهو صاحب المناجيات الخمس عشرة، ودعاء أبي حمزة، وغيره.. وإذا بهِ يُمضي قسماً من ليله بهذه الكيفية؛ لأنه لو كان الأمر فقط لليلة أو ليلتين، أو في السنة مرة واحدة فقط؛ لما تَركَ هذا الأثر على بدنه الشريف!..
ثانياً: سلوكه في الحياة.. ولقد سئلت عنه مولاة له، فقالت: أأطنب أم أختصر؟.. فقيل لها: بل اختصري!.. فقالت: "ما أتيته بطعام في نهار قط، وما فرشت له فراشاً بليل قط".. هذه هي سيرتهُ في الحياة!.. فذُرية النبي (ص)، هؤلاء هذا ديدنهم: الصيام المستمر، والقيام المتصل.
ثالثاً: صلاته.. إن الذينَ كانوا ينظرون إلى الإمام وقت الصلاة، كانوا يصفونهُ بوصفين: تغير اللون، والثبات كأنّهُ ساقُ شجرة (كان علي بن الحسين -عليه السلام- إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة، لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه).. وكان إذا حضر الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، نقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق -عليه السلام- صلاة جدّه الإمام السجاد -عليه السلام- فقال له: "إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة، غشي لونه بلون آخر"، فقال له الإمام الصادق -عليه السلام-: (والله!.. إنّ عليّ بن الحسين، كان يعرف الذي يقوم بين يديه...).
فإذن، هكذا يجب أن يكون المؤمن: إذا صلى كأنّهُ ساقُ شجرة، وإذا كُشفَ عن ظهرهِ عليهِ آثارُ حمل الحَطبِ والطعام للفقراء؛ هذا هو التوازن!.. لا من الذين صاروا منَ الصوفية، وذهبوا للصوامع.. ولا من الذين احترفوا العمل السياسي، وتركوا العبادة، والقيام، والتوجه، والمراقبة.. المؤمن يأخذ الطريق الوسط: قيامٌ في الليل، وعَملٌ ونشاطٌ في النهار.. فالذي يقوم الليلَ هكذا، لو يضع يدهُ في أي عمل، وفي أي مشروع، حتى لو في مشروع سياسي؛ هذا الإنسان يُبارك الله -عز وجل- في وجوده؛ يصبح وجودهُ بركة كعيسى -عليهِ السلام- ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾.
رابعاً: أسلوبه في الدعوة.. إن الأئمة -عليهم السلام- لهم أساليب تربوية في تربية القاعدة!.. فبعض الناس يأمر وينهى، ولكن ليس له أسلوب مُهذب، ولا خطاب مُقنع.. عن سفيان بن عيينة قال: "رأى الزهري علي بن الحسين ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وحطب، وهو يمشي فقال له: يا بن رسول الله، ما هذا؟.. قال: (أريد سفراً أعد له زاداً، أحمله إلى موضع حريز)، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله، فقال علي بن الحسين: (لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني).. فانصرفت عنه، فلما كان بعد أيام قلت له: يا بن رسول الله، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً؟!.. قال: (بلى يا زهري، ليس ما ظننته!.. ولكنه الموت، وله كنت أستعد، إنما الاستعداد للموت: تجنب الحرام، وبذل الندى والخير)".. وبعبارة أخرى: الخير معَ الورع، فمن لا ورعَ لهُ، مثلهُ كمثلِ هابيل ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾.. يستفاد من هذه الحركة، رُجحان ابتكار الأساليب في دعوة الناس إلى الله -عزَ وجل-.
