بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والمغترون منهم فرق(فمنهم) من اقتصر من العلم على علم الكلام والمجادلة ومعرفة آداب المناظرة، ليتفاخر في اندية الرجال ويتفوق على الاقران والامثال، من غير ان يكون له في العقائد قدم راسخ أو مذهب واحد، بل يختار تارة ذلك وتارة هذا، وتكون عقيدته كخيط مرسل في الهواء تفيئه الريح مرة هكذا وتارة هكذا، ومع ذلك يظن بغروره أنه اعرف الناس واعلمهم بالله وبصفاته.
و(ومنهم) من أقتصر من العلم على علم النحو واللغة، أو الشعر أو المنطق، واغتر به واغنى عمره فيها، وزعم ان علم الشريعة والحكمة موقوف عليها، ولم يعلم أن ما ليس مطلوباً لذاته ويكون وسيلة إلى ما هو مقصود لذاته يجب ان يقتصر عليه بقدر الضرورة، والتعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فضول مستغنى عنها. وموجب للحرمان عما هو مقصود لذاته.
و(منهم) من اقتصر على فن المعاملات من الفقه، المتضمن لكيفية الحكم والقضاء بين الناس، واشتغل باجراء الاحكام، وأعرض عن علم العقائد والأخلاق، بل عن فن العبادات من الفقه، واهمل تفقد قلبه ليتخلى عن رذائل الأخلاق ويتحلى بفضائل الملكات وتفقد جوارحه وحفظها عن المعاصي والزامها الطاعات.
و(منهم) من حصل فن العبادات أيضا، بل احكم العلوم الشرعية بأسرها وتعمق فيها واشتغل، ولكن ترك العلم الالهي وعلم الأخلاق ولم يحفظ الباطن والظاهر عن المعاصي ولم يعمرها بالطاعات.
و(منهم) من أحكم جميع العلوم من العقلية والشرعية وتعمق فيها واشتغل بها إلا أنه أهمل العمل رأساً، أو واظب على الطاعات الظاهرة وأهمل صفات القلب، وربما تفقد صفات القلب وأخلاق النفس أيضاً وجاهد نفسه في التبري عنها، وقلع من قلبه منابتها الجلية القوية، ولكن بقيت في زوايا قلبه خفايا من مكائد الشيطان وخبايا وتلبيسات النفس ما دق وغمض مدركه فلا يتفطن بها.
وجميع هؤلاء غافلون مغرورون، إذا كان اعتقادهم انهم على خير وسعادة، وإن كان بينهم تفاوت من حيث الضعف والشدة، إذ سعادة النفس وخلاصها عن العذاب لا تحصل إلا بمعرفة الله ـ تعالى ـ ومعرفة صفاته وافعاله واحوال النشأة الآخرة، والعلم برذائل الأخلاق وشرائفها، ثم تهذيب الباطن بفضائل الأخلاق وعمارة الظاهر بصوالح الطاعات والأعمال، فكل من يعلم بعض العلوم وترك ما هو المهم من العلم، أعني معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات النفس التي هي الصفات المذمومة المانعة عن الوصول إلى الله ـ وظن انه على خير كان مغروراً، وإذا مات ملوثاً بتلك الصفات كان محجوبا على الله، فمن ترك العلم المهم واشتغل بغيره، فهو كمن له مرض خاص مهلك فاحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعلم مرض آخر يضاد مرضه في المعالجة، كما ان من احكم العلوم بأسرها وترك العمل، مثل المريض الذي تعلم دواء مرضه وكتبه، وهو يقرأه ويعلمه المرضى ولا يستعمله قط لنفسه، فانه لا ريب في ان مجرد تعلم الدواء لا يشفيه، بل لو كتبت منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم ينفعه ذلك من مرضه شيئاً، حتى يشترى هذا الدواء ويشربه كما تعلم في وقته، ومع شربه واستعماله يكون على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه اصلا، فلو ظن أن مجرد تعلم الدواء يكفيه ويشفيه فهو مغرور، فكذلك من احكم علم الطاعات ولم يعملها، واحكم علم المعاصي ولم يجتنبها، واحكم علم الأخلاق ولم يزك نفسه عن رذائلها ولم يتصف بفضائلها، فهو في غاية الغرور. إذ قال الله تعالى:
" قد أفلح من زكاها "[1].
ولم يقل: قد أفلح من علم طريق تزكيتها.
