الصحيفة السجادية
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، و أفضل الصلوات على سيّد الكائنات محمّد الذي ختم برسالته النبوّات ، و على الأئمّة الأطهار السادات ، و على أصحابهم المؤمنين الأخيار و أتباعهم الأبرار مدى الدهور و الأعوام و الشهور و الأيّام و الساعات و الآنات ، و بعد :
فإنّ من عِبَر التاريخ أن نجتمع هذه الأيّام ، في هذه المدينة العريقة دمشق الشام ، محتفلين بأثر من الآثار الخالدة للإمام الهمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، زين العابدين عليه و على آبائه السلام ، لنتحدّث عن هَدْيه و معارفه من خلال هذا الكتاب العظيم : « الصحيفة السجّادية » .
و العبرة التي ذكرناها ، هي أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقف عام ( 61 ) للهجرة ، و في مثل هذه الفترة الزمنية ، بالذات ، و على منبر المسجد الجامع في نفس هذه المدينة «دمشق» و في إحتفال أقامه الحاكم يزيد بن معاوية ، بحضوره و المحتفلين الذين غمرتهم نشوة الإنتصار و السرور يجلب الأسرى من معركة « كربلاء » الدامية .
ففي مثل هذا الحفل المهيب ، إنطلق الإمام ، يهدر على المسامع بخطبته العصماء ، التي لم يزلْ فيها معرّفاً بنفسه قائلا : « أيّها الناس ، اُعطينا سِتّاً ، و فُضّلنا بسبع ، اُعطينا العلم ، و الحلم ، و السماحة ، و الفصاحة ، و الشجاعة ، و المحبّة في قلوب المؤمنين . و فُضّلنا بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و منّا الصدّيقُ ، و منّا الطيّار ، و منّا أسدُ الله و أسدُ الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، و منّا سِبطا هذه الاُمّة و سيّدا شباب أهل الجنّة .
فمن عَرَفني فقد عَرَفني ، ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي : أنا ابن مكّة و منى ، أنا ابن زمزم و الصفا ، أنا ابن مَن حمل الركن 1 بأطراف الردا .
قال الحافظ الخوارزمي : ولم يزل يقول : « أنا ، أنا » حتّى ضجّ الناس بالبكاء و النحيب » 2 .
فتعرّف المحتفلون على شخص الإمام و شخصيته ، و كانت اُولى ثمرات ذلك الكلام أن تحوّلت الأفكار ، و تبدّلت سياسة الحاكم تجاه الأسرى ، فسرّحهم إلى موطنهم « مدينة جدّهم الرسول » .
و نحن اليوم محتفلون هنا ، في زمان و مكان ، نظير ذلك الحفل ، لنتعرّف على الإمام ( عليه السلام ) من خلال كلامه المرسوم على صفحات الصحيفة السجادية ، هذا الأثر العظيم الخالد ، علّنا نخرج متحوّلين في نظرتنا إلى الإمام ، فنعود عاقدين العزم على إعادة موقفنا من فقهه و تراثه ، و خصوص هذا الكتاب « الصحيفة السجّادية » و رواته العظماء الذين حملوه ، و الطائفة التي اعتنت به ، و احتضنته حتّى اليوم .
لِنَقِفَ على كنز من المعرفة ، طالما اُخُفِيَ! ولم تتمكّن الاُمّة الإسلامية الكريمة من الإستفادة التامّة من لآلئه .
و نشكر الله العزيز الجليل ، على هذه النعمة التي خصّ اُمّتنا بها بين الاُمم ، فجعل أهل البيت النبوي رحمةً لأوّل هذه الاُمّة و آخرها ، فالفضل في هذا الكنز يعود ـ بعد منشئه و مبدعه الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) ـ إلى الأئمّة العظام من أولاده الذين نقلوا هذه الصحيفة و راقبوا على تداولها ، و هما : الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو جعفر ، الباقر ( عليه السلام ) و الإمام زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، حيث أودعا ما أملاهُ أبوهما الإمام عليهما ، لدى أولادهما ، مؤكّدين على الحفاظ على النسخ ، مهتّمين بذلك غاية الإهتمام ، حَذَراً من وقوعها في أيدي عِداة العلم و الدين من الحكّام الطغاة الظالمين ، الذين يُحاولون إبقاء الاُمّة في الجهل ، و منعهم من التعرّف على المخلصين من العلماء الواعين ، إلى حدّ المنع من الكتابة و التدوين ، و المنع من نقل الحديث ، حتّى تعطيل مراكز العلم و الثقافة و هجر محاور الفقه و المعرفة ، بل قلبوا المدينة المشرفة المنوّرة من مرز الإشعاع الديني و الفكري ، و منطلق العلم و الجهاد ، لمركز للغناء والمجون والميوعة .
