إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

و?ان تقياً... |رواية لــكمال السيد

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • #21
    وكانت صديقة

    جعفر ايها الصديق

    وسلاحه البكاء

    دنيا الفتيات



    مااروعهن من روايات وماانضمه من نسق وسباكة الكلمات


    الله يحفظكم لكل خير




    تعليق


    • #22
      لهيب البركان

      كما البركان يتشظّى لهباً، ثارت مدينة قُم غضباً..
      ضريبة الخراج وقد بلغت مليونَي دِرهم.. كان الخليفة يرمي من وراء ذلك إلى إرهاقها؛ لأنّه يعرف أنّ أهلها إذا شبعوا فسوف يتحدّثون في أمور كثيرة!
      اندلع البركان، وأُعلن خلع المأمون رسميّاً.. واهتزت الأرض، وكانت صيحات « يَحيى بن عمران » تدوّي في الفضاء، واندفعت خيول الخليفة تُهلك الحرث والنسل، واشتعلت نار الحرب.. وهوى القائد الثائر، وانتهت الثورة..
      وصدرت أوامر من بغداد بتهديم سور المدينة الثائرة ومضاعفة الضريبة إلى سبعة ملايين درهم
      (60).
      لم تكن قم تدفع ضريبة الخراج فقط، كانت في الحقيقة تدفع ضريبة الولاء لأهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
      ووصلت الأنباء الحزينة بغداد، وكتب الإمام إلى رجلٍ هداه الله
      (61)..
      ـ « قد فهمتُ ما ذكرتَ من أمر القميّين خلّصهم الله وفرّج عنهم، وسَرَرْتَني
      (62) بما ذكرتَ سَرّكَ الله بالجنّة ورضي عنك برضائي عنك، وأنا ارجو من الله العفو والرأفة وأقول حَسْبُنا الله ونعم الوكيل »(63)..
      وفي ذلك العام كان المأمون جذلان فرِحاً وقد أقبلت عليه الدنيا من كل صوب..
      وقع إبراهيم عمّه في قبضته فإذا هو فأر مذعور يلتمس العفو، فأراد قتله ولكن له حنجرة وصوت طروب، فلِمَ لا يجعله مغنّياً للقصر ؟! خاصّة وإنّ عليّة
      (64) عمّته وشقيقة إبراهيم قد ماتت... وها هو نصر بن شبث زعيم القيسيّة في شمال الشام يستسلم فيُرسَل إلى بغداد أسيراً. ثمّ لتنقطع أخباره إلى الأبد(65).
      وبدأت محنة « خَلْق القرآن » وامتحان الفقهاء؛ القرآن مخلوق أم غير مخلوق، قديم أم حادث، ويبدأ فصل جديد..
      ومثلما يغلي المرجل وتفور المياه اندلعت الثورات هنا وهناك.. فالثورة في أذربيجان ما تزال مستمرة، ثمّ اندلعت ثورة في مصر بقيادة عبدالله بن السريّ، وثورة في اليمن بقيادة محمد الأحمر العين، ثمّ يعلن الفلاحون في دلتا مصر الثورة بسبب ضريبة الخراج، ثمّ تشتعل حرب العصبيّات بين اليمانيّة والقيسيّة.
      أمّا مدينة قم فما تزال تلعق جراحها وتئنّ تحت وطأة الضرائب الظالمة.. وقد بدا الليل عبّاسيّاً طويلاً.
      ودخل رجل مشرّد
      (66) كان يرى ملامح المهديّ في وجه محمّد.. همس بأمل:
      ـ إنّي لأرجو أن تكون القائم من أهل البيت الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً.
      أجاب الذي أوتي الحكم صبيّاً:
      ـ يا أبا القاسم! ما منّا إلاّ وهو قائم بأمر الله عزّوجلّ وهادٍ إلى دين الله، ولكنّ القائم الذي يُطهِّر اللهُ عزّوجلّ به الأرض من أهل الكفر والجُحود ويملأها عدلاً وقسطاً هو الذي تخفى على الناس ولادته، ويغيب عنهم شخصه، ويَحرُم عليهم تسميته، هو سَمِيّ رسول الله وكَنِيّه، وهو الذي تُطوى له الأرض، ويذلّ له كل صعب، ويجتمع إليه أصحاب عدّة أهل بدر ثلاثمئة وثلاثة عشر رجلاً من أقاصي الأرض...
      سوف يستمر الليل أيّها الحسنيّ المشرّد، ثم يأتي يوم الخلاص وعندها تتطهّر الأرض فتشرق بنور ربّها.
      وفي ذلك الليل البهيم رأى السيّد المدنيّ فتاة سمراء تقول: أنا جمانة من ذرّية عمّار بن ياسر.. قال الإمام لصاحبه:
      ـ لقد وصلت قافلة فيها رقيق بينهن فتاة سمراء اسمها جمانة، وهذه ستّون ديناراً
      (67)..
      قال الرجل:
      ـ وكيف لي تمييزها بين الجواري ؟!
      ـ إذا رأيتها وجدتَها صدّيقة..
      وأضاءت البيتَ روح جديدة، لقد وجد الإمام فتاته التي كان ينتظرها.. فتاة فيها وإنسانية المرأة، وحنان الزوجات والأمهات.
      وانفجر بركان الحقد في نفس ابنة الخليفة التي أسرعت إلى أبيها تريد الانتقام.. إنّ هذا العلويّ لا يخشى سطوة الخليفة!
      قال المأمون، وكان يُصغي بمرارة:
      ـ ماذا تريدين أن أفعل ؟ هل أمنعه من شراء الجواري ؟! انظري! في هذا القصر سبعة آلاف جارية..
      عودي إلى منزلك يا بُنيّة.. لا استطيع أن أُحرّم عليه ما أحلّ الله له... كوني فتاةً عاقلة تفكّر فقط بغايات والدها.. هناك أشياء أهمّ ممّا ذكرتِ..
      وعادت المرأة أدراجها تنطوي على مخزون مدمّر من الحقد والرغبة في الانتقام..
      اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