ثم من هذه الطائفة فرقة متصفة برذائل الأخلاق والغرور، أدى بهم إلى حيث ظنوا أنهم منفكون عنها، وأنهم ارفع عند الله من أن يبتليهم بها، وإنما يبتلي بها العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم. ثم إذا ظهرت عليه مخايل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا تكبراً، وإنما هو طلب اعزاز الدين وإظهار شرف العلم، وارغام انف المخالفين. ومهما ظهرت منه آثار الحسد، وأطلق لسانه بالغيبة في أقرانه ومن رد عليه شيئاً من كلامه، لم يظن بنفسه أن ذلك حسد، بل يقول: إن هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه، مع أنه لو طعن في غيره من أهل العلم، ورد عليه قوله، ومنع من منصبه، لم يكن غضبه مثل غضبه الآن، بل ربما يفرح به، لو كان غضبه للحق لا لحسد على اقرانه وخبث باطنه، لاستوى غضبه في الحالين. وإذا خطر له خاطر الرياء قال: غرضي من اظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي، ليهتدوا إلى دين الله ويتخلصوا من عقاب الله. ولا يتأمل المغرور انه ليس يفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، ولو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان، وربما يتذكر هذا ومع ذلك لا يخليه الشيطان، بل يقول: إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الاجر والثواب لي، ففرحي إنما هو بثواب الله لا بقبول الخلق، هذا ما يظن بنفسه، والله مطلع على سريرته، إذ ربما كان باطنه في الخباثة بحيث لو علم قطعاً بأن ثوابه في الخمول واخفاء العلم والعمل أكثر من ثوابه في الاظهار، لاحتال مع ذلك في اظهار رئاسة، من تدريس أو وعظ أو امامة و غير ذلك. وإذا كان بحيث يدخل على السلاطين والامراء الظلمة ويثني عليهم ويتواضع لهم، وخطر له أن مدحهم والتواضع لهم حرام، قال له الشيطان: ان ذلك عند الطمع في مالهم، وغرضك من الدخول عليهم دفع الضرر عن المسلمين دون الطمع، والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض اقرانه قبول عند ذلك السلطان، وكان بحيث يقبل شفاعته في كل أحد، وهو لا يزال يستشفع ويدفع الضرر عن المسلمين، يثقل ذلك عليه، بحيث لو قدر أن يقبح حاله عند السلطان لفعل. وربما انتهى الغرور في بعضهم إلى أن يأخذ من أموالهم المحرمة، وإذا خطر له أنها حرام، قال له الشيطان: هذا مال مجهول المالك يجب أن يتصدق به إمام المسلمين، وأنت إمامهم وعالمهم، وبك قوام دين الله، فيحل لك أن تأخذ منها قدر حاجتك وتصرف الباقي على مصالح المسلمين، فيغتر بهذا التلبيس ولا يزال يأخذها من غير أن يبذل شيئاً منها في مصرف غيره. وربما انتهى الغرور في بعضهم إلى حيث انه إذا حضرت مائدتهم واكل طعامهم وقيل له: ان هذا لا يليق بمثلك، قال: الأكل جائز بل واجب، إذ هذا مال لا يعلم مالكه، فيجب التصدق به على الفقراء، ويجب على مثلي بقدر القوة والاستطاعة أن يجتهد في استخلاصه من يد الظالم وايصاله إلى اهله ـ أعني الفقراء ـ واكل منها نوع قدرة على استخلاصه، فآكل منه واتصدق بقيمته على الفقراء، والله يعلم من باطنه أنه لا يتصدق بقيمته ولا يعتقد بحقيقة ما يقوله، وانما هو تلبيس ألقاه الشيطان في روعه، لئلا يضعف اعتقاد العامة في حقه، وربما كان بحيث لا يبالي من اخذ مالهم واكل طعامهم خفية، ولو علم انه يطلع عليه واحد من صويلح العامة المعتقدين به، امتنع منه غاية الامتناع. وربما كان بعضهم في الباطن مائلا إلى الدخول على السلاطين والامراء وتاركا له في الظاهر، وكان الباعث في ذلك طلب المنزلة في قلوب العامة. ومع ذلك يظن أن الاجتناب عنهم عين ورعه وتقواه. وربما كان بعضهم إمام قوم يظن أنه على خير وباعث لترويج الدين واعلاء الكلمة ومقيم بشعار الإسلام، ومع ذلك لو أم غيره ممن هو اعلم واورع منه في مسجده، أو يتخلف بعض من يقتدى به عن الاقتداء به، قامت عليه القيامة، وربما لم يكن باعثه على الحركة إلى المسجد للامامة مجرد التقرب والامتثال لأمر الله، بل كان الباعث محض حب الجاه والرياسة واعتقاد العامة، أو مركباً منه ومن نية الثواب وربما اتخذ بعضهم الامامة شغلا ووسيلة لأمر المعاش، ومع ذلك يظن انه مشتغل بأمر الخير، والظاهر في امثال زماننا ندور الإمام الذين كان قصده من الامامة مجرد التقرب إلى الله. من دون وجود شيء من حب طلب المنزلة في القلوب، أو تحصيل المال، أو دفع بعض الشرور عن نفسه في زوايا قلبه، ولو وجد مثله فهو القدوة الذي يجب ان تشد الرحال من المواضع البعيدة إليه ليقتدى به، ومثله كلما وجد في نفسه قصد التقرب والثواب في الذهاب إلى المسجد للامامة ذهب، ولو لم يجد ذلك من نفسه تخلف، وصلى منفرداً. وهو الذي يستوي عنده اقتداء الناس به وعدمه، ويستوي عنده كثرة المقتدين وقلتهم، بل يكون حاله عند صلاته وهو إمام لجم غفير كحاله عند صلاته منفرداً، من دون أن يجد في نفسه تفاوتاً في الحالين.