في مثل تلك الظروف الحرجة ، قام رواة هذا الكنز و حملته الاُمناء بحفظه وصيانته و جعله من « المظنون على غير أهله » و تداولته الصدور المطمئنّة و القلوب الآمنة و الأيدي الوثيقة ، حتّى بلغنا ـ و الحمد لله ربّ العالمين ـ بأوثق الطرق المتضافرة ، و تواترت نسخه الثمينة النفيسة ، و إنتشر نصّه المقدّس في عصرنا إنتشار النور ، و بلغ إلى أكثر الاُمم بترجمته إلى لُغاتهم ، فعلينا ، و نحن نعيش عصر الانترنيت ، و أساليب الإعلام السريعة و السهلة أن نُبادر إلى نشره و تعريفه إلى العالم بأفضل شكل ، ليكون دليلا آخر على عظمة الفكر الإسلامي ، و جدارته بالخلود ، و ليتروّى عالَمُ القرن الحادي و العشرين ، من معارفه العذبة الرويّة ، و ليتزوّد من ثماره اليانعة الغنيّة .
و ليكون تفنيداً للمزاعم الظالمة ، و التهم الباطلة ، التي تكيلها العلمانية و أنصارها ضدّ الإسلام و معارفه و تراثه و أحكامه في الإجتماع و الإقتصاد و الوجود و الكون .
إنّ إنشاء نصّ الصحيفة السجّادية في القرن الأوّل الهجري ، السادس الميلادي ، في مثل بيئة الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بظروفه الخاصّة ، حيث كان متّهماً من قبل أجهزة الدولة ، لأنّه الوريث الوحيد لكلّ أمجاد أصحاب الرسالة من جدّه الرسول المصطفى ، و علي المرتضى و أبيه الشهيد في كربلاء .
و الظروف العامّة : حيث لا تزال الدولة تتولّى كِبْر منع الثقافة والتثقيف ، بمنع الكتابة و التدوين ، و منع الفقاهة و التحديث .
و المطاردة للإمام إلى حدّ المراقبة و الجلب و التقييد إلى عاصمة الحكّام ، و هذه المدينة « دمشق » الشام ، أكثر من مرّة .
فظهور هذا النصّ ، و بهذه القوّة في المحتوى و الأداء لهو من الميّزات التي يجعله في صدر قوائم الروائع البشرية الخالدة ، و هو من دواعي فخر المسلمين و إعتزازهم حيث يملكون مثله منذ ذلك التاريخ .
و لئن مرّت فتراتٌ مظلمة في تاريخ الاُمّة ، سوّدت صحائف منه ، فكتمت مثل هذه الذخائر ، و عتّمت على مثل هذه الأمجاد و المفاخر ، و تحكّمت الطائفية المقيتة في النفوس باعراضها و أحقادها ، و نشرت المخاوف ، بدل المعارف ، فمنعت من نشر هذا التراث العظيم ، الذي يشهد لعظمة المسلمين و مجدهم و علوّ كعبهم في الثقافة و الفكر قبل أربعة عشر قرناً .
فإنّ من مخلّفات تلك الظلمات هي المظالم التي يتولّى كِبْرها فئات مظلّلة ، مغفّلة ، تُثير الشبهة و الشكّ في وجه الحقّ و الحقيقة ، بما أدّى إلى جهل الجيل بهذا النصّ ، و إغفاله من قبل المهتمّين بالأدب و الفكر ، مع توجّههم إلى الأقلّ منه في القِدَم ، و ما لا يبلغ شأوه في العِظم ، من النصوص المرويّة عن مجهولي الهويّة ، و الشخصيّة ، من أصحاب الأهواء .
