اللهم صلى على محمد وعجل قائم آل محمد
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الصادق الوعد الأمين، اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علماً، وأرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، واجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.
سورة الأحقاف.
الصادق من طابق قوله ما في قلبه:
مع الآية الثالثة عشرة، وهي قوله تعالى:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13)﴾
[سورة الأحقاف ]
أولاً: إن الذين قالوا، ولم يقل الله آمنوا، فالعلماء قالوا: كأن الآية الكريمة تشير إلى أنه ينبغي أن يكون القول مطابقاً لما في القلب، فإذا طابق القول ما في القلب كان الإنسان صادقاً، أما إذا كان هناك مسافة واسعة جداً بين ما يقوله الإنسان وبين ما يفعله، صار نفاقاً، النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول لمن سأله قائلاً: عظني ولا تطل، فعن عبد الله بن سفيان عن أبيه قال: يا رسول الله أخبرني أمراً في الإسلام لا أسأل عنه أحداً بعدك قال:
(( قلْ آمَنْتُ باللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ ))
يفهم أن القول ينبغي أن يكون مطابقًا لما في القلب.
ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي:
لما سئل النبي عليه الصلاة و السلام عن الإيمان، قال:
(( ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ))
بالتمني كأن يقول قائل: اللهم اجعلنا مؤمنين، فالمسلمون دائماً وعلى تقصيرهم، وعلى مخالفاتهم، وعلى خرقهم لحدود الله، وعلى شركهم الخفي، وعلى انغماسهم في الملذات، وعلى أن بيوتهم مليئة بالمعاصي، ومع كل ذلك دائماً يقولون: اللهم اجعلنا مؤمنين، ويقولون: الله يتوب علينا، اللهم لا تعاملنا بعملنا، فالنبي قال ليس الإيمان بالتمني (ليس هذا التمني إيماناً)، ولا بالتحلي، أحدهم وضع مصحفاً في سيارته، ووضع في محله التجاري: إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً، وأبرز آية الكرسي بمحله، أو ببيته، ليراها الناسُ، فإذا كان بيتُه يعجُّ باختلاط الجنسين، ويفور فيه نتنُ المعاصي، وفيه غناء، وأعمال لا ترضي الله عز وجل، وليس فيه قرآن يُتلى، فهذه اللوحات ماذا تعني ؟ لا أقول انزعوا اللوحات، لا، أبقوها على ما هي عليه فعسى أن يكون لها أثر يوماً ما، لكن ليس الإيمان بالتمني، ولا بالتحلي، ولكن هو ما وقر في القلب وصدقه العمل، ما وقر في القلب، تَطَابَق مع ما أقرّه اللسان، وصدقه العمل.
من اكتفى بأن الله خلقه و لم يتحقق من ألوهيته فأمره خسارة:
من هو المؤمن ؟ هذا الذي ما في قلبه على لسانه، ويؤكد ذلك عملُه، فالعمل إذا كان موافقًا للقلب، موافقًا للسان، فيشعر القارئ بحلاوة:
﴿إن الذين قالوا ﴾
يعني كأن الله سبحانه وتعالى، لا يريدنا أن نقول إلا ما هو حق، والقول يكفي، إذا كان القول مطابقًا لما في القلب، إن الذين قالوا ربنا الله، الرب هو المربي، والرب هو الممد، والتربية تربية نفسية و تربية مادية، فربنا الله هو صاحب الأسماء الحسنى، من الذي خلقك ؟ الله جل جلاله، من الذي أمدك بما تحتاج ؟ الله جل جلاله، من الذي أسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة ؟ الله جل جلاله، من الذي يعالجك إذا انحرفت ؟ الله جل جلاله، فربنا رب العالمين، لكنَّ الإنسان إذا اكتفى بأن الله عز وجل هو الذي خلقنا، وهو الذي أمدنا، وهو الذي أنزل هذا الكتاب على نبيه، ولم يتحقق من ألوهية الله عز وجل، وبأنّ الله هو المعطي، هو المانع، هو الرافع، هو الخافض، الأمر كله بيده، المصير كله إليه، له الخلق، وله الأمر، وهو الذي في السماء إله، وفي الأرض إله، ولا يشرك في حكمه أحداً فأمره خسارة، أما إذا تحققت من مقام الألوهية، فأنت عندئذ مضطر لأن تنصاع لأمر الله، والأمر كله بيده، فمتى يعصي الإنسانُ ربَّه ؟ ولماذا يعصي ؟ وكيف يعصي ؟ يعصي حينما يرى أن في المعصية تحقيقاً لمصالحه المادية أو المعنوية، ومتى يعصي ؟ إذا توهم أو غفل عن أن الذي أمر لا يراه، لكن إذا أيقنت أن الذي أمر يراك، وأنه سيحاسبك، وأن الأمر كله بيده، فلن تعصيه، يعني هذا الكلام ينقلنا إلى موضوع دقيق، الإقرار بوجود الله عز وجل لا يكفي، الإقرار ببعض أسمائه الحسنى لا يكفي، ألم يقل إبليس: رب فبعزتك، الإقرار بوجود خالق عظيم لهذا الكون، والإقرار بوجود ربٍّ حكيمٍ، دون أن تستجيب لأمره، دون أن تنصاع لأمره، دون أن تعبده، دون أن يبدو ذلك في علاقتك اليومية، هذا لا يجدي شيئاً.