وبالجملة: أصناف غرور أهل العلم ـ (لا) سيما في هذه الاعصار ـ كثيرة، والمتأمل يعلم أن الغرور أو التلبيس أو غيرهما من ذمائم الافعال انتهى في بعضهم إلى أن وجودهم مضر بالاسلام والمسلمين وموتهم انفع للايمان والمؤمنين، لأنهم دجالوا الدين وقواموا مذهب الشياطين، ومثلهم كما قال ابن مريم (ع): " العالم السوء كصخرة وقعت في فم الوادي، فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يتخلص إلى الزرع ".
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
والمغترون منهم فرق(فمنهم) من اقتصر من العلم على علم الكلام والمجادلة ومعرفة آداب المناظرة، ليتفاخر في اندية الرجال ويتفوق على الاقران والامثال، من غير ان يكون له في العقائد قدم راسخ أو مذهب واحد، بل يختار تارة ذلك وتارة هذا، وتكون عقيدته كخيط مرسل في الهواء تفيئه الريح مرة هكذا وتارة هكذا، ومع ذلك يظن بغروره أنه اعرف الناس واعلمهم بالله وبصفاته.
و(ومنهم) من أقتصر من العلم على علم النحو واللغة، أو الشعر أو المنطق، واغتر به واغنى عمره فيها، وزعم ان علم الشريعة والحكمة موقوف عليها، ولم يعلم أن ما ليس مطلوباً لذاته ويكون وسيلة إلى ما هو مقصود لذاته يجب ان يقتصر عليه بقدر الضرورة، والتعمق فيه إلى درجات لا تتناهى فضول مستغنى عنها. وموجب للحرمان عما هو مقصود لذاته.
و(منهم) من اقتصر على فن المعاملات من الفقه، المتضمن لكيفية الحكم والقضاء بين الناس، واشتغل باجراء الاحكام، وأعرض عن علم العقائد والأخلاق، بل عن فن العبادات من الفقه، واهمل تفقد قلبه ليتخلى عن رذائل الأخلاق ويتحلى بفضائل الملكات وتفقد جوارحه وحفظها عن المعاصي والزامها الطاعات.
و(منهم) من حصل فن العبادات أيضا، بل احكم العلوم الشرعية بأسرها وتعمق فيها واشتغل، ولكن ترك العلم الالهي وعلم الأخلاق ولم يحفظ الباطن والظاهر عن المعاصي ولم يعمرها بالطاعات.
و(منهم) من أحكم جميع العلوم من العقلية والشرعية وتعمق فيها واشتغل بها إلا أنه أهمل العمل رأساً، أو واظب على الطاعات الظاهرة وأهمل صفات القلب، وربما تفقد صفات القلب وأخلاق النفس أيضاً وجاهد نفسه في التبري عنها، وقلع من قلبه منابتها الجلية القوية، ولكن بقيت في زوايا قلبه خفايا من مكائد الشيطان وخبايا وتلبيسات النفس ما دق وغمض مدركه فلا يتفطن بها.