فلماذا مثل هذا ؟
أمّا هذه الرائعة ، فهي من لسان عربيّ صميم و أليق من إكتسى الأمجاد ، من خصّه الله بوحيه فبه فاه ، و بالبلاغة حلاّه ، و بمكارم الأخلاق حباه ، باعتباره الصادع بالشريعة الغرّاء ، و الواسطة بين الأرض و السماء ، و المطّلع على أسرار الخليقة ، و الواقف على المجاز و الحقيقة 3 .
من بني هاشم الذين قال فيهم عليٌّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « و إنّا لاُمراء الكلام ، و فينا تنشبّت عروقه ، و علينا تهدّلت غصونه» 4 .
و من ذريّة الرسول ، أفصح مَن نطق بالضاد حفيد علي بن أبي طالب «مشرع الفصاحة و موردها و منشؤ البلاغة و مولدها . . . لأنّ كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي ، و فيه عبقة من الكلام النبويّ » 5 .
و قد سمعناه يقول في خطبته من على منبر الجامع بدِمَشْق :
« اُعطينا : السماحة و الفصاحة » و ها نحن نجدها بارزة متلالئة هنا .
شخصيّة الإمام :
الإمام السجاد زين العابدين ( عليه السلام ) الذي احتلّ في الإسلام مقاماً عظيماً حتّى قال فيه الشافعيّ إمام المذهب : إنّه أفقه أهل البيت ، بل قال الزُهْريُّ : ما رأيت أحداً كان أفقهَ منه 6 و بعد إجماع المسلمين ، بكلّ فرقهم و طوائفهم ، على عظمة الإمام ، و إستحقاقه للمقام السامي الذي يحتله ، ليس لأحد المناقشة في ذلك :
فهو عند الإمامية الرابع من أئمّتهم المعصومين المنصوص عليهم ، و كذلك هو عند الشيعة الإسماعيلية ، و عند قدماء الشيعة الزيدية ، و هو عند متأخّريهم من دعاة الأئمّة ، و أمّا عند عامّة أهل السنّة ، فلم يخالف فيه أحدٌ منهم ، بل قال الذهبي ـ أكبر مؤرخّيهم ـ في ترجمة الإمام ما نصّه : السيّد الإمام ، زين العابدين ، و كان له جلالة عجيبة و حقّ له ذلك ، فقد كان أهلا للإمامة العُظمى : لشرفه و سؤدده ، و علمه ، و تألّهه ، و كمال عقله .
و قد عبّر الجاحظ عن هذا الإجماع ، إذ قال : علي بن الحسين لم أرَ الخارجيّ في أمره إلاّ كالشيعي ، ولم أرَ الشيعيّ إلاّ كالمعتزلي ، ولم أرَ المعتزليّ إلاّ كالعامي ، ولم أرَ العامي إلاّ كالخاصيّ ، ولم أرَ أحداً يتمارى في تفضيله ، و يشكّ في تقديمه 7 .
و أمّا التشكيك في سند هذا النصّ :
فهو جهد العاجز ، و اللجوء إلى مثل هذا السلاح ذي الصدأ لا يمضي في مثل هذا النصّ ، لما يلي :
فأوّلا : إنّه يُروى عند طوائف الشيعة كلّها : الإمامية و الإسماعيلية و الزيدية ، بشكل مستفيض ، بل متواتر الطرق إلى الأئمّة الباقر و الصادق و إلى زيد الشهيد ( عليهم السلام ) ، بحيث لا يرتاب فيه أحد و تتعدّد الأسانيد ، و تتضخّم كلّما مرّ الزمان و بَعُدَ ، فتتأكّد النسبة و تتكاثف الأسانيد و تتعاضد الطرق ، بحيث قلّ نظيره في النصوص الاُخرى .
و قد أسند إليه أصحاب الفهارس و المشيخات و عدّوه من الكتب التي عليها المعوّل و إليها المرجع .
ثمّ استندوا إلى ما فيها من الأدعية التي تتلى بعنوان التعبّد في المناسبات و الأيّام و حكموا باستحباب تلاوته خصوص أدعيتها مع إطلاق النسبة إلى الإمام ، و هذا أمر لا يقومون به إلاّ بعد التأكّد و الإلتزام بصحّة النسبة .
