الندم على الذنب و النفس اللوامة الحلقة الاولى
تعديل الميول ـ الفرار من تعذيب الضمير
قال الله تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ 1 .
أن في الضمير الإنساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي . و في الموارد التي يرتكب الإنسان جريمة يقع فريسة اللوم و التقريع من تلك القوة الباطنية . إن الوجدان الأخلاقي من القوة و القدرة بحيث أنه لا يترك المجرم و نفسه حتى في عالم النوم . يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا ، و بذلك يلومه عليها ...
إن قوة الوجدان الأخلاقي و إدراك قبح الاجرام هو الذي يحور صورة الحلم و لا يسمح بأن يظهر المجرم على صورته الواقعية من جهة و يجعل المجرم من جهة أخرى يشاهد جرائمه في الرؤيا برعب و قلق و أن الانقياد لأوامر الوجدان الأخلاقي و إطاعة مقرراته وظيفة حتمية لكل إنسان ... فإن مخالفته تتضمن مصائب و مآسي لا تجبر . و سيدور بحثنا في هذه المحاضرة حول الاستفادة من الوجدان الأخلاقي ، و تنفيذ قوانينه و النتائج الوخيمة التي تترتب على مخالفته و الخروج عليه .
قوتان باطنيتان :
هناك قوتان في طريق إرضاء الميول أو ضبطها و عدم الاستجابة لها في باطن كل إنسان : احداهما ايجابية ، و الأخرى سلبية . أما القوة الايجابية فهدفها جلب اللذائذ و إرضاء الغرائز فقط ، و تميل إلى إشباع جميع الميول الطبيعية بدون قيد و شرط و أن تحقق جميع الرغبات . هذه القوة لا تفهم الخير و الشر ، أو الصالح و الفاسد ، إنها تنادي باللذة فقط و ليس لها هدف غير ذلك . و لقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة الباطنية بـ ( النفس الأمارة ) ... حيث يقول عز من قائل : ﴿ ... إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ... ﴾ 2 .
و أما القوة السلبية في باطن الإنسان ، فهي تتمثل في القوة التي تمنع الإنسان في جلب اللذائذ عن ارتكاب الجرائم و الوقوع في الدنس ، و تلطف من حدة الميول ، و تلجم النفس الأمارة الشموس ، إنها تسمح بإرضاء الغرائز و الاستجابة للميول بالمقدار الذي لا يتصادم مع المقررات العقلية و العرفية و الشرعية ، أما ما عدا ذلك فانها لا تسمح به . و لقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة المعدلة للميول بـ ( النفس اللوامة ) ... حيث يقول تعالى : ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ 3 .
قيادة الغرائز :
مما لا شك فيه أن الحياة البشرية مدينة إلى الميول و الغرائز التي أودعها الله تعالى في مزاج الإنسان ، ذلك أن الغرائز و الرغبات النفسانية هي القوة المحركة العظمى التي تدبر دولب الحياة الإنسانية ، و لا توجد أي قوة في الإنسان تبعثه على النشاط و الحيوية كالغرائز . و لكن النقطة الجديرة بالملاحظة و الانتباه أن هذه الغرائز إذا نفذت واستجيب لها بالصورة الصحيحة و بالشكل المعقول فانها تبعث على الخير و السعادة ، أما إذا لم يلتزم العقل قيادتها و كان إرواؤها على غير نظام أو ترتيب ، فلا شك في أنها تتضمن مئات المآسي و تؤدي بالإنسان إلى عاقبة سيئة .
عشرات الأرياف يمكن أن توجد على ضفاف نهر ، و مئات الأسر تستطيع أن تعيش فيها على أتم الرفاه و الراحة ... إن جميع المزارع و الحقول و المراعي و بصورة موجزة جميع مظاهر العمران هناك وجدت من ماء ذلك النهر . و إذا لم يكن ذلك النهر موجوداً ، لم يكن أثر للعمران ولم تكن توجد الأرياف ، و لكن قد يصادف أن ينحدر السيل من الجبال و يؤدي فيضان النهر إلى أن يتجاوز النهر مجراه ، و يهجم على المزارع و المساكن بصورة جنونية ، و يؤدي إلى خسائر عظيمة في الأرواح و الأموال و تنسف الأتعاب و الجهود التي بذلها الريفيون المساكين طيلة سنوات عديدة !!.
إنه لا يمكن الاستغناء عن النهر ، لأن النهر يعتبر الشريان الرئيسي لحياة هؤلاء الناس في الأرياف ، و إن مظاهر العمران ظهرت بفضل وجود النهر ـ و لأجل أن نستفيد من فوائد النهر ، و لا ترد علينا خسارة أو ضرر من جراء الفيضان ، علينا أن نبني سداً محكماً عليه ، و نمنع من طغيانه و من الواضح أن بناء السد يجعلنا ننتفع من فوائد النهر باستمرار ، و نكون في مأمن من أضراره و خسائره .
