بسم مالك يوم الدين
والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين , وعلى آله الطيبين الطاهرين , لاسيما قائمهم ومنتظرنا عليهم أفضل الصلاة والتسليم
والصلاة والسلام على محمد خاتم النبيين وتمام عدة المرسلين , وعلى آله الطيبين الطاهرين , لاسيما قائمهم ومنتظرنا عليهم أفضل الصلاة والتسليم
عشق الله عز وجل كالهواء الذي يهب ليحرك سفينة النفس التائهة وسط بحار الأهواء، ولكن سفينة النفس لا تتحرك بدون رفع أشرعة القابلية النفسانية لتلقّي رياح الحضرة الإلهية الجاذبة للسفينة إلى شاطئ الحضرة المقدسة وبر الأمان من غوائل الشيطان، أما بعد هذه جولة في معرفة موجبات وموانع العشق الإلهي وكيفية تحصيله وتثبيته.
* الموانع :
للقلب صفحة واحدة فقط! فلا تملأها بالتفاهات! {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} محبوب واحد يكفي ؛ قال الإمام علي عليه السلام (وَمَنْ عَشِقَ شَيْئاً أَعْشَى بَصَرَهُ، وَأَمْرَضَ قَلْبَهُ، فَهُوَ يَنْظُرُ بِعَيْن غَيْرِ صَحِيحَة ٍ، وَيَسْمَعُ بَأُذُن غَيْرِ سَمِيعَة ٍ).
وهذه الصفحة المقدسة (القلب) يجب أن تكون خالية لأجل تثبيت العشق عليها ؛ قال الإمام الصادق عليه السلام : (إذا تخلّى المؤمن من الدنيا سما، ووجد حلاوة حب الله، وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط، وإنما خالط القوم حلاوة حبّ الله، فلم يشتغلوا بغيره).
المطلوب الآن هو إزالة الحجب عن وجه القلب ليشاهد جمال الله تعالى فيعشقه، فالبيت المظلم لا يشرق فيه نور العشق!
الإنسان - حسب فطرة عشق الكمال - يُقدس كل ما يعجبه سواء اً كان صديقاً أو أخاً أو جماداً أو العواطف الإنسانية وحتى العلم!
وهذا شرك في مقام العمل : {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يجب جعل هذه الأشياء لله تعالى : ما كان لله ينمو!.
* الموجبات :
التفكر في الآيات الآفاقية موجب لتنزه القلب من الكدورات، ومع مرور الزمن يدرك الإنسان أنه لا يختلف عن الحيوان في المأكل والمنكح! فإذا أدرك ذلك فلينفذ من مخالب هذه الدنيا، يقول الإمام علي عليه السلام {وَ أَخْرِجُوا مِنَ اَلدُّنْيَا قُلُوبَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَخْرُجَ مِنْهَا أَبْدَانُكُمْ} إذا سرت في طريق الإستقامة والعشق فترة ً من الزمن ستدرك شيئاً فشيئاً أن الدنيا بشعة!
يقول الإمام علي عليه السلام {فَفِيهَا اُخْتُبِرْتُمْ وَ لِغَيْرِهَا خُلِقْتُمْ}!
لا يمكن أن تعشق من لا تعرف، وتمام المعرفة هي الإعتقاد بأحدية الذات حيث لا يمكن أن تعشق من لا تراه كاملًا في العدل.. وكلما حاولت التوجه إليه ظهرت الشكوك لتسقطك!
فيتضح أن العقيدة أمر مهم، وأضف لذلك مودة أهل البيت عليهم السلام وبغض أعدائهم.
ورد أن الشيخ رجب علي الخياط قدس سره الشريف يؤكد أن الإحسان للمساكين والترحم عليهم - تحت إطار الشرع - موجب لانقداح عشق الله تعالى، إذا لم تعثر على المساكين فانظر بعطف لسائر خلق الله لانتسابهم لله، وكل ذلك يؤدي إلى تلطيف القلب وظهور الرحمة فيه وحينها تستطيع أن تدرك رحمة الله تعالى لأنك تحوي شيئاً من الرحمة، ولكن انتبه لئلا تحتجب عن الله تعالى بخلقه فتنشغل عن الحضور لديه عز شأنه.
لا تترك القلب كالدابة المرسلة! عليك بأخذ زمامه وتوجيهه نحو الله، ولتيسير ذلك عليك بالتفكر في الآيات الآفاقية ليورثك الفكر ذكراً وعشقاً له! ولا تجلس في مجالس الغفلة فتحتجب، فليكن بدنك مع الناس وقلبك مع الله!