لما هو مسلّم عندنا من ورعهم و إحتياطهم و تدقيقهم في مثل ذلك في أبواب الفقه .
و أمّا الطائفة السنّية : فلو لم تقنع بمثل ذلك ، و ليس من مناهجها العلمية رفضه ، بل قد يتذرّع أحد لدعوى عدم الثبوت عندها ، و عدم وصوله إليها بطرقها الخاصّة .
فالجواب : أنّها دعوى مخالفة للمسلّمات ، إذ المفروض ثبوت ذلك عند أهله و أصحابه ، و قطعيته بالنسبة إلى الواقفين عليه ، و من علم حجّة على من لم يعلم ، و من حفظ حجّة على من لم يحفظ ، خصوصاً فيما صدر في بيئة معيّنة فإنّ الملاك ثبوت الصادر عند أهل بيئته ، كالاُمور الحادثة في بلدة معيّنة ، فإنّ اللازم ثبوت حدوثها عند أهل البلدة ، و علمهم بها ، و شهادتهم عليها و ليس للآخرين إنكارها و نفيها ، بدعوى عدم ثبوتها عندهم و لو بُني على مثل هذه الدعوى ، و التزم بلزوم ثبوت كلّ شيء للإنسان بنفسه حتّى يقتنع به ، لما إستقرّ كثير عن الاُمور ، و لأضطربت المسلّمات ، و تعذّرت الحقائق ، و هذا أمر يدفعه الوجدان ، و ينكره كلّ إنسان ، فالعقلاء يعترفون بثبوت الاُمور المسلّمة عند أهلها ، والمقبولة عند ذوي شأنها ، كاُمور التاريخ وحوادثه ، و البلدان و شؤونها .
و ثانياً : إنّ الحاجة إلى السند ، إنّما هو من أجل جواز نسبة المرويّات إلى الشارع الكريم ، و هذا إنّما يختّص بالاُمور التعبّدية المأخوذة من الشارع ، و ليس كلّ أمر بحاجة إلى مثل ذلك ، فالإنشائيات ، التي هي طلبات ، و إظهار لمرادات نفسية ليست بحاجة إلى إسناد ، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم ، لا الصدق و الكذب اللذين هما ثمرة الإستناد إلى الاسناد .
فالأمر الإنشائيى ، إمّا موجود و حقّ و ثابت ، أو معدوم و باطل و مفقود ، و لو نقل مثله ولم يمنع منه دليل عقلي أو عرفي و عادي ، فهو ممكن و لو وافقه العقل و الوجدان و الواقع ، مثل مضامين الصحيفة ، حيث تحتوي التوقّعات و الرغبات النابعة من نفس الداعي ، ولم يخل أحدٌ من السامعين و الناظرين من مثلها ، فليس بحاجة إلى الاسناد .
و ثالثاً : إنّ نسخ الصحيفة ، هي بالكثرة و الوفرة العظيمة و منها النسخ العريقة في القِدم ، و ينتهي بعضها إلى القرن الخامس و الرابع ، و المزدانة بشارات التعظيم و القداسة حيث اعتنى بكتابتها كبار الخطاطين ، و زخرفها الفنّانون بأجمل الزخارف ، و كلّ ذلك يدلّ على العناية الفائقة التي كان أصحابها يولونها لهذه الصحيفة ، كالتي يضعونها عند الكتب المقدّسة .
و إذا اتّفقت النسخ ـ كلّها ، بلا إستثناء ـ و أجمعت على نسبة النصّ إلى الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) قولا واحداً ، ولم يكن هناك ، و لا مورد واحد ، لا في داخل هذه النسخ كلّها ، و لا في خارجها ، بل و لا وقع في خَلَد أحد من الناس : إحتمال النسبة إلى غير الإمام !