الإيمان الحقيقي هو الإيمان الذي ينتهي بالإنسان إلى الاستقامة:
﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم ﴾
ثم: حرف عطف يفيد الترتيب على التراخي، ولهذا الحرف معانٍ كثيرة، قالوا ربنا الله ثم استقاموا، يعني إلى أن أثمر إيمانه استقامة، صار لديه تأمل، وصار لديه بحث، وقام بدراسة، وأجرى مع نفسه تساؤلات، وتكونت لديه إجابات، ووقع بينه وبين نفسه حوار ؛ أي قال وتحقق، قال وتبنى هذا الأمر، قال وتعمق، قال و درس، قال وأتى بالبرهان، قال وطلب الدليل، ثم خلصوا إلى أن قالوا ربنا الله، هذا القول انتهى بهم إلى أن يستقيموا، والحقيقة هذا المقياس، دقيق، دقيق، فإن الإيمان لا يعد إيماناً مثمراً، إلا إذا انتهى بك إلى الاستقامة، الإيمان الذي ينتهي بك إلى الاستقامة هو إيمان حقيقي، أما الإيمان الذي لا ينتهي بك إلى الاستقامة فهو إيمان لا يكفي، أو إيمان شكلي، أو إيمان سطحي ناتج عن تفكير تقليدي، أما الإيمان الحقيقي الذي أراده الله عز وجل، من صفاته اللازمة أنه ينقلك إلى الاستقامة، إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا، هذا يعني أن الإنسان عليه أن يقتطع من وقته وقتاً لمعرفة الله، قضية الإيمان خطيرة، قالوا ربنا الله ثم استقاموا، مع أن هذا القول أخذ فترة زمنية، واستغرق جانباً من وقت الإنسان، جانباً من تفكيره، جانباً من اهتمامه، بذل جهداً، بذل طاقة حتى استيقن بهذه الحقيقة.
استقامة الإنسان تؤكد إيمانه بالله عز وجل:
إن الذين قالوا، أولاً قالوا: تعني أنه لا ينبغي إلا أن تقول إلا الذي في قلبك، وإذا قلت ما في قلبك، وكان ما في قلبك إيمانًا، فهذا القول أصبح في مستوى الإيمان، ربنا الله، الله عز وجل له أسماء حسنى كثيرة، هو الخالق البارئ المصور، هو الرزاق، هو الغني، هو القدير، هو السميع، هو البصير، ولأسماء الله الحسنى معان دقيقة جداً، فإنّ لله تسعة وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، والإحصاء غير العد، الإحصاء يعني أن تفهمها اسماً اسماً، أن تفهم المدلول الدقيق لهذا الاسم، أن تعرف كيف يكون الله رحيماً، ما معنى رحمة الله ؟ أن تربط الاسم بأفعال الله، أن تربط الاسم بالآية الكريمة، فالذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، يعني كما أقول لكم دائماً، الآيات القرآنية أحياناً تفصِّل، وأحياناً توجز، والدين أن تؤمن بالله وأن تستقيم على أمره، بل إنّ الاستقامة على أمر الله هي محك صحة الإيمان، الدعوى سهلة، أن تدعي أنك مؤمن قضية سهلة، لكن الذي يؤكد إيمانك هو استقامتك، هذا يذكرنا بآيات في سورة فصلت:
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا ﴾
[سورة فصلت: الآية 30]
فعل الإنسان مؤشر لقناعته:
إذاً فالاستقامة هي المؤشر على صحة الإيمان، وكأن كلمة (ثم) تفيد التراخي، يعني أنّ الإيمان يجب أن يأخذ من وقتك وقتاً وجهدا ودراسة، وتمحيصاً ودرساً وبحثاً، إلى أن تتحقق من هذه الحقائق، إلى أن تتبناها عندئذ تجد أنك مدفوع شئت أم أبيت إلى تطبيقها، أوضح مثلاً: عندما يكون ضغط الإنسان مرتفعاً، وثقافته الطبية محدودة جداً، يجلس إلى طبيب، ويحاول هذا الطبيب أن يقنعه، بأن الملح يزيد اختزان السوائل في الجسم، والسوائل إذا اختزنت في الجسم امتلأت بها الأوعية، فصارت حركة القلب مجهدة، أما إذا السائل خفّ بالجسم صار القلب مرتاحاً، لو فرضنا أن الطبيب وضّح بشكل دقيق جداً مضاعفات شرب الماء، مضاعفات إكثار الملح في الطعام، كيف أن الملح يخزن سوائل كثيرة، وكيف أن السوائل لها علاقة بامتلاء الأوعية بالدماء، وكيف أن امتلاء الأوعية بالدماء يجهد القلب، فإذا أتيته بأمثلة بسيطة، ووضحت له حتى قنع، عندئذ تجده ترك الملح في الطعام، الترك دليل قناعة، وهذه نقطة مهمة جداً في حياتنا، ليس المهم ما تقوله، ولا ما تسمعه، ولا ما تقرؤه، موطن الثقل المعول عليه الذي تفعله، لأن الذي تفعله هو تعبير عن قناعتك بالذي تعتقده، قد تقترح على أحدهم يوماً خمسين اقتراحاً فيجاملك، ويقول لك: أنا شاكر لك كثيراً، لكن في النهاية لا يفعل ما هو قانع به، فكأن فعل الإنسان هو مؤشر لقناعته، إذاً إذا كان الإيمان لم ينتهِ بنا إلى التطبيق، فهو إيمان عقيم لا يجدي.
إنهاء الازدواجية في حياة المسلمين:
إبليس آمن، لكنه أبى و استكبر، فأنت إذا اعتقدت بحقيقة صارخة، كأن يقول قائل: أنا مؤمن بالله، فماذا فعل ؟ فما مردود هذا الكلام عنده ؟ الله عز وجل موجود، ووجوده ظاهر في كل خلقه، فأنت إذا قلت للشمس وهي ساطعة، إنها ساطعة، أنت ماذا فعلت ؟ ما أضفت شيئاً، لو قلت ليست ساطعة، وهي ساطعة لسخر الناس منك، إن قلت إنها ساطعة، ما زدت عن أن قلت الحقيقة، وإن أنكرت الحقيقة استخف بك الآخرون، أنت إذا قلت للشمس ساطعة، هي ساطعة، أنت ما فعلت شيئاً، لكنك حينما تستفيد من هذه الأشعة، حينما تسخن بها الماء، حينما تتعرض لها، من أجل صحة الجلد مثلاً، حينما تشتري بيتاً تدخل منه الشمس، فقد استفدت منها، أما أن تقر أنها في كبد السماء، فأنت ما فعلت شيئاً، أريد من هذه الأمثلة أن أقول لكم، حينما تقر أن لهذا الكون خالقاً ولم تستجب لأمره، فأنت ما فعلت شيئاً، حينما تقول: الجنة حق، ولا تعمل لها، فأنت ما فعلت شيئاً، إذا قلت: النار حق ولم تتقها، فكذلك أنت ما فعلت شيئاً، وإذا قلت: الصدقة ترضي الله عز وجل، ولم تنفق من مالك، فما فعلت شيئاً، إن قلت: إنّ أكل الربا يمحق المال، ثم أكلته، فما فعلت شيئاً، أريد وأرجو الله سبحانه وتعالى أن تُمحَى الازدواجية في حياة المسلمين، إنها ازدواجية واضحة جداً، تجد الجوامع ممتلئة، ولو دخلت بيوت رواد المساجد لَمَا وجدتَ في هذه البيوت ما يشعر أنهم متمسكون بهذا الدين، هذه المسافة بين الشروخ وبين الاعتقاد، هذه حالة مرضية يجب أن تعالج.