خامساً: بكاؤه.. حدّث مولى للسجاد -عليه السلام- أنه برز يوماً إلى الصحراء قال: فتبعتُه فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرة: (لا إله إلا الله حقاً حقاً.. لا إله إلا الله تعبّداً ورقّاً.. لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً)، ثم رفع رأسه من السجود، وإن لحيته ووجهه قد غُمر بالماء من دموع عينيه.. فقلت: يا سيدي!.. أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن تقلّ؟.. فقال لي: (ويحك!.. إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- كان نبيّا ابن نبيّ، كان له اثنا عشر ابنا، فغيّب الله -سبحانه- واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء؛ وابنه حي في دار الدنيا.. وأنا فقدت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي؛ صرعىً مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي)؟.. بعض الموالين لا يشرب الماء، إلا ويقول: سلام الله عليك يا أبا عبد الله!.. فكيفَ بالإمام وهو الذي رأى أباهُ شهيداً عطشاناً!.. وهو الذي عندما دفن جسد أبيه الحسين -عليه السلام- كتب على قبره: (هذا قبر الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتل عطشاناً)!.. كي تبقى عبرة للأجيال!..
الخلاصة:
1. أن ربّ العالمين في عالم العرش كُل شيءٍ عندهُ بمقدار، ولهُ عناية بالمؤمنين في مقابل عنايتهِ بالوجود، فالمجرات والذرات في كفة، والمؤمن في كفة.
2. أن هذهِ الدُنيادارُ بلاء محفوفةٌ بالمكاره، فالبلاء أمرٌ محتوم ، وحتى الأنبياء على عظمتهم ابتلوا.
3. أن رب العالمين لا يبتلي الإنسان ببليةٍ إلا و يعوضّه عنها خيراً؛ولكن هذا التعويض لهُ قوانين وشروط هي: التوكل على الله، والتفويض له، والتسليم لأمره، والرضا بقضائه.
4. أن التعويض الإلهي لا يكونُ جُزافاً، فرب العالمين لا يعوّض الإنسان، إلا عندما يُقدم لهُ قُرباناً.
5. أن التعويض لا ينسجم معَ العمل، فالإنسان محدود لذا يقوم بعملٍّ محدود؛ أما اللهُ -سبحانهُ وتعالى- فهو اللامحدود؛ لذا فإن عطاءهُ غير محدود.
6. أن التعويض يأتي ولكنه لا يترتبُ مباشرةً على العمل، فالبناء هو على الاختبار ، لذا لزم على المؤمن الصبر؛ فهذا التعويض قد لا يكونُ في الدُنيا أبداً!...
7. أن على المؤمن أن يكون كإمامه السجاد عليه السلام: إذا صلى كأنّهُ ساقُ شجرة، وإذا كُشفَ عن ظهرهِ عليهِ آثارُ حمل الحَطبِ والطعام للفقراء؛ فهذا هو التوازن: قيامٌ في الليل، وعَملٌ ونشاطٌ في النهار.
8. أنه من الراجح ابتكار الأساليب في دعوة الناس إلى الله -عزَ وجل- ؛ فالأئمة -عليهم السلام- كانت لهم أساليب تربوية في تربية القاعدة.
شبكة السراج
إن رب العالمين في عالم العرش كُل شيءٍ عندهُ بمقدار، يقول تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.. هذهِ الورقة اليابسة ما قيمتها؟.. ولكن هذهِ الورقة لها ملفٌ في العَرش: متى تيبس، ومتى تسقط، وبأي بسرعة، وفي أي مكانٍ، وعلى أي وجه، ومن سيأكلها!.. فإذن، هناك ملف كبير لكل ورقةٍ، تسقط من شجرةٍ في غابةٍ من غابات الأرض؛ فكيفَ بالإنسان، وكيفَ بالمؤمن؟!.. حيث أن ربّ العالمين لهُ عناية بالمؤمنين في مقابل عنايتهِ بالوجود، فالمجرات والذرات في كفة، والمؤمن في كفة!..
مبدأ التعويض الإلهي..