أفلا يكون في هذا كلّه مقنع بصحّة النسبة إلى الإمام و عدم الريب فيها .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات ، و أفضل الصلوات على سيّد الكائنات محمّد الذي ختم برسالته النبوّات ، و على الأئمّة الأطهار السادات ، و على أصحابهم المؤمنين الأخيار و أتباعهم الأبرار مدى الدهور و الأعوام و الشهور و الأيّام و الساعات و الآنات ، و بعد :
فإنّ من عِبَر التاريخ أن نجتمع هذه الأيّام ، في هذه المدينة العريقة دمشق الشام ، محتفلين بأثر من الآثار الخالدة للإمام الهمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، زين العابدين عليه و على آبائه السلام ، لنتحدّث عن هَدْيه و معارفه من خلال هذا الكتاب العظيم : « الصحيفة السجّادية » .
و العبرة التي ذكرناها ، هي أنّ الإمام زين العابدين ( عليه السلام ) وقف عام ( 61 ) للهجرة ، و في مثل هذه الفترة الزمنية ، بالذات ، و على منبر المسجد الجامع في نفس هذه المدينة «دمشق» و في إحتفال أقامه الحاكم يزيد بن معاوية ، بحضوره و المحتفلين الذين غمرتهم نشوة الإنتصار و السرور يجلب الأسرى من معركة « كربلاء » الدامية .
ففي مثل هذا الحفل المهيب ، إنطلق الإمام ، يهدر على المسامع بخطبته العصماء ، التي لم يزلْ فيها معرّفاً بنفسه قائلا : « أيّها الناس ، اُعطينا سِتّاً ، و فُضّلنا بسبع ، اُعطينا العلم ، و الحلم ، و السماحة ، و الفصاحة ، و الشجاعة ، و المحبّة في قلوب المؤمنين . و فُضّلنا بأنّ منّا النبيَّ المختار محمّداً ( صلى الله عليه و آله و سلم ) ، و منّا الصدّيقُ ، و منّا الطيّار ، و منّا أسدُ الله و أسدُ الرسول ، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول ، و منّا سِبطا هذه الاُمّة و سيّدا شباب أهل الجنّة .
فمن عَرَفني فقد عَرَفني ، ومَن لم يعرفني أنبأته بحسبي و نسبي : أنا ابن مكّة و منى ، أنا ابن زمزم و الصفا ، أنا ابن مَن حمل الركن 1 بأطراف الردا .
قال الحافظ الخوارزمي : ولم يزل يقول : « أنا ، أنا » حتّى ضجّ الناس بالبكاء و النحيب » 2 .
فتعرّف المحتفلون على شخص الإمام و شخصيته ، و كانت اُولى ثمرات ذلك الكلام أن تحوّلت الأفكار ، و تبدّلت سياسة الحاكم تجاه الأسرى ، فسرّحهم إلى موطنهم « مدينة جدّهم الرسول » .
و نحن اليوم محتفلون هنا ، في زمان و مكان ، نظير ذلك الحفل ، لنتعرّف على الإمام ( عليه السلام ) من خلال كلامه المرسوم على صفحات الصحيفة السجادية ، هذا الأثر العظيم الخالد ، علّنا نخرج متحوّلين في نظرتنا إلى الإمام ، فنعود عاقدين العزم على إعادة موقفنا من فقهه و تراثه ، و خصوص هذا الكتاب « الصحيفة السجّادية » و رواته العظماء الذين حملوه ، و الطائفة التي اعتنت به ، و احتضنته حتّى اليوم .
لِنَقِفَ على كنز من المعرفة ، طالما اُخُفِيَ! ولم تتمكّن الاُمّة الإسلامية الكريمة من الإستفادة التامّة من لآلئه .
و نشكر الله العزيز الجليل ، على هذه النعمة التي خصّ اُمّتنا بها بين الاُمم ، فجعل أهل البيت النبوي رحمةً لأوّل هذه الاُمّة و آخرها ، فالفضل في هذا الكنز يعود ـ بعد منشئه و مبدعه الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) ـ إلى الأئمّة العظام من أولاده الذين نقلوا هذه الصحيفة و راقبوا على تداولها ، و هما : الإمام محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ، أبو جعفر ، الباقر ( عليه السلام ) و الإمام زيد الشهيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) ، حيث أودعا ما أملاهُ أبوهما الإمام عليهما ، لدى أولادهما ، مؤكّدين على الحفاظ على النسخ ، مهتّمين بذلك غاية الإهتمام ، حَذَراً من وقوعها في أيدي عِداة العلم و الدين من الحكّام الطغاة الظالمين ، الذين يُحاولون إبقاء الاُمّة في الجهل ، و منعهم من التعرّف على المخلصين من العلماء الواعين ، إلى حدّ المنع من الكتابة و التدوين ، و المنع من نقل الحديث ، حتّى تعطيل مراكز العلم و الثقافة و هجر محاور الفقه و المعرفة ، بل قلبوا المدينة المشرفة المنوّرة من مرز الإشعاع الديني و الفكري ، و منطلق العلم و الجهاد ، لمركز للغناء والمجون والميوعة .