      تعليق


      • #23
        الاغتيال الجنوني

        ليس سهلاً على فتاة اعتادت الحياة في القصور.. القصور التي تموج باللذائذ والمُتَع الحسّية أن تعيش حياة لا لهو فيها ولا غناء.. لا ذهب فيها ولا ثراء..
        يلتقي نَهران هذا مِلح أُجاج وذاك عذب فرات، فإذا بينهما برزخ لا يبغيان..
        الذي اكتشف الحقيقة منذ نعومة أظفاره، كيف يطيب له الابتعاد عنها ؟.. والذي ملأ النورُ قلبه كيف يحيا في ظلمات المادّة المتراكمة ؟! والذي تُحلّق روحه في ملكوت السماء كيف يمكنه العيش في أوحال الطين ؟!
        هكذا بدأت الحياة الزوجيّة بين شاب ينظر إلى المَدَيات البعيدة حيث يتطلّع الأنبياء، وبين فتاة لا ترى في الحياة غير اللهو والجاه والثراء..
        بين شاب تتشرّب روحه آيات السماء وتراتيل القرآن وبين فتاة كانت حتّى الأمس القريب تطرب لغناء إسحاق وعليّة وابن شكلة؛ هو يريدها أن تكون انساناً، وهي تريد له الحياة الدنيا.. هو يريد أن يأخذ بيدها إلى السماء، وهي تخلد إلى الأرض وتريده كما تشاء لا كما يشاء الله ربّ العالمين... هي ابنة الخليفة صاحب الكلمة الأولى في بلاد مترامية الأطراف، ابنة السلطان المدلّلة التي لا تقيس الاشياء إلاّ بوزنها المادّيّ الكثيف.
        وهو ابن محمّد بكل ما لهذا النسب من زخم التاريخ وعنفوان الرسالات الإلهيّة، وهو ابن عليّ بكلّ ما في هذا النسب من عدالة وانسانيّة، وهو ابن الحسين بكلّ ما يعنيه الحسين من إباء وشمم وتحدٍّ للطغاة..
        بدأت المشكلات العائليّة منذ الأيّام الأولى للزواج.. يريدها أن تتسامى على المادّة وتريده أن يزجّ نفسه في الصراع المحتدم من أجل الدنيا والنفوذ والسلطان... تريد له الانغماس في المؤامرات وأن يكون حليفاً لأبيها، وما زاد الطين بلّة أنّها قد اكتشفت حقيقة مُرّة..
        إنّها شجرة لا تورق ولا تثمر.. ها هي الشهور تمرّ.. وليس في الأفق ما يبشّر بخير..
        حتّى أبوها كان ينظر إليها بامتعاض وهو يرى ابنته تتجاهل الهدف الذي من أجله تم الزواج..
        إنّ « أمّ الفضل » لن تسمو ولن تُدرك غايات زوجها النبيل.. لن تُدرك إنسانيّته ولن يخفق قلبها بحبّه لأنها غريبة عن عالمه ودنياه.. تفصلها عنه مسافات هائلة بالرغم من القُرب الظاهري.. السقف الذي يجمعهما معاً..
        بغداد غارقة في أوحال اللذة.. لا يرى مترفوها من الحياة سوى الخمرة والطعام ولذائذ الجسد الفاني..
        الويل لهذه المدينة الداعرة.. يحرّم قاضي قضاتها المتعة ويبيح اللواط!
        وليس في الأسواق ما في أسواق الجواري من ازدهار وحركة ونشاط..
        فهذه صوتها جميل تضرب على العود وتُحسن الغناء، وتلك تحفظ أخبار الملوك والأساطير، وهذه للفِراش، وتلك للطهو وتدبير شؤون المنزل.. وضاعت المرأة كإنسان.. ضاعت الفتاة في سوق الجواري، وضاع الإنسان في بغداد.. ولم تعد هناك من قيمة سوى للمال أيّاً كان مصدره.. أصبح هدفاً وغاية أيّاً كانت وسيلته..
        في هدأة ليلة من ليالي رجب وفي أُخريات فصل الصيف سُمع صوت طفوليّ في منزل كان يترقّب لحظات الميلاد بأمل.. لقد وُلد صبيٌّ كريم..
