بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
1. قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . (قاف:16-19).
في تلخيص البيان/310وهذه استعارة . والمراد بسكرة الموت هاهنا: الكرب الذي يتغشى المحتضر عند الموت فيفقد له تمييزه، ويفارق معه معقوله . فشبه تعالى ذلك بالسَّكرة من الشراب، إلا أن تلك السَّكرة مُنَعِّمَة وهذه السّكرة مؤلمة . وقوله تعالى:بِالْحَقِّ ، يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جاءت بالحق من أمر الآخرة ، حتى عرفه الإنسان اضطراراً ورآه جهاراً . والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت الذي هو الحق .
وقوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ . وهذه استعارة والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه من أعلام السّاعة وأشراط القيامة ، فتزول عنه اعتراضات الشكوك ، ومشتبهات الأمور، يصدِّق بما كذَّب ويقرُّ بما جحد ، ويكون كأنه قد نفذ بصره بعد وقوف ، وأحدَّ بعد كلالٍ ونُبُوٍّ ).
قال الطبرسي مجمع البيان(9/238): (إن شئت علقت الباء بنفس جاءت . وإن شئت علقتها بمحذوف: وجاءت سكرة الموت ومعها الحق ).
2. حذر النبي وأهل بيته(ص) من هَوْل المُطَّلَع.قال في لسان العرب (8/238) فقال: (المُطَّلَعُ: المَأْتَى ، ويقال: ما لهذا الأمر مُطَّلَعٌ ولا مُطْلَعٌ أَي ما له وجه ولامَأْتًى يُؤْتى إِليه..وهو موضع الإطِّلاعِ من إِشْرافٍ إِلى انْحِدارٍ .
وفي حديث عمر أَنه قال عند موته: لو أَنَّ لي ما في الأَرض جميعاً لافْتَدَيْتُ به من هَوْلِ المُطَّلَعِ. يريد به الموقف يوم القيامة ، أو ما يُشْرِفُ عليه من أَمر الآخرة عَقِيبَ الموت ، فشبه بالمُطَّلَعِ الذي يُشْرَفُ عليه من موضع عالٍ .
قال الأَصمعي: وقد يكون المُطَّلَعُ المَصْعَدَ من أَسفل إِلى المكان المشرف.. يقال: مُطَّلَعُ هذا الجبل من مكان كذا أَي مأْتاه ومَصْعَدُه ).
وروى في الفقيه(1/480) أن الإمام الصادق(ع) : (كان إذا قام آخر الليل رفع صوته حتى يسمع أهل الدار، يقول: اللهم أعني على هول المطلع ، ووسع عليَّ المضجع، وارزقني خير ماقبل الموت ، وارزقني خير ما بعد الموت).
وفي الكافي(3/250): (لما مات ذر بن أبي ذر ، مسح أبو ذر القبر بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر والله إن كنت بي لبَرّاً ، ولقد قُبضتَ وإني عنك لراض . أما والله ما بي فقدك ، وما عليَّ من غضاضة ، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك .
ثم قال: اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني ) .
3. قال أمير المؤمنين(ع) في وصف الإحتضار ورهبتهفإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب). (نهج البلاغة:1/57).
وقال أمير المؤمنين(ع) كما في نهج البلاغة (1/211): (سبحانك خالقاً ومعبوداً، بحسن بلائك عند خلقك. خلقت داراً (الجنة) وجعلت فيها مأدبةً: مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً ، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً . ثم أرسلت داعياً يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا.
أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئاً أعشى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ! قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولمن في يده شئ منها ، حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها . لايزدجر من الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ .
وهو يرى المأخوذين على الغرة ، حيث لا إقالة ولا رجعة ، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون . فغيرُ موصوفٍ ما نزل بهم ! اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيرت لها ألوانهم . ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ويسمع بأذنه ، على صحة من عقله ، وبقاء من لبه . يفكر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره . ويتذكر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصـرحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها ، فيكون المهنأ لغيره ، والعبء على ظهره .
والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها ، قد حازها دونه .
فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولايسمع بسمعه ، يردد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم .
ثم ازداد الموت التياطاً به ، فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه ، لايسعد باكياً ، ولا يجيب داعياً . ثم حملوه إلى مخطٍّ في الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زَوْرَتِه ) .
(فهل دَفَعَتِ الأقارب ، أو نَفَعَت النواحِب ، وقد غُودر في محلَّة الأموات رهيناً وفي ضيق المضجع وحيداً . قد هتكت الهوامّ جلدته ، وأبلت النّواهك جِدته ، وعَفَت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه . وصارت الأجساد شَحْبَةً بعد بَضَّتها ، والعظام نَخِرَةً بعد قًوَّتها ، والأرواح مرتهنةً بثقل أعبائها ، موقنة بغيب أنبائها ، لاتستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سئ زللها.أوَلستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم والأقرباء . تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قُدَّتهم ، وتطأون جادَّتهم. فالقلوب قاسيةٌ عن حظها، لاهيةٌ عن رشدها ، سالكةٌ في غير مضمارها، كأن المعنيَّ سواها ، وكأن الرشد في إحراز دنياها ). (نهج البلاغة:1/141).
(أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتى: فميتٌ يُبكى ، وآخر يُعُزَّى ، وصريع مبتلى . وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود . وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه . وعلى أثر الماضي ما يمضـي الباقي. ألا فاذكروا هادم اللَّذَّات ومُنَغِّص الشهوات ، وقاطع الأمنيات ، عند المساورة للأعمال القبيحة). (نهج البلاغة:1/192).
(أولئكم سلف غايتكم وفُرَّاطُ مناهلكم . الَّذين كانت لهم مقاوم العز ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسُوَقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً . سلَّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لاينمون ، وضِماراً لايوجدون). (نهج البلاغة:2/206).
(فكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون . كان في الدنيا غَذِيَّ تَرَفٍ وربيب شرف.. فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه ، في ظل عيش غفول ، إذ وطئ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيام قواه ، ونظرت إليه الحتوف من كثب . فخالطه بثٌّ لا يعرفه ، ونَجِيُّ همِّ ما كان يجده . وتولَّدت فيه فترات علل ، آنسَ ما كان بصحته ، ففزع إلى ما كان عوده الأطباء ، من تسكين الحار بالقار ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلَّا ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلَّا هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك الطَّبائع إلَّا أمد منها كل ذات داء .
حتى فتر مُعَلِّله ، وذُهِلَ مُمَرِّضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجيَّ خبر يكتمونه ، فقائلٌ يقول هو لما به ، ومؤمِّلُهم إياب عافيته ، ومصبِّرٌ لهم على فقده ، يذكَّرهم أسى الماضين من قبله. فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه . فكم من مُهِمٍّ من جوابه عرفه فعيَّ عن ردِّه ، ودعاء مؤلمٍ بقلبه سمعه فتصامَّ عنه ، من كبير كان يعظَّمه ، أو صغير كان يرحمه . وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا). (نهج البلاغة:2/210).
وقال(ع) وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة: (يا أهل الديار الموحشة ، والمحالِّ المقفرة ، والقبور المظلمة . يا أهل التّربة ، يا أهل الغربة . يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة . أنتم لنا فَرطٌ سابق ، ونحن لكم تبع لاحق . أمّا الدُّور فقد سكنت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، وأما الأموال فقد قسمت .
هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام ، لأخبروكم أن خير الزاد التقوى) . (نهج البلاغة:4/31).
وقال(ع) بعد ضربته التي قتل فيها: (أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقكم..وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً ، وستعقبون مني جثة خلاء ، ساكنة بعد حركة ، وكاظمة بعد نطق ، ليعظكم هدوِّي وخفوف إطراقي ، وسكون أطرافي ، فإنه أوعظ لكم من الناطق البليغ . ودعتكم وداع مُرْصِد للتلاقي . غداً ترون أيامي ، ويكشف الله عز وجل عن سرائري، وتعرفوني بعد خلو مكاني، وقيام غيري مقامي ). (الكافي:1/299) .