طغيان الغرائز :
إن الغرائز و الميول البشرية تشبه النهر الذي تقوم عليه الحياة الفردية و الاجتماعية . فإن كانت الاستجابة لها بصورة معقولة و حسب مقاييس ثابتة فإنها تمنح الحياة نشاطاً و حيوية ، أما إذا أرضيت بالصورة الفوضوية العارمة و من دون نظام أو ترتيب فلا شك في أنها تؤدي إلى الشقاء و الانهيار . و بعبارة أخرى : فكما أن النهر كان مسخراً لصالح الناس تارة و كان الناس مسخرين لتأثير النهر تارة أخرى ، كذلك الغرائز فإنها قد تخضع لقيادة العقل ، و قد يخضع العقل لقيادة الغرائز . إن السعادة تتحقق متى خضعت الميول جميعها لسيطرة العقل ، و كانت منقادة لأوامره و مقرراته .
هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين و المتألهين في العالم ، فقد أقر العقلاء و العلماء جميعهم بأن الانقياد للغرائز و إرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن و السعادة البشرية .
« تقضي الحياة ، و خصوصاً الحياة الاجتماعية للإنسان ، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية ، و توجه نحو الأهداف الاجتماعية ، و بصورة أوضح نقول : كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لإدارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة ، و ذلك ليبلغ بالإنسان إلى الرقي و التكامل » 4 .
إن أول نكتة يجب أن تسترعي انتباهنا في هذا المقام ، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة و بلا قيد أو شرط أمر مستحيل . ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأخرى ، و في الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الإنسان . لقد أوضح الإمام علي عليه السلام التناقض القائم بين بعض الميول و الرغبات بعبارة قصيرة و حكيمة ، إنه يقول :
« ما أعجب أمر الإنسان ، إن سنح له الرجاء أذله الطمع ، و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، و إن ملكه اليأس قتله الأسف ، و إن سعد نسي التحفظ ، و إن ناله خوف حيره الحذر ، و إن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة ، و إن جددت له النعمة أخذته الغزة ، و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، و إن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، و إن عضته فاقة شمله البلاء ، و إن جهده الجوع قعد به الضعف ، و إن أفرط في الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر ، و كل إفراط به مفسد ، و كل خير معه شر ، و كل شيء له آفة » 5 .
فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الإنسان إلى الإفراط في الاستجابة للغريزة الجنسية ، أو الطعام في حين أنه يتنافى مع الرغبة في الصحة ، و ما أكثر اللذائذ التي يتطلبها الإنسان من قبيل الخمرة و الحشيشة ، في حين أنها تتضمن عوارض مختلفة و نتائج وخيمة تهدد حياة الإنسان .
الوجدان و الغرائز :
هناك نكتة أخرى يجب أن نتنبه لها ، و هي أن الحرية المطلقة للغرائز بلا قيد أو شرط تتنافى و الوجدان الأخلاقي للبشر . فإن الذي يريد إرضاء جميع الميول بكل حرية ، و يحاول الاستجابة لرغباته و تحقيقها ، لا بد أن يكون منقاداً لغرائزه ، معرضاً بوجهه عن النداء السماوي و المقررات القيمة الصادرة من الوجدان الأخلاقي الذي هو وديعة إلهية عند الإنسان ، مستهتراً بالكرامة و الشرف و النبل !!.
« لا بد للإنسان أن يختار من بين أمرين أحدهما : الأمر الأول أجنبي و أعمى و طاغية حيث لا يراقب إلا التنفيذ دون النظر إلى القصد و النية . أما الأمر الثاني فانه أليف و محبوب . صحيح أنه متعب و لا يرتضي بسرعة لكنه يعرف آمالكم الخفية و يطلع على كيفية شخصيتكم . إنه يجب التوفيق بين الغرائز و الوجدان الأخلاقي . و إيجاد هذا التوافق أمر ممكن ، ذلك أن الوجدان الأخلاقي الواقعي لا يريد كبت الغرائز مرة واحدة ، بل يحاول أن يخضعها للنظام و السيطرة ، و يوجهها نحو هدف أعلى و أليق . و هذا العمل أحسن و أهم للغريزة من إطلاق عنانها أيضاً ، كما يرى فرويد ، لأن هذه الحرية تتضمن فساداً و انهياراً في النهاية » 6 .
إن مخالفة أوامر الوجدان الأخلاقي قد نؤدي إلى بعض الأمراض النفسية و الجنون . و الاستجابة المعقولة للميول و الغرائز أساس الحياة و ركن السعادة الإنسانية ، و هذا الأمر ضروري و محبوب شرعاً و عقلاً ... لكن المذموم و القبيح من وجهة النظر الدينية و العلمية هو إطلاق العنان لجميع الميول و الرغبات .
لقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة أحسن تعبير حيث يقول : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ 1 .
عبادة الهوى :
إن الذي يقع في أسر عبادة هوى النفس ، و يكون عبداً مطيعاً لغرائزه و ميوله ... يصاب بأخطر الأمراض النفسية ، و يكون معرضاً للانهيار و الشقاء في كل لحظة ...
1 ـ يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : « إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان : إتباع الهوى و طول الأمل » 7 .
2 ـ ويقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من إتباع أهوائهم ، و حصائد ألسنتهم » 8 .
3 ـ و عنه ( عليه السلام ) أيضاً : « لا تدع النفس و هواها ، فإن هواها رداها » 9 .
4 ـ و عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أشجع الناس من غلب هواه » 10 .
5 ـ و عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) : « من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه » 11 .
6 ـ يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إن أطعت هواك أصمك و أعماك » 12 .
7 ـ و يقول في مورد آخر : « فاز من غلب هواه ، و ملك دواعي نفسه » 13 .
8 ـ و ورد عنه أيضاً : « قاتل هواك بعقلك » 14 .
إن عبادة الأهواء و الانقياد التام للميول النفسانية لهو أقصى درجات الشقاء و الهلاك للإنسان ، فإذا وقع شخص في أسره فسرعان ما ينجرف إلى هوة الانهيار و السقوط .
« الإنسان مختار مطلق ، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينتفع من حريته خارج المناطق المحددة له بلا مخاطرة أو مغامرة . إن الحرية تشبه الديناميت في أنها وسيلة مهمة و خطرة في نفس الوقت ، فلا بد من الإلمام بكيفية استعمالها ، لحسن الحظ فان الذي يستطيع أن يستعملها بصورة صحيحة هو الذي يكون ذا عقل و إرادة ».
« إن التضارب الموجود بين الحرية الإنسانية و القوانين الطبيعية الملزمة يوجب التدريب على تزكية النفس . و لأجل أن نحافظ على أنفسنا من أخطار الحوادث يجب علينا أن نقاوم كثيراً من الميول و الرغبات ».
« في كل مرة استطاع الإنسان أن ينتفع من كامل حريته يكون قد سحق القوانين الطبيعية ، و لا بد أن يلاقي جزاءه . إن الموفقية في الحياة تستلزم التضحية ، و بواسطة التخلي عن قسم من الحرية يستطيع الإنسان أن يعيش على طبق نظام الأشياء » 15 .
الوجدان و تعديل الهوى :
يستطيع الراغبون في السعادة و الساعون من أجلها ، أن يستفيدوا من عوامل عديدة لتعديل ميولهم . من تلك العوامل . العقل ، و الوجدان ، و التعاليم الدينية . و حيث كنا نتحدث عن الوجدان الأخلاقي ، فيدور بحثنا هنا حول طرق الاستفادة منه في تعديل الغرائز و الرغبات النفسانية .
إن الوجدان الأخلاقي هو الدليل الظاهر و النافذ إلى الواقع المودع في باطن الإنسان . و هو قوة قاهرة ، يدلك ـ بالفطرة ـ جميع أوجه الخير و الشر ، و يهدي إلى الصراط المستقيم ، و يوصلهم إلى دار السعادة و السلام .
قال الإمام الصادق عليه السلام لرجل : « إنك قد جعلت طبيب نفسك ، و بين لك الداء و عرفت آية الصحة و دللت على الدواء . فانظر كيف قيامك على نفسك ؟ » 16 .
فبواسطة الوجدان الأخلاقي و الفطرة الإنسانية يهتدي الإنسان إلى معرفة أمراض نفسه و علاجها كالطبيب ، و يستطيع الوصول إلى سلامة روحه .
و في غريزتي الشهوة و الغضب القويتين ، و ميل الإنسان إلى المال والجاه تكمن نقطة انزلاق البشرية نحو الهاوية ، إن هوى النفس يدفع الإنسان بأشد ما يمكن من القوة لتنفيذ رغباته و متطلباته الغريزية ، و ألا يجتنب في سبيل الوصول إلى هدفه من كل نشاط هدام ، في حين أن الوصول إلى الهدف يتطلب في بعض الأحيان الإتيان ببعض الأعمال اللاإنسانية و ارتكاب الجرائم و الجنايات . إن من القوى التي تستطيع التعديل من الغرائز ، و تقدر على وقاية الإنسان من الانحراف و الانزلاق في الهاوية و حفظ أذيال الفرد من التلوث بالجرائم : قوة الوجدان الأخلاقي . فمن حافظ على هذه الوديعة الإلهية في باطنه و أبقى سراج السعادة مضيئاً ، يستطيع الانتفاع من هداية الوجدان و يقي نفسه من كثير من الخيانات و الجرائم .
