التوبة هي الإقلاع عن الذنب، ويعتبر في تحقّقها ثلاثة قيود:
· ترك الفعل في الحال.
· الندم على الماضي من الأفعال.
· العزم على الترك في الاستقبال.
جاء في نهج البلاغة أنه قال عليّ عليه السلام لقائل قال بحضرته: «استغفر الله»: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستة معانٍ:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: «أستغفر الله»(1). يشتمل هذا الحديث الشريف الذي نقله السيد الرضي عن إمام الموحّدين علي عليه السلام على ركنين من أركان التوبة هما: الندامة والعزم على ترك العودة، وعلى شرطين مهمين للقبول هما: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، وردّ حقوق الخالق لله سبحانه. وأما الأمران الآخران الخامس والسادس، فهما من شروط كمال التوبة، أي أن التوبة الكاملة لا تتحقّق ولا تقبل من دونهما.
توضيح ذلك: إن لكلّ منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف حالات قلوبهم، وإن التائب إذا أراد البلوغ إلى مرتبة الكمال فلابدّ من تدارك ما تركه وتدارك الحظوظ أيضاً. يعني لابدّ من تدارك الحظوظ النفسانية التي لحقت به أيّام الآثام والمعاصي، وذلك بالسعي لمحو كلّ الآثار الجسمية والروحية التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جرّاء الذنوب حتى تعود النفس مصقولة كما كانت في بدء الأمر، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصيلة وتحصل له الطهارة الكاملة. وذلك لما علمت بأن لكلّ معصية انعكاساً وأثراً في الروح كما قد يحصل أثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم، فلابد للتائب أن ينتفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة البدنية والروحية حتى تزول منهما كلّ تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام، كما أمر الإمام عليه السلام. فطريق ممارسة الرياضة الجسمية من الإمساك عن أكل المقوّيات والمنشّطات والصيام المستحب أو الواجب إذا كان في ذمّته صيام واجب، يذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام أو المعصية. وعن طريق الرياضة الروحية من العبادات والمناسك يتدارك الحظوظ الطبيعية، لأن صورة اللذات الطبيعية (المادّية) لا تزال ماثلة في ذائقة النفس، وما دامت عالقة بها ترغب إليها النفس ويعشقها القلب، ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمرّدها على صاحبها والعياذ بالله. لابدّ على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يذيق الروح ألم الرياضة الروحية ومشقّة العبادة، فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة في العبادة، وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ الطبيعية تداركه بالصوم والمستحبات المناسبة حتى تطهر النفس من كلّ آثار المعاصي وتبعاتها التي هي عبارة عن تعلّق حبّ الدنيا بالنفس ورسوخه فيها وتتطهّر من كلّ ذلك. فهذان المقامان من المتمّمات والمكمّلات لمنزل التوبة، والإنسان عندما يريد في بدء الأمر أن يدخل مقام التوبة ويتوب إلى الله ينبغي له أن لا يظنّ بأن المطلوب منه المرتبة الأخيرة من التوبة لأنه سيجد الطريق صعباً وعملية التوبة شاقّة فينصرف عنها ويتركها. إن كلّ مقدار يساعد عليه حال السالك في سلوكه لطريق الآخرة يكون مطلوباً ومرغوباً فيه، وعندما تطأ قدماه الطريق ييسّر الله تعالى له الطريق، فلابدّ أن لا تحجز صعوبة الطريق الإنسان عن الهدف الأصيل، لأنه مهم جدّاً وعظيم جدّاً. وإذا انتبهنا إلى عظمة الهدف وأهمّيته تذلّلت جميع الصعاب من أجله، وأيّ شيء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائمين؟ وأيّ بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ ومع ترك التوبة، والتسويف والتأجيل قد يبلغ الإنسان إلى الشقاء الأبدي والعذاب الخالد والهلاك الدائم. شرائط قبول التوبة
قال تعالى: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء: 17). دلّت الآية أن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده بشرطين:
أحدهما: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ}. الجهل يقابل العلم بحسب الذات، غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلاً من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة، وأن الإرادة إنما تكون عن حبٍّ ما وشوقٍ ما، سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل، لكن من له عقل مميّز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيّئة المذمومة عند العقلاء، فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيّئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى. وعندئذ يسمّى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم، لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة أُلحق بالعدم، فكان هو جاهلاً عندهم حتى أنهم يسمّون الإنسان الشاب الحدث السنّ قليل التجربة جاهلاً؛ لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات على نفسه، ولذلك أيضاً تراهم لا يسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمّونها عناداً وعمداً وغير ذلك.