وجميع هؤلاء غافلون مغرورون، إذا كان اعتقادهم انهم على خير وسعادة، وإن كان بينهم تفاوت من حيث الضعف والشدة، إذ سعادة النفس وخلاصها عن العذاب لا تحصل إلا بمعرفة الله ـ تعالى ـ ومعرفة صفاته وافعاله واحوال النشأة الآخرة، والعلم برذائل الأخلاق وشرائفها، ثم تهذيب الباطن بفضائل الأخلاق وعمارة الظاهر بصوالح الطاعات والأعمال، فكل من يعلم بعض العلوم وترك ما هو المهم من العلم، أعني معرفة سلوك الطريق وقطع عقبات النفس التي هي الصفات المذمومة المانعة عن الوصول إلى الله ـ وظن انه على خير كان مغروراً، وإذا مات ملوثاً بتلك الصفات كان محجوبا على الله، فمن ترك العلم المهم واشتغل بغيره، فهو كمن له مرض خاص مهلك فاحتاج إلى تعلم الدواء واستعماله، فاشتغل بتعلم مرض آخر يضاد مرضه في المعالجة، كما ان من احكم العلوم بأسرها وترك العمل، مثل المريض الذي تعلم دواء مرضه وكتبه، وهو يقرأه ويعلمه المرضى ولا يستعمله قط لنفسه، فانه لا ريب في ان مجرد تعلم الدواء لا يشفيه، بل لو كتبت منه ألف نسخة وعلمه ألف مريض حتى شفى جميعهم وكرره كل ليلة ألف مرة لم ينفعه ذلك من مرضه شيئاً، حتى يشترى هذا الدواء ويشربه كما تعلم في وقته، ومع شربه واستعماله يكون على خطر من شفائه، فكيف إذا لم يشربه اصلا، فلو ظن أن مجرد تعلم الدواء يكفيه ويشفيه فهو مغرور، فكذلك من احكم علم الطاعات ولم يعملها، واحكم علم المعاصي ولم يجتنبها، واحكم علم الأخلاق ولم يزك نفسه عن رذائلها ولم يتصف بفضائلها، فهو في غاية الغرور. إذ قال الله تعالى:
" قد أفلح من زكاها "[1].
ولم يقل: قد أفلح من علم طريق تزكيتها.
ثم من هذه الطائفة فرقة متصفة برذائل الأخلاق والغرور، أدى بهم إلى حيث ظنوا أنهم منفكون عنها، وأنهم ارفع عند الله من أن يبتليهم بها، وإنما يبتلي بها العوام دون من بلغ مبلغهم في العلم. ثم إذا ظهرت عليه مخايل الكبر والرئاسة وطلب العلو والشرف قال: ما هذا تكبراً، وإنما هو طلب اعزاز الدين وإظهار شرف العلم، وارغام انف المخالفين. ومهما ظهرت منه آثار الحسد، وأطلق لسانه بالغيبة في أقرانه ومن رد عليه شيئاً من كلامه، لم يظن بنفسه أن ذلك حسد، بل يقول: إن هذا غضب للحق ورد على المبطل في عداوته وظلمه، مع أنه لو طعن في غيره من أهل العلم، ورد عليه قوله، ومنع من منصبه، لم يكن غضبه مثل غضبه الآن، بل ربما يفرح به، لو كان غضبه للحق لا لحسد على اقرانه وخبث باطنه، لاستوى غضبه في الحالين. وإذا خطر له خاطر الرياء قال: غرضي من اظهار العلم والعمل اقتداء الخلق بي، ليهتدوا إلى دين الله ويتخلصوا من عقاب الله. ولا يتأمل المغرور انه ليس يفرح باقتداء الناس بغيره كما يفرح باقتدائهم به، ولو كان غرضه صلاح الخلق لفرح بصلاحهم على يد من كان، وربما يتذكر هذا ومع ذلك لا يخليه الشيطان، بل يقول: إنما ذلك لأنهم إذا اهتدوا بي كان الاجر والثواب لي، ففرحي إنما هو بثواب الله لا بقبول الخلق، هذا ما يظن بنفسه، والله مطلع على سريرته، إذ ربما كان باطنه في الخباثة بحيث لو علم قطعاً بأن ثوابه في الخمول واخفاء العلم والعمل أكثر من ثوابه في الاظهار، لاحتال مع ذلك في اظهار رئاسة، من تدريس أو وعظ أو امامة و غير ذلك. وإذا كان بحيث يدخل على السلاطين والامراء الظلمة ويثني عليهم ويتواضع لهم، وخطر له أن مدحهم والتواضع لهم حرام، قال له الشيطان: ان ذلك عند الطمع في مالهم، وغرضك من