لقد أعار الإسلام أهمية عظيمة إلى هذه القاعدة الأساسية ، و استفاد من الوجدان الأخلاقي في مجال الإصلاح الاجتماعي كثيراً .
التعامل على أساس الوجدان :
لقد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه كان يقول : لقد أوصى الله تعالى موسى بن عمران بأربعة أشياء :
« ... و أما التي بينك و بين الناس ، فترضى للناس ما ترضى لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك » 17 .
و هناك موقف آخر للنبي ( صلى الله عليه و آله ) و قد كان واضعاً رجله في رحل جواده قاصداً إحدى الغزوات ، فاستوقفه رجل و طلب منه أن يعلمه عملاً فقال ( صلى الله عليه و آله ) : « ما أحببت أن يأتيه الناس إليك ، فأته إليهم ، و ما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم » 18 .
... و هكذا يتضح جلياً موقف الإسلام من التعالم مع الناس و أصول المعاشرة فيما بينهم ، و هذه وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن : « و اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك و بين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، و اكره له ما تكره لنفسك ، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، و أحسن كما تحب أن يحسن إليك ، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » 19 .
و قد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم ، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه و لا يعرف حق جاره » 20 . و عن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله عز وجل : ﴿ ... وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ... ﴾ 21 قال : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » 22 .
سعادة المجتمع :
لقد وجدنا في الأحاديث المتقدمة أن الفطرة الأخلاقية و الإدراك الباطني عند الناس قد اعتبرتا مقياساً للروابط الاجتماعية . فإن ما لا شك فيه أنه لو كانت الروابط الاجتماعية في بلد ما قائمة على أساس الوجدان الأخلاقي وكان كل عضو في المجتمع يراعي الحسنات و السيئات الفطرية بالنسبة إلى باقي الأعضاء ... لكان يغمر ذلك البلد بالسعادة و الهناء ولم يكن للغرائز و الميول النفسية أية سلطة أو تجاوز على الآخرين .
إن القادرين على إتباع نداء الوجدان هم الذين يملكون زمام غرائزهم و ميولهم . أما الأشخاص المستعبدون لشهواتهم و الذين ينقادون لأهوائهم فلا ينالون هذه المفخرة أبداً .
جزاء مخالفة الوجدان :
إن من النتائج الوخيمة لمخالفة الوجدان ، الاضطرابات الروحية و الاختلالات النفسية . فإن من يمتنع عن سماع نداء الوجدان الأخلاقي و يقدم على الجرائم إرضاء لرغباته النفسية مخالفاً في ذلك فطرته الإنسانية لا بد و أن يلاقي جزاءه الشديد من قبل الوجدان ، بغض النظر عن العقاب الدنيوي والأخروي . وإن تعذيب الضمير وتقريع الوجدان من القوة في أعماق الروح الإنسانية بحيث تسلب المجرم راحته و تتركه في دوامة من الاختلالات و الأمراض الروحية أو الجنون .
« لقد أسند فرويد منظومته الفلسفية إلى الغرائز ، و من الواضح أنه أوضح بعضاً من نشاطاتها و لكنه أهمل البحث عن الوجدان أو الضمير و اعتبره منفذاً اجتماعياً فحسب . أما الواقع فيرشدنا إلى أن قضاء الخير و الشر عمل أساسي يغلب على الشخصية و يبلورها و ينسقها و يلائم بينها و بين الحياة الاجتماعية ... من الممكن أن يبتلي الوجدان بآفات معينة فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية . فمثلاً نجد فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية . فمثلاً نجد الأمر كذلك في الهستيريا المصحوبة بيقظة الضمير و التي تظهر على صورة الندم القاتل و اتهام النفس ، و الإحساس بالإجرام ، لقد أشرنا إلى بعض الآثار المباشرة و غير المباشرة للإحساس بالاجرام في سلسلة من التحقيقات . هذه الآثار عبارة عن التعذيب الأليم و التقريع الشديد » 23 .
يتبع انشاء الله
تعديل الميول ـ الفرار من تعذيب الضمير
قال الله تعالى : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ 1 .
أن في الضمير الإنساني قوة تسمى بالوجدان الأخلاقي . و في الموارد التي يرتكب الإنسان جريمة يقع فريسة اللوم و التقريع من تلك القوة الباطنية . إن الوجدان الأخلاقي من القوة و القدرة بحيث أنه لا يترك المجرم و نفسه حتى في عالم النوم . يستعرض أمام عينه جرائمه بصورة الرؤيا ، و بذلك يلومه عليها ...