        كمَن لسعتها عقرب نهضت ابنة الخليفة وصرخت بجنون:
        ـ لا! لن أتحمّل أكثر من هذا..
        وانطلقت إلى قصر ابيها وقد مضت ساعات من الليل.. كان الخليفة يكرع كؤوس الخمر وحيداً ثملاً.. عيناه تستعران كنافذتين تطلاّن على الجحيم.. قالت وهي تتباكى:
        ـ إنّه يشتمني.. ويشتمك، بل ويشتم بني العبّاس جميعاً..
        وانفجر مخزون حقد هائل في أعماق الرجل الذي شرب كؤوس خمرته حتّى الثمالة..
        كان السيف المعلّق على الجدار يدعوه للانتقام.. للقتل.. ولم يكن هناك من لحظات للتفكير.. لقد انكشف الوجه الحقيقيّ لذئب بني العبّاس.. سوف يمزقه.. هتف بهستيرية وهو يخترط سيفه:
        ـ لأمزّقنّه..
        هل وجدها فرصة للتخلّص منه ؟ هل كان حقّاً ثملاً لا يعي ما يفعل ؟!
        كان يركض مترنّحاً وابنته خلفه، وانتحى خادمٌ جانباً مذعوراً لا يدري ما الذي سيفعل هذا الرجل الذي بدا كالمجنون... لا أحد يدري ما الذي جرى داخل الحجرة.. ضربات السيف وصيحات الخليفة تعكس هول الجريمة.. إنّ هذا الشاب الذي ناهز العشرين يتمزّق تحت ضربات مجنونة لا ترحم..
        فرّت أم الفضل لا تُطيق أن ترى منظر زوجها القتيل، وشعرت بالندم.. نفس المشاعر التي داهمت قابيل بعد أن نفّذ جريمته فقتل أخاه..
        كان صباحاً مشرقاً ونسائم دجلة النديّة تهبّ من الشواطئ المكتظّة بأشجار النخيل..
        وجاء ياسر الخادم ليرى تفاصيل الجريمة فألفى سيّده يستاك... في يده عود من شجرة « أراك ».
        وقف الخادم مبهوتاً، فقال الإمام وقد أشرقت ابتسامة في محيّاه:
        ـ أما عَلِم أنّ لي ناصراً وحاجزاً يمنعه منّي ؟!
        وألقى الخادم نظرة في الحجرة فرأى وسادة ممزقة، فقال:
        ـ كان ثملاً لا يعي مَن حوله وما الذي يفعله.
        كان المأمون يستعيد ما حصل ليلة أمس، يعتصر ذاكرته التي شوّشها الخمر.. يستعيد لحظات ما حصل.. كان محمّد في حجرته.. لم يكن قد نام بعد..
        أهوى عليه بالسيف ليمزّقه.. هل كان في حلم.. هل كان كابوساً ؟ كم رأى من الكوابيس في هذه الليالي.. كم أرّقته الأحلام، لماذا يرى بعض ضحاياه في الحلم.. لماذا يأتيه الفضل بن سهل، ولماذا لا يتركه « حميد الطوسيّ » ينام..
        لماذا يرى قصوره تحترق.. وهو يهرب مذعوراً.. آه ما ألذّ الخمرة بخدرها اللذيذ ؟! ولكن ماذا يقول للناس وقد قتل صهره ؟!
        وهتف ياسر الخادم الذي بعثه ليرى ماذا حصل:
        ـ البُشرى يا أمير المؤمنين.. البُشرى.
        ـ ماذا وراءك ؟!
        ـ وجدتُه يستاك يرتدي قميصاً.. إنّه لم يُصَب بأذى.
        ـ كيف وهذه اللعينة تقول أنّي قتلتُه.
        ـ إنّها تقول الحقيقة.
        ـ إنّني لا أتذّكر سوى مجيئها بالأمس وبكائها وهي تشكوه.
        وتظاهر بالارتياح.. بل وهوى ساجداً يشكر الله على الستر، ثمّ قال:
        ـ إحمل إليه عشرة آلاف دينار ولك ألف دينار، ولا تذكر ما حصل لأحد.. وقُل له يأتي عندي
        (68)..
        اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