فتبيّن بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق. ومن خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنتْ ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف السيّئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج، عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة وبانت الندامة، بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمّد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمراً يسمّى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعاً أو بطيئاً بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. نعم ربما يتّفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحقّ فيتواضع للحقّ ويدخل في ذلّ العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، وفي الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ثانيهما:{ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب} وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية:
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ} (النساء: 18). ولازم ذلك أن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج، بل يرجع عن عمله من قريب. كلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جراء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبرّي من فعله، لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته، بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشرّيرة للتخلّص من وبال الفعل، والدليل عليه أنه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال؛ قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عَنْه وَإنَّهُمْ لَكَاذبُون} (الأنعام: 28).
ويتبيّن مما مرّ أن الشرطين جميعاً أعني قوله: {بجهالة} وقوله: {مِنْ قَرِيب} احترازيان، يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله، وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً وتوانياً ومماطلة؛ إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع، ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية، ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية؛ قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْراً} (الأنعام: 158) وقال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} (غافر: 85).
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلّل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته»(2). والمراد من المعاينة التي تمنع من قبول التوبة هي مشاهدة آيات الآخرة، لأن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالاً وأهوالاً صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ]رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إنَّا مُوقِنُونَ[ (السجدة:12) ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه.
أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: وعزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح، فقال الله تبارك وتعالى: وعزّتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه»(3).
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصحّحه والبيهقي في «الشعب» عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»(4).
· ترك الفعل في الحال.
· الندم على الماضي من الأفعال.
· العزم على الترك في الاستقبال.
جاء في نهج البلاغة أنه قال عليّ عليه السلام لقائل قال بحضرته: «استغفر الله»: ثكلتك أمك أتدري ما الاستغفار؟ الاستغفار درجة العلّيين وهو اسم واقع على ستة معانٍ:
أولها: الندم على ما مضى.
والثاني: العزم على ترك العود إليه أبداً.
والثالث: أن تؤدي إلى المخلوقين حقوقهم حتى تلقى الله أملس ليس عليك تبعة.
والرابع: أن تعمد إلى كلّ فريضة عليك ضيّعتها فتؤدّي حقّها.
والخامس: أن تعمد إلى اللحم الذي نبت على السحت فتذيبه بالأحزان حتى تلصق الجلد بالعظم وينشأ بينهما لحم جديد.
والسادس: أن تذيق الجسم ألم الطاعة كما أذقته حلاوة المعصية، فعند ذلك تقول: «أستغفر الله»(1). يشتمل هذا الحديث الشريف الذي نقله السيد الرضي عن إمام الموحّدين علي عليه السلام على ركنين من أركان التوبة هما: الندامة والعزم على ترك العودة، وعلى شرطين مهمين للقبول هما: إرجاع حقوق المخلوق لأهلها، وردّ حقوق الخالق لله سبحانه. وأما الأمران الآخران الخامس والسادس، فهما من شروط كمال التوبة، أي أن التوبة الكاملة لا تتحقّق ولا تقبل من دونهما.