في مثل تلك الظروف الحرجة ، قام رواة هذا الكنز و حملته الاُمناء بحفظه وصيانته و جعله من « المظنون على غير أهله » و تداولته الصدور المطمئنّة و القلوب الآمنة و الأيدي الوثيقة ، حتّى بلغنا ـ و الحمد لله ربّ العالمين ـ بأوثق الطرق المتضافرة ، و تواترت نسخه الثمينة النفيسة ، و إنتشر نصّه المقدّس في عصرنا إنتشار النور ، و بلغ إلى أكثر الاُمم بترجمته إلى لُغاتهم ، فعلينا ، و نحن نعيش عصر الانترنيت ، و أساليب الإعلام السريعة و السهلة أن نُبادر إلى نشره و تعريفه إلى العالم بأفضل شكل ، ليكون دليلا آخر على عظمة الفكر الإسلامي ، و جدارته بالخلود ، و ليتروّى عالَمُ القرن الحادي و العشرين ، من معارفه العذبة الرويّة ، و ليتزوّد من ثماره اليانعة الغنيّة .
و ليكون تفنيداً للمزاعم الظالمة ، و التهم الباطلة ، التي تكيلها العلمانية و أنصارها ضدّ الإسلام و معارفه و تراثه و أحكامه في الإجتماع و الإقتصاد و الوجود و الكون .
إنّ إنشاء نصّ الصحيفة السجّادية في القرن الأوّل الهجري ، السادس الميلادي ، في مثل بيئة الإمام السجّاد ( عليه السلام ) بظروفه الخاصّة ، حيث كان متّهماً من قبل أجهزة الدولة ، لأنّه الوريث الوحيد لكلّ أمجاد أصحاب الرسالة من جدّه الرسول المصطفى ، و علي المرتضى و أبيه الشهيد في كربلاء .
و الظروف العامّة : حيث لا تزال الدولة تتولّى كِبْر منع الثقافة والتثقيف ، بمنع الكتابة و التدوين ، و منع الفقاهة و التحديث .
و المطاردة للإمام إلى حدّ المراقبة و الجلب و التقييد إلى عاصمة الحكّام ، و هذه المدينة « دمشق » الشام ، أكثر من مرّة .
فظهور هذا النصّ ، و بهذه القوّة في المحتوى و الأداء لهو من الميّزات التي يجعله في صدر قوائم الروائع البشرية الخالدة ، و هو من دواعي فخر المسلمين و إعتزازهم حيث يملكون مثله منذ ذلك التاريخ .
و لئن مرّت فتراتٌ مظلمة في تاريخ الاُمّة ، سوّدت صحائف منه ، فكتمت مثل هذه الذخائر ، و عتّمت على مثل هذه الأمجاد و المفاخر ، و تحكّمت الطائفية المقيتة في النفوس باعراضها و أحقادها ، و نشرت المخاوف ، بدل المعارف ، فمنعت من نشر هذا التراث العظيم ، الذي يشهد لعظمة المسلمين و مجدهم و علوّ كعبهم في الثقافة و الفكر قبل أربعة عشر قرناً .
فإنّ من مخلّفات تلك الظلمات هي المظالم التي يتولّى كِبْرها فئات مظلّلة ، مغفّلة ، تُثير الشبهة و الشكّ في وجه الحقّ و الحقيقة ، بما أدّى إلى جهل الجيل بهذا النصّ ، و إغفاله من قبل المهتمّين بالأدب و الفكر ، مع توجّههم إلى الأقلّ منه في القِدَم ، و ما لا يبلغ شأوه في العِظم ، من النصوص المرويّة عن مجهولي الهويّة ، و الشخصيّة ، من أصحاب الأهواء .