إن قوة الوجدان الأخلاقي و إدراك قبح الاجرام هو الذي يحور صورة الحلم و لا يسمح بأن يظهر المجرم على صورته الواقعية من جهة و يجعل المجرم من جهة أخرى يشاهد جرائمه في الرؤيا برعب و قلق و أن الانقياد لأوامر الوجدان الأخلاقي و إطاعة مقرراته وظيفة حتمية لكل إنسان ... فإن مخالفته تتضمن مصائب و مآسي لا تجبر . و سيدور بحثنا في هذه المحاضرة حول الاستفادة من الوجدان الأخلاقي ، و تنفيذ قوانينه و النتائج الوخيمة التي تترتب على مخالفته و الخروج عليه .
قوتان باطنيتان :
هناك قوتان في طريق إرضاء الميول أو ضبطها و عدم الاستجابة لها في باطن كل إنسان : احداهما ايجابية ، و الأخرى سلبية . أما القوة الايجابية فهدفها جلب اللذائذ و إرضاء الغرائز فقط ، و تميل إلى إشباع جميع الميول الطبيعية بدون قيد و شرط و أن تحقق جميع الرغبات . هذه القوة لا تفهم الخير و الشر ، أو الصالح و الفاسد ، إنها تنادي باللذة فقط و ليس لها هدف غير ذلك . و لقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة الباطنية بـ ( النفس الأمارة ) ... حيث يقول عز من قائل : ﴿ ... إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ... ﴾ 2 .
و أما القوة السلبية في باطن الإنسان ، فهي تتمثل في القوة التي تمنع الإنسان في جلب اللذائذ عن ارتكاب الجرائم و الوقوع في الدنس ، و تلطف من حدة الميول ، و تلجم النفس الأمارة الشموس ، إنها تسمح بإرضاء الغرائز و الاستجابة للميول بالمقدار الذي لا يتصادم مع المقررات العقلية و العرفية و الشرعية ، أما ما عدا ذلك فانها لا تسمح به . و لقد عبر القرآن الكريم عن هذه القوة المعدلة للميول بـ ( النفس اللوامة ) ... حيث يقول تعالى : ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ 3 .
قيادة الغرائز :
مما لا شك فيه أن الحياة البشرية مدينة إلى الميول و الغرائز التي أودعها الله تعالى في مزاج الإنسان ، ذلك أن الغرائز و الرغبات النفسانية هي القوة المحركة العظمى التي تدبر دولب الحياة الإنسانية ، و لا توجد أي قوة في الإنسان تبعثه على النشاط و الحيوية كالغرائز . و لكن النقطة الجديرة بالملاحظة و الانتباه أن هذه الغرائز إذا نفذت واستجيب لها بالصورة الصحيحة و بالشكل المعقول فانها تبعث على الخير و السعادة ، أما إذا لم يلتزم العقل قيادتها و كان إرواؤها على غير نظام أو ترتيب ، فلا شك في أنها تتضمن مئات المآسي و تؤدي بالإنسان إلى عاقبة سيئة .
عشرات الأرياف يمكن أن توجد على ضفاف نهر ، و مئات الأسر تستطيع أن تعيش فيها على أتم الرفاه و الراحة ... إن جميع المزارع و الحقول و المراعي و بصورة موجزة جميع مظاهر العمران هناك وجدت من ماء ذلك النهر . و إذا لم يكن ذلك النهر موجوداً ، لم يكن أثر للعمران ولم تكن توجد الأرياف ، و لكن قد يصادف أن ينحدر السيل من الجبال و يؤدي فيضان النهر إلى أن يتجاوز النهر مجراه ، و يهجم على المزارع و المساكن بصورة جنونية ، و يؤدي إلى خسائر عظيمة في الأرواح و الأموال و تنسف الأتعاب و الجهود التي بذلها الريفيون المساكين طيلة سنوات عديدة !!.
إنه لا يمكن الاستغناء عن النهر ، لأن النهر يعتبر الشريان الرئيسي لحياة هؤلاء الناس في الأرياف ، و إن مظاهر العمران ظهرت بفضل وجود النهر ـ و لأجل أن نستفيد من فوائد النهر ، و لا ترد علينا خسارة أو ضرر من جراء الفيضان ، علينا أن نبني سداً محكماً عليه ، و نمنع من طغيانه و من الواضح أن بناء السد يجعلنا ننتفع من فوائد النهر باستمرار ، و نكون في مأمن من أضراره و خسائره .
طغيان الغرائز :
إن الغرائز و الميول البشرية تشبه النهر الذي تقوم عليه الحياة الفردية و الاجتماعية . فإن كانت الاستجابة لها بصورة معقولة و حسب مقاييس ثابتة فإنها تمنح الحياة نشاطاً و حيوية ، أما إذا أرضيت بالصورة الفوضوية العارمة و من دون نظام أو ترتيب فلا شك في أنها تؤدي إلى الشقاء و الانهيار . و بعبارة أخرى : فكما أن النهر كان مسخراً لصالح الناس تارة و كان الناس مسخرين لتأثير النهر تارة أخرى ، كذلك الغرائز فإنها قد تخضع لقيادة العقل ، و قد يخضع العقل لقيادة الغرائز . إن السعادة تتحقق متى خضعت الميول جميعها لسيطرة العقل ، و كانت منقادة لأوامره و مقرراته .