4. وفي أمالي الطوسي/432، عن الإمام الصادق(ع) قال: (من أحب أن يخفف الله عنه سكرات الموت ، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً ، فإذا كان كذلك هون الله عليه سكرات الموت ، ولم يصبه في حياته فقر أبداً ).
وفي روضة الواعظين/370: (قال موسى(ع) : إلهي فما جزاء من وصل رحمه؟ قال: أنسئ له أجله ، وأهون عليه سكرات الموت ، ويناديه خزنة الجنة: هَلُمَّ الينا فادخل من أي باب شئت ).
ومن دعاء الإمام زين العابدين(ع) عند ختم القرآن/204: (اللهم صل على محمد وآله ، وهَوِّنْ بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق ، وجهد الأنين ، وترادف الحشارج ، إذا بلغت النفوس التراقي ، وقيل من راق ، وتجلى ملك الموت لقبضها من حجب الغيوب ، ورماها عن قوس المنايا بأسهمِ وحشةِ الفراق ، ودافَ لها من ذُعاف الموت كأساً مسمومة المذاق ، ودنا منا إلى الآخرة رحيل وانطلاق ، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق ، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق ).
وفي تهذيب الأحكام (3/93) عن الإمام الصادق(ع) قالاللهم بارك لي في الموت. اللهم أعني على الموت . اللهم أعني على سكرات الموت . اللهم أعني على غم القبر . اللهم أعني على ضيق القبر . اللهم أعني على ظلمة القبر . اللهم أعني على وحشة القبر . اللهم أعني على أهوال يوم القيامة . اللهم بارك لي في طول يوم القيامة . اللهم زوجني من الحور العين ) .
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمّد وآله الطيبين الطاهرين واللعن الدائم على أعدائهم أجمعين إلى قيام يوم الدين
1. قال الله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ . إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ. وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ . (قاف:16-19).
في تلخيص البيان/310وهذه استعارة . والمراد بسكرة الموت هاهنا: الكرب الذي يتغشى المحتضر عند الموت فيفقد له تمييزه، ويفارق معه معقوله . فشبه تعالى ذلك بالسَّكرة من الشراب، إلا أن تلك السَّكرة مُنَعِّمَة وهذه السّكرة مؤلمة . وقوله تعالى:بِالْحَقِّ ، يحتمل معنيين: أحدهما أن يكون جاءت بالحق من أمر الآخرة ، حتى عرفه الإنسان اضطراراً ورآه جهاراً . والآخر أن يكون المراد بِالْحَقِّ هاهنا أي بالموت الذي هو الحق .
وقوله سبحانه: لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ . وهذه استعارة والمراد بها ما يراه الإنسان عند زوال التكليف عنه من أعلام السّاعة وأشراط القيامة ، فتزول عنه اعتراضات الشكوك ، ومشتبهات الأمور، يصدِّق بما كذَّب ويقرُّ بما جحد ، ويكون كأنه قد نفذ بصره بعد وقوف ، وأحدَّ بعد كلالٍ ونُبُوٍّ ).
قال الطبرسي مجمع البيان(9/238): (إن شئت علقت الباء بنفس جاءت . وإن شئت علقتها بمحذوف: وجاءت سكرة الموت ومعها الحق ).
2. حذر النبي وأهل بيته(ص) من هَوْل المُطَّلَع.قال في لسان العرب (8/238) فقال: (المُطَّلَعُ: المَأْتَى ، ويقال: ما لهذا الأمر مُطَّلَعٌ ولا مُطْلَعٌ أَي ما له وجه ولامَأْتًى يُؤْتى إِليه..وهو موضع الإطِّلاعِ من إِشْرافٍ إِلى انْحِدارٍ .
وفي حديث عمر أَنه قال عند موته: لو أَنَّ لي ما في الأَرض جميعاً لافْتَدَيْتُ به من هَوْلِ المُطَّلَعِ. يريد به الموقف يوم القيامة ، أو ما يُشْرِفُ عليه من أَمر الآخرة عَقِيبَ الموت ، فشبه بالمُطَّلَعِ الذي يُشْرَفُ عليه من موضع عالٍ .