الأمانة و الصدق و التواضع عوامل تشد الإنسان إلى الإسلام:
أساساً أقول لكم دائماً النبي عليه الصلاة والسلام يقول:
(( لن تغلب أمتي من اثني عشر ألفاً من قلة ))
[ الجامع الصغير ]
فكيف إذا كنا ملياراً و مئتي مليون ؟! معنى ذلك أنّ عندنا خللاً خطيراً، أداء الصلوات من دون استقامة، تصبح الصلاة جوفاء، أداء الصيام من دون ضبط الجوارح، فالصيام أجوف، أداء مناسك الحج دون عقد صلح قطعي، يصبح الحج سياحة، الأعمال التي يبدو للناس أنها أعمال عظيمة، إذا ابتغي بها السمعة والمديح والثناء، فهذه الأعمال تُفرغ من مضمونها، وتنتهي إلى الإحباط، فنحن نعاني من مشكلة مُرّة حقًّاً، إنّ هناك ملايين في العالم الإسلامي، مشاعرها مع الإسلام، تفكيرها إسلامي، تمنياتها إسلامية، كذلك إذا دخلت إلى أعمالهم تجدهم يتعاملون بالربا، تجد كسباً غير مشروع، إذا دخلت إلى بيوتهم لا تجد انضباطاً، لا من حيث الحجاب، ولا من حيث وسائل اللهو، فإذا لم يتميز المسلم، وإذا لم يكن إيمانُهُ صارخاً، وإذا لم يكن إيمانه حقيقياً في عمله، فكيف يَعظُمُ هذا الدين ويسود ؟ الذي أراه أن الذي يشد الناس إلى الدين ليس الصلاة، الصلاة فرض، لكن الذي يشد الناس إلى الإسلام أمانتك، صدقك، وتواضعك.
من آمن بالله الإيمان الحق عليه أن يطبق هذا في بيته و علاقاته:
النجاشي لما سأل سيدنا جعفر عن الإسلام وعن نبي الإسلام ماذا قال ؟ قال: كنا قوماً أهل جاهلية حتى بعث الله فينا رجلاً نعرف أمانته، وصدقه وعفافه، ونسبه، المفروض أن المؤمن يكون في أعلى درجات الأمانة، في أعلى درجات الصدق، في أعلى درجات الاستقامة، في أعلى درجات الإتقان والإخلاص، حتى يشد الناس للدين، باستقامته، بكلمته الصادقة، بتواضعه الشديد، بحبه للخير، هذا الذي أتمنى على الله عز وجل أن يوفقني في هذا الدرس إلى بيانه وتوضيحه،﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ﴾، هذا هو الجانب الاعتقادي، يعني آمنت بالله خالقاً، وآمنت به مربياً، وآمنت به مسيراً، آمنت بالله موجوداً، آمنت به كاملاً، وآمنت به واحداً، آمنت بأسمائه الحسنى وصفاته الفضلى، وماذا بعد الإيمان بالله ؟ ماذا تنتظر ؟ إصلاح بيتك، عملك، حرفتك، حركاتك، سكناتك، اتصالاتك مع الآخرين، متى تغضب ؟ متى ترضى ؟ متى تعطي ؟ متى تمنع ؟ متى تصل ؟ متى تقطع ؟ وفق منظومة قيم، هذا الذي نشعر أننا بأمس الحاجة إليه،﴿ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا﴾، فالمؤمن الصادق مهما عظمت دنياه، إذا جاءته من طريق غير مشروع، ينبغي أن يركلها بقدمه، المال مهما كثر إذا كان فيه شبهة، ينبغي أن يدوسه بقدمه، لأن الله عز وجل هو الغني، وهو الرزاق، وهو المعطي، وهو المعز، وهو ذو القوة المتين.