هذا الكلام مقبول لدى جميع الماديين و المتألهين في العالم ، فقد أقر العقلاء و العلماء جميعهم بأن الانقياد للغرائز و إرضاءها بلا قيد أو شرط يتنافى مع التمدن و السعادة البشرية .
« تقضي الحياة ، و خصوصاً الحياة الاجتماعية للإنسان ، أن تهدى الغرائز الأولى منذ البداية ، و توجه نحو الأهداف الاجتماعية ، و بصورة أوضح نقول : كما أنه يجب إقامة سد أمام مجرى الماء لإدارة محرك من المحركات المعتمدة على قوة الماء فإن التمدن يجب أن يخضع الغرائز لسيطرة دقيقة ، و ذلك ليبلغ بالإنسان إلى الرقي و التكامل » 4 .
إن أول نكتة يجب أن تسترعي انتباهنا في هذا المقام ، هي أن إرضاء جميع الميول النفسانية بصورة حرة و بلا قيد أو شرط أمر مستحيل . ذلك لأن تحقيق بعض الرغبات يتنافى مع إتيان الرغبات الأخرى ، و في الواقع يوجد تناقض واضح بين كثير من ميول الإنسان . لقد أوضح الإمام علي عليه السلام التناقض القائم بين بعض الميول و الرغبات بعبارة قصيرة و حكيمة ، إنه يقول :
« ما أعجب أمر الإنسان ، إن سنح له الرجاء أذله الطمع ، و إن هاج به الطمع أهلكه الحرص ، و إن ملكه اليأس قتله الأسف ، و إن سعد نسي التحفظ ، و إن ناله خوف حيره الحذر ، و إن اتسع له الأمن أسلمته الغيرة ، و إن جددت له النعمة أخذته الغزة ، و إن أصابته مصيبة فضحه الجزع ، و إن أفاد مالاً أطغاه الغنى ، و إن عضته فاقة شمله البلاء ، و إن جهده الجوع قعد به الضعف ، و إن أفرط في الشبع كظته البطنة ، فكل تقصير به مضر ، و كل إفراط به مفسد ، و كل خير معه شر ، و كل شيء له آفة » 5 .
فما أكثر الرغبات النفسية التي تدفع الإنسان إلى الإفراط في الاستجابة للغريزة الجنسية ، أو الطعام في حين أنه يتنافى مع الرغبة في الصحة ، و ما أكثر اللذائذ التي يتطلبها الإنسان من قبيل الخمرة و الحشيشة ، في حين أنها تتضمن عوارض مختلفة و نتائج وخيمة تهدد حياة الإنسان .
الوجدان و الغرائز :
هناك نكتة أخرى يجب أن نتنبه لها ، و هي أن الحرية المطلقة للغرائز بلا قيد أو شرط تتنافى و الوجدان الأخلاقي للبشر . فإن الذي يريد إرضاء جميع الميول بكل حرية ، و يحاول الاستجابة لرغباته و تحقيقها ، لا بد أن يكون منقاداً لغرائزه ، معرضاً بوجهه عن النداء السماوي و المقررات القيمة الصادرة من الوجدان الأخلاقي الذي هو وديعة إلهية عند الإنسان ، مستهتراً بالكرامة و الشرف و النبل !!.
« لا بد للإنسان أن يختار من بين أمرين أحدهما : الأمر الأول أجنبي و أعمى و طاغية حيث لا يراقب إلا التنفيذ دون النظر إلى القصد و النية . أما الأمر الثاني فانه أليف و محبوب . صحيح أنه متعب و لا يرتضي بسرعة لكنه يعرف آمالكم الخفية و يطلع على كيفية شخصيتكم . إنه يجب التوفيق بين الغرائز و الوجدان الأخلاقي . و إيجاد هذا التوافق أمر ممكن ، ذلك أن الوجدان الأخلاقي الواقعي لا يريد كبت الغرائز مرة واحدة ، بل يحاول أن يخضعها للنظام و السيطرة ، و يوجهها نحو هدف أعلى و أليق . و هذا العمل أحسن و أهم للغريزة من إطلاق عنانها أيضاً ، كما يرى فرويد ، لأن هذه الحرية تتضمن فساداً و انهياراً في النهاية » 6 .
إن مخالفة أوامر الوجدان الأخلاقي قد نؤدي إلى بعض الأمراض النفسية و الجنون . و الاستجابة المعقولة للميول و الغرائز أساس الحياة و ركن السعادة الإنسانية ، و هذا الأمر ضروري و محبوب شرعاً و عقلاً ... لكن المذموم و القبيح من وجهة النظر الدينية و العلمية هو إطلاق العنان لجميع الميول و الرغبات .