إن هذهِ الدُنيا دارُ بلاء، محفوفةٌ بالمكاره.. يقول علي -عليه السلام-: (دارٌ بالبلاء محفوفة، وبالغدر معروفة.. لا تدوم أحوالها، ولا يسلم نزّالها.. أحوالٌ مختلفة، وتارات متصرّفة.. العيش فيها مذموم، والأمان منها معدوم.. وإنما أهلها فيها أغراض مُستهدفة، ترميهم بسهامها، وتفنيهم بحمامها).. ولهذا أبناءُ المُترفين الذينَ يعيشونَ بينَ الحريرِ والديباج؛ هؤلاء عندما يكبرونَ في المجتمع، يصبحون كالأواني الزجاجية الرقيقة، فأول صدمةٍ تكسرهم.. ومن هنا نجد أن المبدعين والمتفوقين هذهِ الأيام غالباً ما يكونون من البيئة المتوسطة؛ لأن الفَقر أيضاً مُشغل، وقد ورد في الحديث: (وكادَ الفقرُ أنْ يكونَ كُفراً)!.. وعليه، فإن خير الأمور أوسطها!.. والبلاء أمرٌ محتوم، فالأنبياء على عظمتهم ابتلوا: فموسى -عليهِ السلام- اُبتليَ بطاغية كفرعون، وفرعون أبتُليَ بموسى -عليهِ السلام- حيث دعا عليه، وكانَ سبباً في غرقه، عندما ضربَ عصاهُ في البحر؛ فانفلقَ البحر، ونجا موسى، وأهلكَ فرعون، فلولا موسى لما غَرقَ فرعون!.. والبلاء هو خلاف المزاج، فالبعض لعله لا يمر عليه يوم إلا وتأتيه مُصيبة، والبعضُ كُل أسبوعٍ له بلاء، والبعضُ الآخر كُلُ شهر.. والله العالم!.. ليس هناك مخلوق منذُ آدم -عليه السلام- إلى يومنا، ما وجَدَ حُزناً أو مكروهاً، على الأقل في السنةِ مرة واحدة!..
إن البعض يطلب من الله -سبحانه وتعالى- أن لا يبتليه بشيء، ويرزقه الذرية الطيبة، والزوجة المُطيعة، والمال الوفير، والمنصب الاجتماعي المرموق، وأن يكون من العباد الصالحين.. ولكن هذهِ أُمنية لا يجدُها في الدُنيا، بل عليهِ أن ينتظر قليلاً ليدخل الجَنة، هُناك ﴿لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾، هُناكَ دارُ السرور، حيث يقول المؤمنون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ﴾.. وأما الدُنيا: فعن النبي (ص) أنه قال: (الناس يطلبون الراحة في الدنيا، وقد جعلتها في الآخرة).. هُنا يأتي مبدأُ التعويض، فرب العالمين لا يبتلي الإنسان ببليةٍ إلا وهُناكَ تعويض!.. ولكن هذا التعويض لهُ قوانين، ولهُ شروط.. فالتعويض لا يكون إلا للمؤمنين الصابرين حقاً، ومن علامات الإيمان الصحيح: التوكل على الله، والتفويض لله، والتسليم لأمر الله، والرضا بقضاء الله.. إن كانت هذه الصفات تنطبق على الإنسان المبتلى؛ فإن رَب العالمين يعوّضه خيراً!..
قواعد التعويض..
أولاً: التعويض بحكمة.. إن التعويض الإلهي لهُ قواعد، ولا يكونُ جُزافاً.. فرب العالمين لا يعوّض الإنسان، إلا عندما يُقدم لهُ قُرباناً، يقولُ تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.. كي تُفهم الآية جيداً، نضيف لها جملة -هذهِ الجملة خارج الآية؛ ولكن نفهمها من مقاصد الشريعة-: "أنَ اللهُ يرزقُ من يشاءُ بغيرِ حسابٍ في حساب"؛ أي أن رب العالمين يعوّضُ بغيرِ حساب؛ ولكن معَ وجود الأرضية: فالبلاء مع الصبر؛ يساوي التعويض.. ويا لهُ من تعويض!.. ومثاله:
- إبراهيم الخليل (ع): ما المانع أن يجعل رب العالمين، جدَ النبي الأكرم (ص) من نبيٍّ غير النبي إبراهيم -عليه السلام-، فالأنبياء كُثر؛ لماذا اختارَ اللهُ -عزَ وجل- إبراهيمَ الخليل، ليكون جداً للمصطفى محمد (ص)؟.. هُنالكَ أمورٌ في عالم العرش لا نعلمها، ولكنّ هناك احتمالاً قوياً: أنّهُ بسبب تضحيته بولده؛ فهذا العمل الذي قامَ بهِ إبراهيم -عليهِ السلام- عمل عظيم!.. لذا، عوّضهُ رب العالمين خيراً، بأن جعلهُ على رأسِ سلسلةٍ من الأنبياء، والأئمة -عليهم السلام-.. إذ يكفي أن يأتي يوم القيامة، ليفتخر بهذهِ الكَثرة الكاثرة من الذُرية الطاهرة!..