توضيح ذلك: إن لكلّ منزل من منازل السالكين مراتب ودرجات تختلف حسب اختلاف حالات قلوبهم، وإن التائب إذا أراد البلوغ إلى مرتبة الكمال فلابدّ من تدارك ما تركه وتدارك الحظوظ أيضاً. يعني لابدّ من تدارك الحظوظ النفسانية التي لحقت به أيّام الآثام والمعاصي، وذلك بالسعي لمحو كلّ الآثار الجسمية والروحية التي حصلت في مملكة جسمه ونفسه من جرّاء الذنوب حتى تعود النفس مصقولة كما كانت في بدء الأمر، وتعود الفطرة إلى روحانيتها الأصيلة وتحصل له الطهارة الكاملة. وذلك لما علمت بأن لكلّ معصية انعكاساً وأثراً في الروح كما قد يحصل أثر من بعض الذنوب واللذائذ في الجسم، فلابد للتائب أن ينتفض ويستأصل تلك الآثار ويقوم بالرياضة البدنية والروحية حتى تزول منهما كلّ تبعات ومضاعفات الخطايا والآثام، كما أمر الإمام عليه السلام. فطريق ممارسة الرياضة الجسمية من الإمساك عن أكل المقوّيات والمنشّطات والصيام المستحب أو الواجب إذا كان في ذمّته صيام واجب، يذيب اللحوم التي نشأت على جسمه من الحرام أو المعصية. وعن طريق الرياضة الروحية من العبادات والمناسك يتدارك الحظوظ الطبيعية، لأن صورة اللذات الطبيعية (المادّية) لا تزال ماثلة في ذائقة النفس، وما دامت عالقة بها ترغب إليها النفس ويعشقها القلب، ويُخشى من لحظة طغيان النفس وتمرّدها على صاحبها والعياذ بالله. لابدّ على السالك لسبيل الآخرة والتائب عن المعاصي أن يذيق الروح ألم الرياضة الروحية ومشقّة العبادة، فإذا سهر ليلة في المعصية تداركها بليلة في العبادة، وإذا عاش يوماً واحداً مع اللذائذ الطبيعية تداركه بالصوم والمستحبات المناسبة حتى تطهر النفس من كلّ آثار المعاصي وتبعاتها التي هي عبارة عن تعلّق حبّ الدنيا بالنفس ورسوخه فيها وتتطهّر من كلّ ذلك. فهذان المقامان من المتمّمات والمكمّلات لمنزل التوبة، والإنسان عندما يريد في بدء الأمر أن يدخل مقام التوبة ويتوب إلى الله ينبغي له أن لا يظنّ بأن المطلوب منه المرتبة الأخيرة من التوبة لأنه سيجد الطريق صعباً وعملية التوبة شاقّة فينصرف عنها ويتركها. إن كلّ مقدار يساعد عليه حال السالك في سلوكه لطريق الآخرة يكون مطلوباً ومرغوباً فيه، وعندما تطأ قدماه الطريق ييسّر الله تعالى له الطريق، فلابدّ أن لا تحجز صعوبة الطريق الإنسان عن الهدف الأصيل، لأنه مهم جدّاً وعظيم جدّاً. وإذا انتبهنا إلى عظمة الهدف وأهمّيته تذلّلت جميع الصعاب من أجله، وأيّ شيء أعظم من النجاة الأبدية والروح والريحان الدائمين؟ وأيّ بلاء أعظم من الهلاك الدائمي والشقاء السرمدي؟ ومع ترك التوبة، والتسويف والتأجيل قد يبلغ الإنسان إلى الشقاء الأبدي والعذاب الخالد والهلاك الدائم. شرائط قبول التوبة
قال تعالى: {إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء: 17). دلّت الآية أن الله تعالى يقبل التوبة عن عباده بشرطين:
أحدهما: {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بـِجَهالَةٍ}. الجهل يقابل العلم بحسب الذات، غير أن الناس لما شاهدوا من أنفسهم أنهم يعملون كلاً من أعمالهم الجارية عن علم وإرادة، وأن الإرادة إنما تكون عن حبٍّ ما وشوقٍ ما، سواء كان الفعل مما ينبغي أن يفعل بحسب نظر العقلاء في المجتمع أو مما لا ينبغي أن يفعل، لكن من له عقل مميّز في المجتمع عندهم لا يقدم على السيّئة المذمومة عند العقلاء، فأذعنوا بأن من اقترف هذه السيّئات المذمومة لهوى نفساني وداعية شهوية أو غضبية خفي عليه وجه العلم وغاب عنه عقله المميّز الحاكم في الحسن والقبيح والممدوح والمذموم وظهر عليه الهوى. وعندئذ يسمّى حاله في علمه وإرادته جهالة في عرفهم وإن كان بالنظر الدقيق نوعاً من العلم، لكن لمّا لم يؤثّر ما عنده من العلم بوجه قبح الفعل وذمّه في ردعه عن الوقوع في القبح والشناعة أُلحق بالعدم، فكان هو جاهلاً عندهم حتى أنهم يسمّون الإنسان الشاب الحدث السنّ قليل التجربة جاهلاً؛ لغلبة الهوى وظهور العواطف والإحساسات على نفسه، ولذلك أيضاً تراهم لا يسمّون حال مقترف السيّئات إذا لم ينفعل في اقتراف السيّئة عن الهوى والعاطفة جهالة بل يسمّونها عناداً وعمداً وغير ذلك.