يقول رسولُ اللهِِ (صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَ آلِهِ): {لولا تَمَزُّعُ قلوبِكُم وتَزَيُّدُكُم في الحَديثِ لَسَمِعتُم ما أسمَعُ}.
والتفكر لا يجتمع مع البطن الممتلئ، قال الإمام الباقر عليه السلام : {ما من شيء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مملوء} بل وحتى الإشتغال بسائر الشهوات.. حتى المباحة منها.
قال أمير المؤمنين عليه السلام : (إذا أراد الله سبحانه صلاح عبده ألهمه : قلة الكلام، وقلة الطعام، وقلة المنام).. وأضف لذلك ترك مجالسة الجهلاء الدنيويين.. إلا بقدر الضرورة و (لكن يوجد عنصر آخر أيضاً يكون بالنسبة لهذه العناصر الأربعة كالروح بالنسبة للجسد وهو الذكر الدائم) [العارف النخودكي قدس سره].
وذكر الله هو عشقه لا غير!
* كيفية تحصيله :
بعد إزالة النجاسات عن وجه القلب وصقله وتنظيمه، يأتي دور الكتابة والتلقين، يقول السيد الإمام الخميني - قدس سره - ما مضمونه أن القلب في حال الذكر كالطفل الذي يتعلم النطق، فعليك الآن وبعد تطهير القلب أن تختار وقت ومكان مناسبين لإدخال العشق ونقشه على القلب بمداد اللسان والعقل مستخدماً كلمة (يا رب) أو أي اسم له - عز وجل - تطمئن به، ومع كل مرة تقوم بالذكر إستحضر أنك تنظر إليه وتخاطبه، ولا بأس من التبسم له في ذلك الحال.
لا تقتصر على الذكر اللساني في تشديد العشق بل تحدث معه في قلبك {دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ} وحتى لو كنت في معركة أو بين جم غفير من الناس أو مع أصدقائك أو أي مجلس آخر ؛ إذهل عنهم ولو للحظة وانظر إلى الله تعالى وناجِه في قلبك، ولا بأس أن تقتصر بكلمة " يا رب " في قلبك وأنت على هذا الحال، وهذا الحال لا يخلو من لطف، وحينها ستعيش مالا يعيشه الآخرون، في عالم آخر بعيدا عن المتاعب!
قال الرسول الأكرم صلى الله عليهم وآله وسلم : (يَا أَبَا ذَرٍّ : اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
{إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} معنى الآية أن العمل الصالح بمثابة جناحين يمكّنان النفس من التجول في سماء العشق للحضرة الأحدية المقدسة، فالعمل الصالح من شأنه رفع الأذكار وحصول الثمار.
أفضل الأوقات للذكر وتحصيل المحبة هو قبل الشروق ووقت السحر، والسبب هو قلة إنشغال القلب عن الدنيا في تلك الأوقات، وأفضل الأماكن المسجد حين خلوه من الناس، أو أي مكان لا يوجد فيه إنسان فهو مناسب لأنه يزيد في توجه النفس لجهة واحدة وهي الله تعالى.
قد تنفر النفس من الذكر لعدم اعتيادها عليه، ففي حال عدم جدوى الأذكار حاول في وقت آخر لأن ذلك يوجب قسوة القلب عن ذكر الله تعالى فاحذر!
يقول الإمامُ الرِّضا (عَلَيهِ الّسَلامُ): {إنَّ لِلقُلوبِ إقبالاً وإدباراً، ونَشاطاً وفُتوراً، فإذا أقبَلَت بَصُرَت وفَهِمَت، وإذا أدبَرَت كَلَّت ومَلَّت، فَخُذُوها عِندَ إقبالِها ونَشاطِها، واترُكُوها عِندَ إدبارِها وفُتورِها}.
بل وحتى لو لم تكن من الطائعين فقم بالذكر لينقشع الظلام من القلب وهو قول علي عليه السلام {ذكر الله دواء أعلال النفوس} فالعشق دواء للمعصية وسيف محاربة الأهواء، إذا همت النفس بالمعصية فاعشق الله كأنك تراه وهو يراك!
وهنا كلام للسيد الطباطبائي حول من أخلص نفسه لله :
(هؤلاء مستغرقين فيه سبحانه، ولا يرون إبليس ولا وسوسته ولا إحضاراً ولا حساباً وإليه الإشارة في الحديث القدسي : " أوليائي تحت قبائي، أو ردائي ")
ويقول بعد ذكر المجاهدة والإنقطاع إلى الله تعالى :
(ويطلع من الغيب طالع ويتعقبه شيء من النفحات الإلهية والجذبات الربانية، ويوجب حباً وإشرافاً، وذلك هو الذكر!)...(وجذبته جذبة الشوق إلى لقاء الله سبحانه، فانهدت أركانه واضطربت أحشائه، وحار قلبه وطار عقله، وانسلّ عن الدنيا وزخارفها، ولم يقع همه على العقبى ونعيمها، ولا دين للمحب إلا المحبوب ولا مطلوب له إلا المطلوب).