قال الأَصمعي: وقد يكون المُطَّلَعُ المَصْعَدَ من أَسفل إِلى المكان المشرف.. يقال: مُطَّلَعُ هذا الجبل من مكان كذا أَي مأْتاه ومَصْعَدُه ).
وروى في الفقيه(1/480) أن الإمام الصادق(ع) : (كان إذا قام آخر الليل رفع صوته حتى يسمع أهل الدار، يقول: اللهم أعني على هول المطلع ، ووسع عليَّ المضجع، وارزقني خير ماقبل الموت ، وارزقني خير ما بعد الموت).
وفي الكافي(3/250): (لما مات ذر بن أبي ذر ، مسح أبو ذر القبر بيده ثم قال: رحمك الله يا ذر والله إن كنت بي لبَرّاً ، ولقد قُبضتَ وإني عنك لراض . أما والله ما بي فقدك ، وما عليَّ من غضاضة ، ومالي إلى أحد سوى الله من حاجة ، ولولا هول المطلع لسرني أن أكون مكانك ، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك ، والله ما بكيت لك ولكن بكيت عليك ، فليت شعري ماذا قلت وماذا قيل لك .
ثم قال: اللهم إني قد وهبت له ما افترضت عليه من حقي ، فهب له ما افترضت عليه من حقك ، فأنت أحق بالجود مني ) .
3. قال أمير المؤمنين(ع) في وصف الإحتضار ورهبتهفإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم ووهلتم ، وسمعتم وأطعتم ، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا ، وقريب ما يطرح الحجاب). (نهج البلاغة:1/57).
وقال أمير المؤمنين(ع) كما في نهج البلاغة (1/211): (سبحانك خالقاً ومعبوداً، بحسن بلائك عند خلقك. خلقت داراً (الجنة) وجعلت فيها مأدبةً: مشرباً ومطعماً وأزواجاً وخدماً ، وقصوراً وأنهاراً ، وزروعاً وثماراً . ثم أرسلت داعياً يدعو إليها ، فلا الداعي أجابوا ، ولا فيما رغبت رغبوا، ولا إلى ما شوقت إليه اشتاقوا.
أقبلوا على جيفة افتضحوا بأكلها ، واصطلحوا على حبها ، ومن عشق شيئاً أعشى بصره ، وأمرض قلبه ، فهو ينظر بعين غير صحيحة ، ويسمع بأذن غير سميعة ! قد خرقت الشهوات عقله ، وأماتت الدنيا قلبه ، وولهت عليها نفسه ، فهو عبد لها ولمن في يده شئ منها ، حيثما زالت زال إليها ، وحيثما أقبلت أقبل عليها . لايزدجر من الله بزاجر ، ولا يتعظ منه بواعظ .
وهو يرى المأخوذين على الغرة ، حيث لا إقالة ولا رجعة ، كيف نزل بهم ما كانوا يجهلون ، وجاءهم من فراق الدنيا ما كانوا يأمنون ، وقدموا من الآخرة على ما كانوا يوعدون . فغيرُ موصوفٍ ما نزل بهم ! اجتمعت عليهم سكرة الموت وحسرة الفوت ، ففترت لها أطرافهم ، وتغيرت لها ألوانهم . ثم ازداد الموت فيهم ولوجاً ، فحيل بين أحدهم وبين منطقه ، وإنه لبين أهله ، ينظر ببصره ويسمع بأذنه ، على صحة من عقله ، وبقاء من لبه . يفكر فيم أفنى عمره ، وفيم أذهب دهره . ويتذكر أموالاً جمعها أغمض في مطالبها ، وأخذها من مصـرحاتها ومشتبهاتها ، قد لزمته تبعات جمعها وأشرف على فراقها ، تبقى لمن وراءه ينعمون فيها ويتمتعون بها ، فيكون المهنأ لغيره ، والعبء على ظهره .
والمرء قد غلقت رهونه بها ، فهو يعض يده ندامة على ما أصحر له عند الموت من أمره ، ويزهد فيما كان يرغب فيه أيام عمره ، ويتمنى أن الذي كان يغبطه بها ويحسده عليها ، قد حازها دونه .