فلماذا مثل هذا ؟
أمّا هذه الرائعة ، فهي من لسان عربيّ صميم و أليق من إكتسى الأمجاد ، من خصّه الله بوحيه فبه فاه ، و بالبلاغة حلاّه ، و بمكارم الأخلاق حباه ، باعتباره الصادع بالشريعة الغرّاء ، و الواسطة بين الأرض و السماء ، و المطّلع على أسرار الخليقة ، و الواقف على المجاز و الحقيقة 3 .
من بني هاشم الذين قال فيهم عليٌّ أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « و إنّا لاُمراء الكلام ، و فينا تنشبّت عروقه ، و علينا تهدّلت غصونه» 4 .
و من ذريّة الرسول ، أفصح مَن نطق بالضاد حفيد علي بن أبي طالب «مشرع الفصاحة و موردها و منشؤ البلاغة و مولدها . . . لأنّ كلامه عليه مسحة من العلم الإلهي ، و فيه عبقة من الكلام النبويّ » 5 .
و قد سمعناه يقول في خطبته من على منبر الجامع بدِمَشْق :
« اُعطينا : السماحة و الفصاحة » و ها نحن نجدها بارزة متلالئة هنا .
شخصيّة الإمام :
الإمام السجاد زين العابدين ( عليه السلام ) الذي احتلّ في الإسلام مقاماً عظيماً حتّى قال فيه الشافعيّ إمام المذهب : إنّه أفقه أهل البيت ، بل قال الزُهْريُّ : ما رأيت أحداً كان أفقهَ منه 6 و بعد إجماع المسلمين ، بكلّ فرقهم و طوائفهم ، على عظمة الإمام ، و إستحقاقه للمقام السامي الذي يحتله ، ليس لأحد المناقشة في ذلك :
فهو عند الإمامية الرابع من أئمّتهم المعصومين المنصوص عليهم ، و كذلك هو عند الشيعة الإسماعيلية ، و عند قدماء الشيعة الزيدية ، و هو عند متأخّريهم من دعاة الأئمّة ، و أمّا عند عامّة أهل السنّة ، فلم يخالف فيه أحدٌ منهم ، بل قال الذهبي ـ أكبر مؤرخّيهم ـ في ترجمة الإمام ما نصّه : السيّد الإمام ، زين العابدين ، و كان له جلالة عجيبة و حقّ له ذلك ، فقد كان أهلا للإمامة العُظمى : لشرفه و سؤدده ، و علمه ، و تألّهه ، و كمال عقله .
و قد عبّر الجاحظ عن هذا الإجماع ، إذ قال : علي بن الحسين لم أرَ الخارجيّ في أمره إلاّ كالشيعي ، ولم أرَ الشيعيّ إلاّ كالمعتزلي ، ولم أرَ المعتزليّ إلاّ كالعامي ، ولم أرَ العامي إلاّ كالخاصيّ ، ولم أرَ أحداً يتمارى في تفضيله ، و يشكّ في تقديمه 7 .
و أمّا التشكيك في سند هذا النصّ :
فهو جهد العاجز ، و اللجوء إلى مثل هذا السلاح ذي الصدأ لا يمضي في مثل هذا النصّ ، لما يلي :
فأوّلا : إنّه يُروى عند طوائف الشيعة كلّها : الإمامية و الإسماعيلية و الزيدية ، بشكل مستفيض ، بل متواتر الطرق إلى الأئمّة الباقر و الصادق و إلى زيد الشهيد ( عليهم السلام ) ، بحيث لا يرتاب فيه أحد و تتعدّد الأسانيد ، و تتضخّم كلّما مرّ الزمان و بَعُدَ ، فتتأكّد النسبة و تتكاثف الأسانيد و تتعاضد الطرق ، بحيث قلّ نظيره في النصوص الاُخرى .
و قد أسند إليه أصحاب الفهارس و المشيخات و عدّوه من الكتب التي عليها المعوّل و إليها المرجع .