ثانياً: التعويض بغير حساب.. أي أن التعويض لا ينسجم معَ العمل، بل هُناكَ أضعافٌ مضاعفة!.. فالإنسان محدود، لذا يقوم بعملٍّ محدود.. أما اللهُ -سبحانهُ وتعالى- فهو اللامحدود؛ لذا فإن عطاءهُ غير محدود.. مثلاً: عندما يقوم الإنسان بعملٍ بسيطٍ في الدُنيا؛ يُعطى شجرة في الجنة، هذهِ الشجرة تبقى مليارات السنين وهي تؤتي أُكٌلها!.. فإذن، عطاء رَب العالمين لا يتناسب أبداً معَ ما قام به الإنسان!.. وهذا إغراءٌ لمن أرادَ أن يكونَ منَ المقاومين، ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾.. ومن الأمثلة على التعويض بغير حساب:
- إسماعيل (ع): إن إسماعيل -عليه السلام- عطشَ لسويعات، ولكن أنظروا إلى مبدأ التعويض اللانهائي الأبدي!.. فعن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (ماء زمزم لما شرب له).. أنظروا إلى البيت الحرام!.. عندما يطوف الإنسان حول الكعبة، يجب أن لا يدخل في حجر إسماعيل؛ احتراماً للذين دفنوا في هذا المكان، فلا يطأهم بقدميه.. ولو لم يكن هذا الحِجر؛ لكانَ الطواف أكثر انسيابيةً وتوازناً، عبارة عن حركة دائرية متساوية الأبعاد!..
فإذن، هذا هو الرب، الرب لا علاقةَ لهُ بأحد، رَبٌ غنيٌ ﴿وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ﴾.. والذي يعرف أن رب العالمين بهذه الصفة؛ فإنه من الطبيعي أن يتحمل، وأن يُقدّم في سبيله ما يُقدّم.. بعض المؤمنين عندما تتوالى عليه النعم، والعافية؛ عافية: المالِ، والبدنِ، والأولاد، وغيره؛ فإنه يبكي بينَ يدي اللهِ -عزَ وجل- قائلاً: يا رب!.. ما أتحفتني ببلاءٍ يُذكرني بك!.. وبعض المؤمنين عندما يبتلى بمرض، يفرح في قرارة نفسهِ؛ ولهذا البعضُ منهم لا يُبادر إلى الطبيب في البداية.. وهُناكَ أمر في الروايات (لا تضطجع ما استطعت القيام مع العلة).. ولهذا فإن بعض المؤمنين لا يستعمل المسكنات، ويترك الألم إلى أن يذهب من تلقاءِ نفسه!..