لقد عبر القرآن عن هذه الحقيقة أحسن تعبير حيث يقول : ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ 1 .
عبادة الهوى :
إن الذي يقع في أسر عبادة هوى النفس ، و يكون عبداً مطيعاً لغرائزه و ميوله ... يصاب بأخطر الأمراض النفسية ، و يكون معرضاً للانهيار و الشقاء في كل لحظة ...
1 ـ يقول الإمام علي ( عليه السلام ) : « إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان : إتباع الهوى و طول الأمل » 7 .
2 ـ ويقول الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « إحذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم ، فليس شيء أعدى للرجال من إتباع أهوائهم ، و حصائد ألسنتهم » 8 .
3 ـ و عنه ( عليه السلام ) أيضاً : « لا تدع النفس و هواها ، فإن هواها رداها » 9 .
4 ـ و عن الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « أشجع الناس من غلب هواه » 10 .
5 ـ و عن الإمام الجواد ( عليه السلام ) : « من أطاع هواه ، أعطى عدوه مناه » 11 .
6 ـ يقول الإمام أمير المؤمنين ( عليه السلام ) : « إن أطعت هواك أصمك و أعماك » 12 .
7 ـ و يقول في مورد آخر : « فاز من غلب هواه ، و ملك دواعي نفسه » 13 .
8 ـ و ورد عنه أيضاً : « قاتل هواك بعقلك » 14 .
إن عبادة الأهواء و الانقياد التام للميول النفسانية لهو أقصى درجات الشقاء و الهلاك للإنسان ، فإذا وقع شخص في أسره فسرعان ما ينجرف إلى هوة الانهيار و السقوط .
« الإنسان مختار مطلق ، لكنه مع ذلك لا يستطيع أن ينتفع من حريته خارج المناطق المحددة له بلا مخاطرة أو مغامرة . إن الحرية تشبه الديناميت في أنها وسيلة مهمة و خطرة في نفس الوقت ، فلا بد من الإلمام بكيفية استعمالها ، لحسن الحظ فان الذي يستطيع أن يستعملها بصورة صحيحة هو الذي يكون ذا عقل و إرادة ».
« إن التضارب الموجود بين الحرية الإنسانية و القوانين الطبيعية الملزمة يوجب التدريب على تزكية النفس . و لأجل أن نحافظ على أنفسنا من أخطار الحوادث يجب علينا أن نقاوم كثيراً من الميول و الرغبات ».
« في كل مرة استطاع الإنسان أن ينتفع من كامل حريته يكون قد سحق القوانين الطبيعية ، و لا بد أن يلاقي جزاءه . إن الموفقية في الحياة تستلزم التضحية ، و بواسطة التخلي عن قسم من الحرية يستطيع الإنسان أن يعيش على طبق نظام الأشياء » 15 .
الوجدان و تعديل الهوى :
يستطيع الراغبون في السعادة و الساعون من أجلها ، أن يستفيدوا من عوامل عديدة لتعديل ميولهم . من تلك العوامل . العقل ، و الوجدان ، و التعاليم الدينية . و حيث كنا نتحدث عن الوجدان الأخلاقي ، فيدور بحثنا هنا حول طرق الاستفادة منه في تعديل الغرائز و الرغبات النفسانية .
إن الوجدان الأخلاقي هو الدليل الظاهر و النافذ إلى الواقع المودع في باطن الإنسان . و هو قوة قاهرة ، يدلك ـ بالفطرة ـ جميع أوجه الخير و الشر ، و يهدي إلى الصراط المستقيم ، و يوصلهم إلى دار السعادة و السلام .
قال الإمام الصادق عليه السلام لرجل : « إنك قد جعلت طبيب نفسك ، و بين لك الداء و عرفت آية الصحة و دللت على الدواء . فانظر كيف قيامك على نفسك ؟ » 16 .
فبواسطة الوجدان الأخلاقي و الفطرة الإنسانية يهتدي الإنسان إلى معرفة أمراض نفسه و علاجها كالطبيب ، و يستطيع الوصول إلى سلامة روحه .
و في غريزتي الشهوة و الغضب القويتين ، و ميل الإنسان إلى المال والجاه تكمن نقطة انزلاق البشرية نحو الهاوية ، إن هوى النفس يدفع الإنسان بأشد ما يمكن من القوة لتنفيذ رغباته و متطلباته الغريزية ، و ألا يجتنب في سبيل الوصول إلى هدفه من كل نشاط هدام ، في حين أن الوصول إلى الهدف يتطلب في بعض الأحيان الإتيان ببعض الأعمال اللاإنسانية و ارتكاب الجرائم و الجنايات . إن من القوى التي تستطيع التعديل من الغرائز ، و تقدر على وقاية الإنسان من الانحراف و الانزلاق في الهاوية و حفظ أذيال الفرد من التلوث بالجرائم : قوة الوجدان الأخلاقي . فمن حافظ على هذه الوديعة الإلهية في باطنه و أبقى سراج السعادة مضيئاً ، يستطيع الانتفاع من هداية الوجدان و يقي نفسه من كثير من الخيانات و الجرائم .