ثمّ استندوا إلى ما فيها من الأدعية التي تتلى بعنوان التعبّد في المناسبات و الأيّام و حكموا باستحباب تلاوته خصوص أدعيتها مع إطلاق النسبة إلى الإمام ، و هذا أمر لا يقومون به إلاّ بعد التأكّد و الإلتزام بصحّة النسبة .
لما هو مسلّم عندنا من ورعهم و إحتياطهم و تدقيقهم في مثل ذلك في أبواب الفقه .
و أمّا الطائفة السنّية : فلو لم تقنع بمثل ذلك ، و ليس من مناهجها العلمية رفضه ، بل قد يتذرّع أحد لدعوى عدم الثبوت عندها ، و عدم وصوله إليها بطرقها الخاصّة .
فالجواب : أنّها دعوى مخالفة للمسلّمات ، إذ المفروض ثبوت ذلك عند أهله و أصحابه ، و قطعيته بالنسبة إلى الواقفين عليه ، و من علم حجّة على من لم يعلم ، و من حفظ حجّة على من لم يحفظ ، خصوصاً فيما صدر في بيئة معيّنة فإنّ الملاك ثبوت الصادر عند أهل بيئته ، كالاُمور الحادثة في بلدة معيّنة ، فإنّ اللازم ثبوت حدوثها عند أهل البلدة ، و علمهم بها ، و شهادتهم عليها و ليس للآخرين إنكارها و نفيها ، بدعوى عدم ثبوتها عندهم و لو بُني على مثل هذه الدعوى ، و التزم بلزوم ثبوت كلّ شيء للإنسان بنفسه حتّى يقتنع به ، لما إستقرّ كثير عن الاُمور ، و لأضطربت المسلّمات ، و تعذّرت الحقائق ، و هذا أمر يدفعه الوجدان ، و ينكره كلّ إنسان ، فالعقلاء يعترفون بثبوت الاُمور المسلّمة عند أهلها ، والمقبولة عند ذوي شأنها ، كاُمور التاريخ وحوادثه ، و البلدان و شؤونها .
و ثانياً : إنّ الحاجة إلى السند ، إنّما هو من أجل جواز نسبة المرويّات إلى الشارع الكريم ، و هذا إنّما يختّص بالاُمور التعبّدية المأخوذة من الشارع ، و ليس كلّ أمر بحاجة إلى مثل ذلك ، فالإنشائيات ، التي هي طلبات ، و إظهار لمرادات نفسية ليست بحاجة إلى إسناد ، بل أمرها دائر بين الوجود و العدم ، لا الصدق و الكذب اللذين هما ثمرة الإستناد إلى الاسناد .
فالأمر الإنشائيى ، إمّا موجود و حقّ و ثابت ، أو معدوم و باطل و مفقود ، و لو نقل مثله ولم يمنع منه دليل عقلي أو عرفي و عادي ، فهو ممكن و لو وافقه العقل و الوجدان و الواقع ، مثل مضامين الصحيفة ، حيث تحتوي التوقّعات و الرغبات النابعة من نفس الداعي ، ولم يخل أحدٌ من السامعين و الناظرين من مثلها ، فليس بحاجة إلى الاسناد .
و ثالثاً : إنّ نسخ الصحيفة ، هي بالكثرة و الوفرة العظيمة و منها النسخ العريقة في القِدم ، و ينتهي بعضها إلى القرن الخامس و الرابع ، و المزدانة بشارات التعظيم و القداسة حيث اعتنى بكتابتها كبار الخطاطين ، و زخرفها الفنّانون بأجمل الزخارف ، و كلّ ذلك يدلّ على العناية الفائقة التي كان أصحابها يولونها لهذه الصحيفة ، كالتي يضعونها عند الكتب المقدّسة .
و إذا اتّفقت النسخ ـ كلّها ، بلا إستثناء ـ و أجمعت على نسبة النصّ إلى الإمام السجّاد زين العابدين ( عليه السلام ) قولا واحداً ، ولم يكن هناك ، و لا مورد واحد ، لا في داخل هذه النسخ كلّها ، و لا في خارجها ، بل و لا وقع في خَلَد أحد من الناس : إحتمال النسبة إلى غير الإمام !
أفلا يكون في هذا كلّه مقنع بصحّة النسبة إلى الإمام و عدم الريب فيها .
تعليق