فلم يزل الموت يبالغ في جسده حتى خالط لسانه سمعه ، فصار بين أهله لا ينطق بلسانه ، ولايسمع بسمعه ، يردد طرفه بالنظر في وجوههم ، يرى حركات ألسنتهم ، ولا يسمع رجع كلامهم .
ثم ازداد الموت التياطاً به ، فقبض بصره كما قبض سمعه ، وخرجت الروح من جسده ، فصار جيفة بين أهله ، قد أوحشوا من جانبه ، وتباعدوا من قربه ، لايسعد باكياً ، ولا يجيب داعياً . ثم حملوه إلى مخطٍّ في الأرض ، وأسلموه فيه إلى عمله ، وانقطعوا عن زَوْرَتِه ) .
(فهل دَفَعَتِ الأقارب ، أو نَفَعَت النواحِب ، وقد غُودر في محلَّة الأموات رهيناً وفي ضيق المضجع وحيداً . قد هتكت الهوامّ جلدته ، وأبلت النّواهك جِدته ، وعَفَت العواصف آثاره ، ومحا الحدثان معالمه . وصارت الأجساد شَحْبَةً بعد بَضَّتها ، والعظام نَخِرَةً بعد قًوَّتها ، والأرواح مرتهنةً بثقل أعبائها ، موقنة بغيب أنبائها ، لاتستزاد من صالح عملها ، ولا تستعتب من سئ زللها.أوَلستم أبناء القوم والآباء وإخوانهم والأقرباء . تحتذون أمثلتهم ، وتركبون قُدَّتهم ، وتطأون جادَّتهم. فالقلوب قاسيةٌ عن حظها، لاهيةٌ عن رشدها ، سالكةٌ في غير مضمارها، كأن المعنيَّ سواها ، وكأن الرشد في إحراز دنياها ). (نهج البلاغة:1/141).
(أو لستم ترون أهل الدنيا يصبحون ويمسون على أحوال شتى: فميتٌ يُبكى ، وآخر يُعُزَّى ، وصريع مبتلى . وعائد يعود ، وآخر بنفسه يجود . وطالب للدنيا والموت يطلبه ، وغافل وليس بمغفول عنه . وعلى أثر الماضي ما يمضـي الباقي. ألا فاذكروا هادم اللَّذَّات ومُنَغِّص الشهوات ، وقاطع الأمنيات ، عند المساورة للأعمال القبيحة). (نهج البلاغة:1/192).
(أولئكم سلف غايتكم وفُرَّاطُ مناهلكم . الَّذين كانت لهم مقاوم العز ، وحلبات الفخر ، ملوكاً وسُوَقاً ، سلكوا في بطون البرزخ سبيلاً . سلَّطت الأرض عليهم فيه ، فأكلت من لحومهم ، وشربت من دمائهم ، فأصبحوا في فجوات قبورهم ، جماداً لاينمون ، وضِماراً لايوجدون). (نهج البلاغة:2/206).
(فكم أكلت الأرض من عزيز جسد ، وأنيق لون . كان في الدنيا غَذِيَّ تَرَفٍ وربيب شرف.. فبينا هو يضحك إلى الدنيا وتضحك إليه ، في ظل عيش غفول ، إذ وطئ الدهر به حسكه ، ونقضت الأيام قواه ، ونظرت إليه الحتوف من كثب . فخالطه بثٌّ لا يعرفه ، ونَجِيُّ همِّ ما كان يجده . وتولَّدت فيه فترات علل ، آنسَ ما كان بصحته ، ففزع إلى ما كان عوده الأطباء ، من تسكين الحار بالقار ، وتحريك البارد بالحار ، فلم يطفئ ببارد إلَّا ثوّر حرارة ، ولا حرّك بحارّ إلَّا هيّج برودة ، ولا اعتدل بممازج لتلك الطَّبائع إلَّا أمد منها كل ذات داء .