لقد أعار الإسلام أهمية عظيمة إلى هذه القاعدة الأساسية ، و استفاد من الوجدان الأخلاقي في مجال الإصلاح الاجتماعي كثيراً .
التعامل على أساس الوجدان :
لقد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) أنه كان يقول : لقد أوصى الله تعالى موسى بن عمران بأربعة أشياء :
« ... و أما التي بينك و بين الناس ، فترضى للناس ما ترضى لنفسك و تكره لهم ما تكره لنفسك » 17 .
و هناك موقف آخر للنبي ( صلى الله عليه و آله ) و قد كان واضعاً رجله في رحل جواده قاصداً إحدى الغزوات ، فاستوقفه رجل و طلب منه أن يعلمه عملاً فقال ( صلى الله عليه و آله ) : « ما أحببت أن يأتيه الناس إليك ، فأته إليهم ، و ما كرهت أن يأتيه الناس إليك فلا تأته إليهم » 18 .
... و هكذا يتضح جلياً موقف الإسلام من التعالم مع الناس و أصول المعاشرة فيما بينهم ، و هذه وصية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام إلى ولده الحسن : « و اجعل نفسك ميزاناً فيما بينك و بين غيرك فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك ، و اكره له ما تكره لنفسك ، و لا تظلم كما لا تحب أن تظلم ، و أحسن كما تحب أن يحسن إليك ، و استقبح من نفسك ما تستقبح من غيرك » 19 .
و قد ورد عن الإمام الصادق ( عليه السلام ) : « أحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم ، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه و لا يعرف حق جاره » 20 . و عن الإمام الباقر عليه السلام في قول الله عز وجل : ﴿ ... وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً ... ﴾ 21 قال : « قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يقال لكم » 22 .
سعادة المجتمع :
لقد وجدنا في الأحاديث المتقدمة أن الفطرة الأخلاقية و الإدراك الباطني عند الناس قد اعتبرتا مقياساً للروابط الاجتماعية . فإن ما لا شك فيه أنه لو كانت الروابط الاجتماعية في بلد ما قائمة على أساس الوجدان الأخلاقي وكان كل عضو في المجتمع يراعي الحسنات و السيئات الفطرية بالنسبة إلى باقي الأعضاء ... لكان يغمر ذلك البلد بالسعادة و الهناء ولم يكن للغرائز و الميول النفسية أية سلطة أو تجاوز على الآخرين .
إن القادرين على إتباع نداء الوجدان هم الذين يملكون زمام غرائزهم و ميولهم . أما الأشخاص المستعبدون لشهواتهم و الذين ينقادون لأهوائهم فلا ينالون هذه المفخرة أبداً .
جزاء مخالفة الوجدان :
إن من النتائج الوخيمة لمخالفة الوجدان ، الاضطرابات الروحية و الاختلالات النفسية . فإن من يمتنع عن سماع نداء الوجدان الأخلاقي و يقدم على الجرائم إرضاء لرغباته النفسية مخالفاً في ذلك فطرته الإنسانية لا بد و أن يلاقي جزاءه الشديد من قبل الوجدان ، بغض النظر عن العقاب الدنيوي والأخروي . وإن تعذيب الضمير وتقريع الوجدان من القوة في أعماق الروح الإنسانية بحيث تسلب المجرم راحته و تتركه في دوامة من الاختلالات و الأمراض الروحية أو الجنون .
« لقد أسند فرويد منظومته الفلسفية إلى الغرائز ، و من الواضح أنه أوضح بعضاً من نشاطاتها و لكنه أهمل البحث عن الوجدان أو الضمير و اعتبره منفذاً اجتماعياً فحسب . أما الواقع فيرشدنا إلى أن قضاء الخير و الشر عمل أساسي يغلب على الشخصية و يبلورها و ينسقها و يلائم بينها و بين الحياة الاجتماعية ... من الممكن أن يبتلي الوجدان بآفات معينة فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية . فمثلاً نجد فيسبب حدوث بعض الأمراض الروحية الحقيقية . فمثلاً نجد الأمر كذلك في الهستيريا المصحوبة بيقظة الضمير و التي تظهر على صورة الندم القاتل و اتهام النفس ، و الإحساس بالإجرام ، لقد أشرنا إلى بعض الآثار المباشرة و غير المباشرة للإحساس بالاجرام في سلسلة من التحقيقات . هذه الآثار عبارة عن التعذيب الأليم و التقريع الشديد » 23 .
يتبع انشاء الله
تعليق