ثالثاً: التعويض لا يترتبُ مباشرةً على العمل.. إن البعض لهُ عجلة، يدعو ويطلب الاستجابة فوراً: فإن مرض، يُريدُ شيئاً عاجلاً!.. وإن صلى صلاة الليل؛ يريد نوراً.. بينما الذي يُريد التعويض عليهِ أن لا يستعجل، فلو أنّ كُلَ إنسان صلى ليلاً؛ أضاءَ وجههُ نهاراً.. ولو أنّ كُلَ إنسان أنفقَ درهماً، في اليوم اللاحق كسبَ درهمين؛ لصار الناس أمةً واحدة، والكُل زُهادٌ وعُباد؛ ولكن البناء هو على الاختبار.. والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
1. دعاء موسى (ع): عندما ذَهبَ موسى -عليه السلام- لهدايةِ فرعون قال: ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ﴾.. رب العالمين وعدَ موسى -عليه السلام- باستجابة الدعوة، ولكن لم تستجب إلا بعد أربعين سنة.. قال الباقر -عليه السلام-: (أملى الله -عز وجل- لفرعون ما بين الكلمتين أربعين سنة، ثم أخذه الله نكال الآخرة والأولى.. وكان بين أن قال الله -عز وجل- لموسى وهارون: ﴿قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا﴾، وبين أن عرّفه الله الإجابة أربعين سنة..).
2. دعاء الإمام الحُسين (ع): إن الإمام الحسين -عليه السلام- دعا على الذينَ قتلوه قائلاً: (اللهم!.. إن متعتهم إلى حين ففرقهم فرقاً، واجعلهم طرائق قدداً، ولا ترضي الولاة عنهم أبداً.. فإنهم دعونا لينصرونا، ثم عدو علينا يقاتلونا)!.. ولكن هذه الدعوة ما أجيبت لا في السنة الأولى ولا في الثانية؛ إنما بعد خمس سنين!..
3. فتح مكة: إن المسلمين يوم صُلح الحُديبية وعدوا بدخول مكة، ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا﴾؛ ولكن رَب العالمين أخّرَ ذلك.. فتم الفتح بعد سنتين من الوعد، ولو شاءَ الله -عز وجل- لفتحَ مكة في سنة الوعد.
رابعاً: التعويض في الآخرة.. إن التعويض يأتي، ولكن يجب الصبر.. وهذا التعويض، قد لا يكونُ في الدُنيا أبداً!.. بعض الناس طوال حياته يدعو بهذا الدعاء: ﴿رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا﴾!.. فيموت ولا يرى له ذرية؛ لأن رَب العالمين قضى أن يكونَ عقيماً ﴿يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ﴾.. ولكن بعض هؤلاء الذينَ لا ذرية لهم، رَب العالمين أجرى على أيديهم الصدقات الجارية.. وما الذي يريده الإنسان منَ الولد، غير ما ورد في الحديث الشريف: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).. فقد يُرزق الإنسان بذرية كبيرة، ولكن عندما يموت ينقطع ذكره: فلا صدقة جارية له، ولا ولد صالح يدعو له.. وهذا الذي حُرم الذرية؛ يبقى ذِكرهُ مُخلداً!.. فإذن، الإنسان عليه الدعاء، والله -عزَ وجل- يعوّضه بالطريقة التي يراها مناسبة!..
الإمام السجاد -عليه السلام-..
أولاً: سلوكه مع الفقراء.. إن الإمام زين العابدين -عليهِ السلام- هو عندَ البعض مظهر: البكاء والحُزن، وهو العليل والأسير!.. هذا كلهُ صحيح؛ ولكن أيضاً له صفات أخرى، يقول الإمام الباقر -عليه السلام-: (... وكان -عليه السلام- ليخرج في الليلة الظلماء، فيحمل الجراب على ظهره، وفيه الصرر من الدنانير والدراهم، وربما حمل على ظهره الطعام أو الحطب، حتى يأتي باباً باباً فيقرعه، ثم يُناول من يخرج إليه.. وكان يغطي وجهه إذا ناول فقيراً؛ لئلا يعرفه.. فلما توفي -عليه السلام- فقدوا ذلك؛ فعلموا أنه كان علي بن الحسين -عليه السلام-.. ولما وُضع -عليه السلام- على المغتسل، نظروا إلى ظهره وعليه مثل ركب الإبل، مما كان يحمل على ظهره إلى منازل الفقراء والمساكين...).. تصوّروا الإمام زين العابدين، وقُرة عين الساجدين، هذا الوجه البهي، تركة الحُسين -عليهِ السلام-، ووارث مصائب عاشوراء، والحطبُ على ظهره!.. إمام معصوم، لحظات عمرهِ تساوي أعمارنا جميعاً!.. فهو صاحب المناجيات الخمس عشرة، ودعاء أبي حمزة، وغيره.. وإذا بهِ يُمضي قسماً من ليله بهذه الكيفية؛ لأنه لو كان الأمر فقط لليلة أو ليلتين، أو في السنة مرة واحدة فقط؛ لما تَركَ هذا الأثر على بدنه الشريف!..