الدخول عليهم دفع الضرر عن المسلمين دون الطمع، والله يعلم من باطنه أنه لو ظهر لبعض اقرانه قبول عند ذلك السلطان، وكان بحيث يقبل شفاعته في كل أحد، وهو لا يزال يستشفع ويدفع الضرر عن المسلمين، يثقل ذلك عليه، بحيث لو قدر أن يقبح حاله عند السلطان لفعل. وربما انتهى الغرور في بعضهم إلى أن يأخذ من أموالهم المحرمة، وإذا خطر له أنها حرام، قال له الشيطان: هذا مال مجهول المالك يجب أن يتصدق به إمام المسلمين، وأنت إمامهم وعالمهم، وبك قوام دين الله، فيحل لك أن تأخذ منها قدر حاجتك وتصرف الباقي على مصالح المسلمين، فيغتر بهذا التلبيس ولا يزال يأخذها من غير أن يبذل شيئاً منها في مصرف غيره. وربما انتهى الغرور في بعضهم إلى حيث انه إذا حضرت مائدتهم واكل طعامهم وقيل له: ان هذا لا يليق بمثلك، قال: الأكل جائز بل واجب، إذ هذا مال لا يعلم مالكه، فيجب التصدق به على الفقراء، ويجب على مثلي بقدر القوة والاستطاعة أن يجتهد في استخلاصه من يد الظالم وايصاله إلى اهله ـ أعني الفقراء ـ واكل منها نوع قدرة على استخلاصه، فآكل منه واتصدق بقيمته على الفقراء، والله يعلم من باطنه أنه لا يتصدق بقيمته ولا يعتقد بحقيقة ما يقوله، وانما هو تلبيس ألقاه الشيطان في روعه، لئلا يضعف اعتقاد العامة في حقه، وربما كان بحيث لا يبالي من اخذ مالهم واكل طعامهم خفية، ولو علم انه يطلع عليه واحد من صويلح العامة المعتقدين به، امتنع منه غاية الامتناع. وربما كان بعضهم في الباطن مائلا إلى الدخول على السلاطين والامراء وتاركا له في الظاهر، وكان الباعث في ذلك طلب المنزلة في قلوب العامة. ومع ذلك يظن أن الاجتناب عنهم عين ورعه وتقواه. وربما كان بعضهم إمام قوم يظن أنه على خير وباعث لترويج الدين واعلاء الكلمة ومقيم بشعار الإسلام، ومع ذلك لو أم غيره ممن هو اعلم واورع منه في مسجده، أو يتخلف بعض من يقتدى به عن الاقتداء به، قامت عليه القيامة، وربما لم يكن باعثه على الحركة إلى المسجد للامامة مجرد التقرب والامتثال لأمر الله، بل كان الباعث محض حب الجاه والرياسة واعتقاد العامة، أو مركباً منه ومن نية الثواب وربما اتخذ بعضهم الامامة شغلا ووسيلة لأمر المعاش، ومع ذلك يظن انه مشتغل بأمر الخير، والظاهر في امثال زماننا ندور الإمام الذين كان قصده من الامامة مجرد التقرب إلى الله. من دون وجود شيء من حب طلب المنزلة في القلوب، أو تحصيل المال، أو دفع بعض الشرور عن نفسه في زوايا قلبه، ولو وجد مثله فهو القدوة الذي يجب ان تشد الرحال من المواضع البعيدة إليه ليقتدى به، ومثله كلما وجد في نفسه قصد التقرب والثواب في الذهاب إلى المسجد للامامة ذهب، ولو لم يجد ذلك من نفسه تخلف، وصلى منفرداً. وهو الذي يستوي عنده اقتداء الناس به وعدمه، ويستوي عنده كثرة المقتدين وقلتهم، بل يكون حاله عند صلاته وهو إمام لجم غفير كحاله عند صلاته منفرداً، من دون أن يجد في نفسه تفاوتاً في الحالين.
وبالجملة: أصناف غرور أهل العلم ـ (لا) سيما في هذه الاعصار ـ كثيرة، والمتأمل يعلم أن الغرور أو التلبيس أو غيرهما من ذمائم الافعال انتهى في بعضهم إلى أن وجودهم مضر بالاسلام والمسلمين وموتهم انفع للايمان والمؤمنين، لأنهم دجالوا الدين وقواموا مذهب الشياطين، ومثلهم كما قال ابن مريم (ع): " العالم السوء كصخرة وقعت في فم الوادي، فلا هي تشرب الماء ولا هي تترك الماء يتخلص إلى الزرع ".
تعليق