فتبيّن بذلك أن الجهالة في باب الأعمال إتيان العمل عن الهوى وظهور الشهوة والغضب من غير عناد مع الحق. ومن خواصّ هذا الفعل الصادر عن جهالة أن إذا سكنتْ ثورة القوى وخمد لهيب الشهوة أو الغضب باقتراف السيّئة أو بحلول مانع أو بمرور زمان أو ضعف القوى بشيب أو مزاج، عاد الإنسان إلى العلم وزالت الجهالة وبانت الندامة، بخلاف الفعل الصادر عن عناد وتعمّد ونحو ذلك فإن سبب صدوره لما لم يكن طغيان شيء من القوى والعواطف والأميال النفسانية بل أمراً يسمّى عندهم بخبث الذات ورداءة الفطرة لا يزول بزوال طغيان القوى والأميال سريعاً أو بطيئاً بل دام نوعاً بدوام الحياة من غير أن يلحقه ندامة من قريب إلا أن يشاء الله. نعم ربما يتّفق أن يرجع المعاند اللجوج عن عناده ولجاجه واستعلائه على الحقّ فيتواضع للحقّ ويدخل في ذلّ العبودية فيكشف ذلك عندهم عن أن عناده كان عن جهالة، وفي الحقيقة كلّ معصية جهالة من الإنسان، وعلى هذا لا يبقى للمعاند مصداق إلا من لا يرجع عن سوء عمله إلى آخر عهده بالحياة والعافية.
ثانيهما:{ثُمّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيب} وقد أجمعوا على أن المراد من هذا القرب حضور زمان الموت ومعاينة أهواله، والدليل على ذلك قوله تعالى في الآية التالية:
{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ} (النساء: 18). ولازم ذلك أن عامل السوء بجهالة لا يقيم عاكفاً على طريقته ملازماً لها مدى حياته من غير رجاء في عدوله إلى التقوى والعمل الصالح كما يدوم عليه المعاند اللجوج، بل يرجع عن عمله من قريب. كلّ معاند لجوج في عمله إذا شاهد ما يسوؤه من جراء عمله ووبال فعله ألزمته نفسه على الندامة والتبرّي من فعله، لكنه بحسب الحقيقة ليس بنادم عن طبعه وهداية فطرته، بل إنما هي حيلة يحتالها نفسه الشرّيرة للتخلّص من وبال الفعل، والدليل عليه أنه إذا اتّفق تخلّصه من الوبال المخصوص عاد ثانياً إلى ما كان عليه من سيّئات الأعمال؛ قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لما نُهُوا عَنْه وَإنَّهُمْ لَكَاذبُون} (الأنعام: 28).
ويتبيّن مما مرّ أن الشرطين جميعاً أعني قوله: {بجهالة} وقوله: {مِنْ قَرِيب} احترازيان، يراد بالأول منهما أن لا يعمل السوء عن عناد واستعلاء على الله، وبالثاني منهما أن لا يؤخر الإنسان التوبة إلى حضور موته كسلاً وتوانياً ومماطلة؛ إذ التوبة هي رجوع العبد إلى الله سبحانه بالعبودية فيكون توبته تعالى أيضاً قبول هذا الرجوع، ولا معنى للعبودية إلا مع الحياة الدنيوية التي هي ظرف الاختيار وموطن الطاعة والمعصية، ومع طلوع آية الموت لا اختيار تتمشى معه طاعة أو معصية؛ قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إيمانِها خَيْراً} (الأنعام: 158) وقال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ} (غافر: 85).
وبالجملة يعود المعنى إلى أن الله سبحانه إنما يقبل توبة المذنب العاصي إذا لم يقترف المعصية استكباراً على الله بحيث يبطل منه روح الرجوع والتذلّل لله ولم يتساهل ويتسامح في أمر التوبة تساهلاً يؤدي إلى فوت الفرصة بحضور الموت.
عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: «من تاب قبل موته بسنة قبل الله توبته، ثم قال: إن السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر قبل الله توبته، ثم قال: إن الشهر لكثير، من تاب قبل موته بجمعة قبل الله توبته، ثم قال: إن الجمعة لكثير، من تاب قبل موته بيوم قبل الله توبته، ثم قال: إن يوماً لكثير، من تاب قبل أن يعاين قبل الله توبته»(2). والمراد من المعاينة التي تمنع من قبول التوبة هي مشاهدة آيات الآخرة، لأن الإنسان عند القرب من الموت إذا شاهد أحوالاً وأهوالاً صارت معرفته بالله ضرورية عند مشاهدته تلك الأهوال، ]رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إنَّا مُوقِنُونَ[ (السجدة:12) ومتى صارت معرفته بالله ضرورية سقط التكليف عنه.
أخرج ابن جرير عن الحسن قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وآله قال: «إن إبليس لما رأى آدم أجوف قال: وعزّتك لا أخرج من جوفه ما دام فيه الروح، فقال الله تبارك وتعالى: وعزّتي لا أحول بينه وبين التوبة ما دام الروح فيه»(3).
وأخرج أحمد والترمذي وحسنه وابن ماجة والحاكم وصحّحه والبيهقي في «الشعب» عن ابن عمر عن النبيّ صلى الله عليه وآله قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر»(4).
تعليق