ثانياً: سلوكه في الحياة.. ولقد سئلت عنه مولاة له، فقالت: أأطنب أم أختصر؟.. فقيل لها: بل اختصري!.. فقالت: "ما أتيته بطعام في نهار قط، وما فرشت له فراشاً بليل قط".. هذه هي سيرتهُ في الحياة!.. فذُرية النبي (ص)، هؤلاء هذا ديدنهم: الصيام المستمر، والقيام المتصل.
ثالثاً: صلاته.. إن الذينَ كانوا ينظرون إلى الإمام وقت الصلاة، كانوا يصفونهُ بوصفين: تغير اللون، والثبات كأنّهُ ساقُ شجرة (كان علي بن الحسين -عليه السلام- إذا قام إلى الصلاة كأنه ساق شجرة، لا يتحرك منه شيء إلا ما حركت الريح منه).. وكان إذا حضر الصلاة اقشعر جلده، واصفر لونه، وارتعد كالسعفة، نقل أبان بن تغلب إلى الإمام الصادق -عليه السلام- صلاة جدّه الإمام السجاد -عليه السلام- فقال له: "إنّي رأيت عليّ بن الحسين إذا قام في الصلاة، غشي لونه بلون آخر"، فقال له الإمام الصادق -عليه السلام-: (والله!.. إنّ عليّ بن الحسين، كان يعرف الذي يقوم بين يديه...).
فإذن، هكذا يجب أن يكون المؤمن: إذا صلى كأنّهُ ساقُ شجرة، وإذا كُشفَ عن ظهرهِ عليهِ آثارُ حمل الحَطبِ والطعام للفقراء؛ هذا هو التوازن!.. لا من الذين صاروا منَ الصوفية، وذهبوا للصوامع.. ولا من الذين احترفوا العمل السياسي، وتركوا العبادة، والقيام، والتوجه، والمراقبة.. المؤمن يأخذ الطريق الوسط: قيامٌ في الليل، وعَملٌ ونشاطٌ في النهار.. فالذي يقوم الليلَ هكذا، لو يضع يدهُ في أي عمل، وفي أي مشروع، حتى لو في مشروع سياسي؛ هذا الإنسان يُبارك الله -عز وجل- في وجوده؛ يصبح وجودهُ بركة كعيسى -عليهِ السلام- ﴿وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ﴾.
رابعاً: أسلوبه في الدعوة.. إن الأئمة -عليهم السلام- لهم أساليب تربوية في تربية القاعدة!.. فبعض الناس يأمر وينهى، ولكن ليس له أسلوب مُهذب، ولا خطاب مُقنع.. عن سفيان بن عيينة قال: "رأى الزهري علي بن الحسين ليلة باردة مطيرة، وعلى ظهره دقيق وحطب، وهو يمشي فقال له: يا بن رسول الله، ما هذا؟.. قال: (أريد سفراً أعد له زاداً، أحمله إلى موضع حريز)، فقال الزهري: فهذا غلامي يحمله عنك فأبى، قال: أنا أحمله عنك، فإني أرفعك عن حمله، فقال علي بن الحسين: (لكني لا أرفع نفسي عما ينجيني في سفري، ويحسن ورودي على ما أرد عليه، أسألك بحق الله لما مضيت لحاجتك وتركتني).. فانصرفت عنه، فلما كان بعد أيام قلت له: يا بن رسول الله، لست أرى لذلك السفر الذي ذكرته أثراً؟!.. قال: (بلى يا زهري، ليس ما ظننته!.. ولكنه الموت، وله كنت أستعد، إنما الاستعداد للموت: تجنب الحرام، وبذل الندى والخير)".. وبعبارة أخرى: الخير معَ الورع، فمن لا ورعَ لهُ، مثلهُ كمثلِ هابيل ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ﴾.. يستفاد من هذه الحركة، رُجحان ابتكار الأساليب في دعوة الناس إلى الله -عزَ وجل-.