لا يتعاظم إيمان الإنسان إلا إذا طبق ما يعتقد:
إذًا يلمح من الآيات أنهم قالوا ربنا الله، والقول تعبير عن إيمانهم، عما استقر من حقائق الإيمان في قلوبهم، ثم قال، مرة ومرتين وثلاثاً و أربعاً، كلما رأى آية، قال ربي الله، ربي وربك الله، النبي رأى الهلال قال: ربي وربك الله، كلما رأى آية كونية في السماوات أو في الأرض، ورأى ظاهرة تدل على عظمة الله، عظم الله بذكره المتواصل، يعني أحياناً، التراخي يفيد التكرار، يفيد الاستمرار، يفيد التراكم، يعني آمن وآمن وآمن وآمن وآمن، إلى أن حمله إيمانه المتراكم على الاستقامة على أمر الله، الإنسان قد يتولّى بنفسه فحص ذاته، فقد يعطي بعض الأطباء مريضاً جهازاً يفحص مستوى السكر ذاتياً، وقد يجري فحصاً دورياً، وأحياناً يعطيه جهاز ضغط، افحص ضغطك كل يوم، فإذا كان الإنسان حريصاً على صحته، حريصاً على جسمه، حريصاً على سلامة أعضائه وأجهزته، يحضر جهازاً إلى البيت، يقول لك: أنا أفحص ضغطي كل يوم، أنا أفحص السكر كل يوم، فهل تفحص إيمانك كل يوم ؟ مثل حرصك على فحص السكر كل يوم، والكوليسترول، والضغط، فلا بدّ أنْ تكون حريصاً على فحص إيمانك، فإيمانك يتعاظم بمدى تطبيقك لما تعتقد.
لا خوف عليهم و لا هم يحزنون: من ثمارها:
المؤمن معافى من القلق الذي يشيع بين المقصرين:
قالوا ربنا الله ثم استقاموا، عندئذ، قطفوا الثمار، أول ثمرة فلا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، هذا الخوف من المستقبل، هناك قلق عميق عند الإنسان البعيد عن الله عز وجل، المستقبل مظلم، يقول لك: تواجهه مفاجآت، وتطالعه أخطار، لعلي لا أستمر في عملي، هذا هاجسُه إذا كان موظفاً، وكان دخله كبيراً، فلعل تجارتي تبور، إذا كان وكيلاً حصرياً لشركة مثلاً، ولعل مشروعي لا ينجح، ويخشى أنْ تقع منافسة، فهو دائماً يرى في المستقبل شيئاً مخيفاً، كأن هناك ألغاماً في المستقبل، كأنما يغشاه ظلام، ظلمات بعضها فوق بعض، هذا القلق الذي يشيع بين المشركين، يشيع بين المقصرين، فالمؤمن معافى من كل هذا، فلا خوف عليهم:
﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾
[سورة التوبة: الآية 51 ]
الله عز وجل لا يغير ما بك من نعمة إلا إذا غيرت ما بك من استقامة:
﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾
[سورة الرعد: الآية 11]
انظر، دقة الآية، فأنت في بحبوحة، وأنت على منهج الله، الله عز وجل لا يغير ما بك من نعمة، إلا إذا غيرت ما بك من استقامة، إذاً المقصود الآن أن الثمرة الأولى، فلا خوف عليهم، الشدة النفسية، الضغط النفسي، القلق الممزق، الضياع، الشعور بالقهر، بالحرمان، الخوف الشديد، فهذه الأمراض النفسية، وهذه الشدة النفسية، إنْ صحّ التعبير، هي وراء أمراض كثيرة، وراء أمراض القلب، والأوعية والضغط، وأمراض الجهاز الهضمي، أمراض لا تعد ولا تحصى، حتى إن الشدة النفسية وراء الأمراض العضالة التي سببها ضعف المناعة في الإنسان، إذاً لا خوف عليهم، أنت عبد، لك أن تتلقى عن الله أمره، وعليك أن تطيعه، وانتهى الأمر، وهذا المعنى موجود بآيتين:
﴿بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)﴾
[سورة الزمر]
وانتهت مهمتك، وقوله تعالى:
﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آَتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144)﴾
[سورة الأعراف]
مهمة الإنسان في الدنيا:
تجد إنساناً بالتعبير العامي، " يحمل السُّلم بالعرض" بالعرض، دائماً يعترض، وينتقد، ويتشاءم، وييأس، ويقنط من رحمة الله، أنت لك مهمتان ؛ مهمة أن تعرف الله عز وجل، ومهمة أن تستقيم على أمره وانتهت مهمتك إذ صار أمرك بيده، دع همَّك عند الله عز وجل، هذا الهم الكبير دعه عند الله، واسترح، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون على ما مضى،