حتى فتر مُعَلِّله ، وذُهِلَ مُمَرِّضه ، وتعايا أهله بصفة دائه ، وخرسوا عن جواب السائلين عنه ، وتنازعوا دونه شجيَّ خبر يكتمونه ، فقائلٌ يقول هو لما به ، ومؤمِّلُهم إياب عافيته ، ومصبِّرٌ لهم على فقده ، يذكَّرهم أسى الماضين من قبله. فبينا هو كذلك على جناح من فراق الدنيا ، وترك الأحبة ، إذ عرض له عارض من غصصه ، فتحيرت نوافذ فطنته ، ويبست رطوبة لسانه . فكم من مُهِمٍّ من جوابه عرفه فعيَّ عن ردِّه ، ودعاء مؤلمٍ بقلبه سمعه فتصامَّ عنه ، من كبير كان يعظَّمه ، أو صغير كان يرحمه . وإن للموت لغمرات هي أفظع من أن تستغرق بصفة ، أو تعتدل على عقول أهل الدنيا). (نهج البلاغة:2/210).
وقال(ع) وقد أشرف على القبور بظاهر الكوفة: (يا أهل الديار الموحشة ، والمحالِّ المقفرة ، والقبور المظلمة . يا أهل التّربة ، يا أهل الغربة . يا أهل الوحدة ، يا أهل الوحشة . أنتم لنا فَرطٌ سابق ، ونحن لكم تبع لاحق . أمّا الدُّور فقد سكنت ، وأما الأزواج فقد نكحت ، وأما الأموال فقد قسمت .
هذا خبر ما عندنا ، فما خبر ما عندكم؟ ثم التفت إلى أصحابه فقال: أما لو أذن لهم في الكلام ، لأخبروكم أن خير الزاد التقوى) . (نهج البلاغة:4/31).
وقال(ع) بعد ضربته التي قتل فيها: (أنا بالأمس صاحبكم واليوم عبرة لكم وغداً مفارقكم..وإنما كنت جاراً جاوركم بدني أياماً ، وستعقبون مني جثة خلاء ، ساكنة بعد حركة ، وكاظمة بعد نطق ، ليعظكم هدوِّي وخفوف إطراقي ، وسكون أطرافي ، فإنه أوعظ لكم من الناطق البليغ . ودعتكم وداع مُرْصِد للتلاقي . غداً ترون أيامي ، ويكشف الله عز وجل عن سرائري، وتعرفوني بعد خلو مكاني، وقيام غيري مقامي ). (الكافي:1/299) .
4. وفي أمالي الطوسي/432، عن الإمام الصادق(ع) قال: (من أحب أن يخفف الله عنه سكرات الموت ، فليكن لقرابته وصولاً، وبوالديه باراً ، فإذا كان كذلك هون الله عليه سكرات الموت ، ولم يصبه في حياته فقر أبداً ).
وفي روضة الواعظين/370: (قال موسى(ع) : إلهي فما جزاء من وصل رحمه؟ قال: أنسئ له أجله ، وأهون عليه سكرات الموت ، ويناديه خزنة الجنة: هَلُمَّ الينا فادخل من أي باب شئت ).
ومن دعاء الإمام زين العابدين(ع) عند ختم القرآن/204: (اللهم صل على محمد وآله ، وهَوِّنْ بالقرآن عند الموت على أنفسنا كرب السياق ، وجهد الأنين ، وترادف الحشارج ، إذا بلغت النفوس التراقي ، وقيل من راق ، وتجلى ملك الموت لقبضها من حجب الغيوب ، ورماها عن قوس المنايا بأسهمِ وحشةِ الفراق ، ودافَ لها من ذُعاف الموت كأساً مسمومة المذاق ، ودنا منا إلى الآخرة رحيل وانطلاق ، وصارت الأعمال قلائد في الأعناق ، وكانت القبور هي المأوى إلى ميقات يوم التلاق ).
وفي تهذيب الأحكام (3/93) عن الإمام الصادق(ع) قالاللهم بارك لي في الموت. اللهم أعني على الموت . اللهم أعني على سكرات الموت . اللهم أعني على غم القبر . اللهم أعني على ضيق القبر . اللهم أعني على ظلمة القبر . اللهم أعني على وحشة القبر . اللهم أعني على أهوال يوم القيامة . اللهم بارك لي في طول يوم القيامة . اللهم زوجني من الحور العين ) .
تعليق