* تثبيت ودوام العشق :
يجب عليك أن توصل هذا العشق من حال مؤقت إلى مقام دائم لك، (والعمل الذي تقدم ذكره هو عمل جزئي بسيط، ولا إشكال فيه ولا يتعارض مع الأعمال الأخرى، وليس فيه أي ضرر، لذا فمن المفيد أن يلتزمه طالب الحق تعالى مدة، فإذا رأى منه أثراً في تصفية قلبه وتطهيره، وتنور باطنه، فليعمل به أكثر.... وإذا خصص عدة دقائق في اليوم والليلة - بحسب إقباله وتوجهه، أي بحسب مقدار حضور قلبه - لمحاسبة النفس على مقدار سعيها في اكتساب نور الإيمان [وهو الذكر الدائم لله تعالى]، ومطالبتها بهذا النور والبحث عن آثار الإيمان فيها، فإن ذلك سيؤثر في حصوله على النتائج بصورة أسرع إن شاء الله)[السيد الإمام الخميني قدس سره].
(وأؤكد هنا تمام التأكيد على الصلاة لأنها معراج المؤمنين، وليس المهم عندي أن يرى الإنسان في المنام رؤيا لمرة أو مرتين أو أن يشاهد وقت الذكر نوراً بل يتلخص جوهر الأمر على قضيتين، إحداهما : الطعام الحلال، والثانية : الإنتباه في الصلاة ؛ فإذا صلحت هاتان صلح ما سواهما. ولب اهتمامي هو إصلاح القلب، وما ذكر {يا حي يا قيوم} في الأسحار إلا لهذا الغرض.... الأشخاص الذين يرغبون باتباع طريقتي عليهم أولاً فهم المعاني الصورية للصلاة، ثم التأويلات المعروضة ومن بعدها النقاط الأخرى، بنفس النحو الذي ذُكر عن الإمام الصادق عليه السلام في تكرار عبارة {إياك نعبد} حتى غُشي عليه، لا أن يتجاهل المرء الأحكام الشرعية ويُركز كل همه على الأذكار. فالحقيقة لا بد وأن تُستقى من الشريعة..... التكليف اليوم هو أولاً : الصلاة في أول وقتها، وثانياً : الإهتمام بحضور القلب عند الصلاة، وإنّ هذا العمل كالخط في الكتابة [الإستنساخ] لا يصلُح بيوم أو يومين بل يستلزم وقتاً طويلاً، وبعد الفراغ منه تأتي على النهوض قبل الصباح) [العارف الشيخ حسن علي الأصفهاني (النخودكي) قدس سره].
(ثم لا يزال بارق يلمع، وجذبة تطلع وشوق يدفع، حتى يتمكن سلطان الحب في القلب، ويستولي الذكر على النفس، فيجمع الله الشمل، ويختم الأمر وإن إلى ربك المنتهى). [السيد العلامة الطباطبائي]
ينقل العارف الشيخ الأصفاني :
(يقول المرحوم الفيض بعد هذه العبارات : حسبما يقول أرباب المعرفة، الذكر أربع مراتب :
الأول : ذلك الذكر الذي يجري على اللسان فقط.
الثاني : ذلك الذي عادوه على اللسان، يصير القلب ذاكراً ومتذكراً أيضاً وبديهي أنه لحضور القلب يلزم المراقبة والمداومة، لأن القلب إذا تُرك لحال نفسه يسرح في وادي الإنكار.
الثالث : ذلك الذي يتمكن من القلب أيضاً ويستولي عليه بشكل يكون رجوع القلب منه صعباً كما كان في النوع الثاني حضور القلب بالنسبة للذكر مشكلاً.
وأخيراً الرابع : ذاك الذي يكون فيه العبد مستغرقًا في المذكور " جل شأنه " مباشرة بأن لا ينتبه أبداً إلى ذكره ولا إلى قلبه - في هذه الحال التي ينصرف توجه الذاكر إلى الذكر، نفس الذكر يكون حجاب روحه، وهذه الحال تكون نفس التي عُبّر عنها في عرف العارفين بالفناء، وذلك كل المقصود وتمامه وكمال المطلوب من ذكر الباري تعالى).
العشق لا يستقر إلا إذا خلا وجه القلب، وكمال المطلوب في قول الرسول صلى الله عليه وآله (اعْبُدِ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ كُنْتَ لَا تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
تعليق