حياة المؤمن تبدأ بعد الموت:
قد تجد الإنسان الذي تجاوز الخمسين أو الستين، متألماً أشد الألم على شبابه، كان نشيطاً، وكان يتمتع بصحته تامة، وكان يتحرك حركة خفيفة، أمّا الآن فإنّ حركته صارت ثقيلة، فإذا كنت تتوهم أن الحياة تنتهي عند الموت، فعندئذٍ والله معك الحق، لكنْ ما قولك إذا كانت الحياة تبدأ بعد الموت، نعم تبدأ بعد الموت، والدليل تجده في حسرة الكافر بعد أنْ ظهرت له الحقيقة مُرّة صارخةً فهو:
﴿يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24)﴾
[ سورة الفجر ]
فالحياة الحقيقية بعد الموت، والإيمان بالآخرة يحل كلَّ مشكلة، فإذا آمن الإنسان يقيناً أنه توجد آخرة، والآخرة هي حياة أبدية مسعدة، لهم ما يشاؤون فيها، على الطلب، بينما الدنيا قائمة على السعي، على السعي المضني، على السعي مع الكدح الشديد، أما الآخرة فعلى الطلب، لمجرد أن تتمنى شيئاً فهو أمامك، والدليل قوله تعالى:
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)﴾
[سورة ق]
فهذه الحياة الأبدية، إذا أنت آمنت بها إيماناً حقيقياً، وسعيت من أجلها، فليس عندك من مشكلة، هكذا تمتص كل مشاكلك، والإنسان لما يرى أن الدنيا ممرٌّ وليست مقراً، ويرى أنها مرحلة إعداد وليست مرحلة استقرار، يسعد بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام،: إن أسعد الناس في الدنيا أرغبهم عنها، وأشقاهم فيها أرغبهم فيها.
من ازداد علماً ازداد رفعة و مكانة عند الله عز وجل:
إذاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، شيء جميل جداً، لا تحزن على ما فات، ولا تخشَ مما هو آت، أول ثمرة نفسية لمن قال: الله ربي، واستقام على أمر الله عز وجل، أنه لا يندم على ما فات، ولا يخشى مما هو آت، ولكنّ الذي يحطم الناس، القلق والندم، القلق من المستقبل، والندم على الماضي، فهو يرى أن الشباب مضى وانتهى ولن يعود، كما يرى أن ليس هناك حياة غير الحياة الدنيا، إذاً حينما تمضي دنياه، أو يمضي معظمها، أو يبقى منها أمد يسير، فهذا يورث نفسه كآبة، ويقول لك طبيبه: إنه يعاني من مرض كآبة، وهذا المرض منتشر بأوربا بشكل مذهل، طبعاً هو لا يؤمن بآخرة فأعطى نفسه كل الشهوات حينما كان شاباً، فلما كبرت سنه، وضعف بصره، وانحنى ظهره، وشاب شعره، وأصبح على هامش الحياة، انفض عنه الناس، وتهرب منه أهله، فدخل بمرض الكآبة، الكآبة يعني شعور بالنهاية، شعور بالاضمحلال، لكنّ الإنسان إنْ آمن بالآخرة لم تعد هناك شيخوخة، بل شباب دائم، كلما ازداد علماً ازداد رفعة عند الله، كلما ازداد علماً ازداد مكانة، كلما ازداد علماً ازداد تألقاً، كلما ازداد علماً وعملاً ازداد سعادة، فلذلك مرض الكآبة هو محصلة القلق والندم، الندم على ما مضى، والقلق مما سيأتي، هذه المحصلة، هي الكآبة، والمؤمن معافى من هذا المرض ولا يعاني من كآبة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(14)﴾
[سورة الأحقاف ]
عطاء الدنيا محدود و عطاء الآخرة إلى أبد الآبدين:
هؤلاء الذين في الدنيا، تعرفوا إلى الله، واستقاموا على أمره، وفي الدنيا لم يخشوا مما سيأتي، ولم يندموا على ما مضى، هؤلاء أصحاب الجنة خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون، والحقيقة أن من كرم الله عز وجل أن حياتك في الدنيا معدودة: ستون، سبعون، خمس وسبعون، أو ثلاثون، أو أربعون، أو خمسون، إنها سنوات معدودة، لكن عطاء الآخرة بعدها إلى أبد الآبدين، في هذه الدنيا المحدودة، إيمانك بالله، واستقامتك على أمره، يجعلك من أهل الجنة، من أصحاب الجنة، خالدين فيها جزاء بما كانوا يعملون.
من حمل ابنه على طاعة الله عندئذ يغدو الابن عملاً صالحاً مستمراً لوالديه:
يتبع لطفآ
تعليق