خامساً: بكاؤه.. حدّث مولى للسجاد -عليه السلام- أنه برز يوماً إلى الصحراء قال: فتبعتُه فوجدته قد سجد على حجارة خشنة، فوقفت وأنا أسمع شهيقه وبكاءه، وأحصيت عليه ألف مرة: (لا إله إلا الله حقاً حقاً.. لا إله إلا الله تعبّداً ورقّاً.. لا إله إلا الله إيماناً وصدقاً)، ثم رفع رأسه من السجود، وإن لحيته ووجهه قد غُمر بالماء من دموع عينيه.. فقلت: يا سيدي!.. أما آن لحزنك أن ينقضي، ولبكائك أن تقلّ؟.. فقال لي: (ويحك!.. إنّ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم -عليهم السلام- كان نبيّا ابن نبيّ، كان له اثنا عشر ابنا، فغيّب الله -سبحانه- واحداً منهم فشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغمّ، وذهب بصره من البكاء؛ وابنه حي في دار الدنيا.. وأنا فقدت أبي وأخي وسبعة عشر من أهل بيتي؛ صرعىً مقتولين، فكيف ينقضي حزني ويقلّ بكائي)؟.. بعض الموالين لا يشرب الماء، إلا ويقول: سلام الله عليك يا أبا عبد الله!.. فكيفَ بالإمام وهو الذي رأى أباهُ شهيداً عطشاناً!.. وهو الذي عندما دفن جسد أبيه الحسين -عليه السلام- كتب على قبره: (هذا قبر الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب، الذي قتل عطشاناً)!.. كي تبقى عبرة للأجيال!..
الخلاصة:
1. أن ربّ العالمين في عالم العرش كُل شيءٍ عندهُ بمقدار، ولهُ عناية بالمؤمنين في مقابل عنايتهِ بالوجود، فالمجرات والذرات في كفة، والمؤمن في كفة.
2. أن هذهِ الدُنيادارُ بلاء محفوفةٌ بالمكاره، فالبلاء أمرٌ محتوم ، وحتى الأنبياء على عظمتهم ابتلوا.
3. أن رب العالمين لا يبتلي الإنسان ببليةٍ إلا و يعوضّه عنها خيراً؛ولكن هذا التعويض لهُ قوانين وشروط هي: التوكل على الله، والتفويض له، والتسليم لأمره، والرضا بقضائه.
4. أن التعويض الإلهي لا يكونُ جُزافاً، فرب العالمين لا يعوّض الإنسان، إلا عندما يُقدم لهُ قُرباناً.
5. أن التعويض لا ينسجم معَ العمل، فالإنسان محدود لذا يقوم بعملٍّ محدود؛ أما اللهُ -سبحانهُ وتعالى- فهو اللامحدود؛ لذا فإن عطاءهُ غير محدود.
6. أن التعويض يأتي ولكنه لا يترتبُ مباشرةً على العمل، فالبناء هو على الاختبار ، لذا لزم على المؤمن الصبر؛ فهذا التعويض قد لا يكونُ في الدُنيا أبداً!...
7. أن على المؤمن أن يكون كإمامه السجاد عليه السلام: إذا صلى كأنّهُ ساقُ شجرة، وإذا كُشفَ عن ظهرهِ عليهِ آثارُ حمل الحَطبِ والطعام للفقراء؛ فهذا هو التوازن: قيامٌ في الليل، وعَملٌ ونشاطٌ في النهار.
8. أنه من الراجح ابتكار الأساليب في دعوة الناس إلى الله -عزَ وجل- ؛ فالأئمة -عليهم السلام- كانت لهم أساليب تربوية في تربية القاعدة.
شبكة السراج
تعليق