        تعليق


        • #24
          ابتهال


          جلس الإمام إلى جانب الخليفة بما يجعله الرجل الثاني في الدولة.. وبدأت شخصيات الحُكم بالتوافد وهي تُحيّي الخليفة وصِهره الأثير.
          وعندما انشغل الجميع بأحاديث جانبية بعضها عن انباء أنطاكيا الحزينة وقد دمّرها الروم
          (69).
          همس الخليفة معتذراً:
          ـ لم أكن أعقِل شيئاً ممّا فعلت.. لا تُؤاخذني ولا تعاتبني.
          قال الإمام:
          ـ عندي لك نصيحة.
          ـ هاتِها يا ابن العمّ.
          قال الإمام باخلاص:
          ـ أُشير عليك بترك الشراب المُسكِر.
          قال المأمون:
          ـ فداك ابنُ عمّك، قد قبلتُ نصيحتك.
          وراح المأمون يختلس النظر وتساءل في نفسه:
          هل ذبحه حقاً ؟! أم كان وهماً ما فعل.. لقد ظن أنه قد مزّقه بل وضع السيفَ على رقبته وذَبَحه من الوريد إلى الوريد، ولكن ليس هناك من أثر!!
          هل شُبِّه له.. هل أهوى على الوسائد والفراش مَثَلاً متصوّراً بأنها محمّد ؟!
          هل وقعت معجزة في هذا الزمن ؟!
          كان الإمام ينظر عبر النوافذ المشرعة وقد تألّق نور في عينيه، وطافت غيمة حزن فوق جبينه الأسمر، أمّا المأمون فقد بدا غارقاً في هواجسه.
          أدرك الإمام ما يموج في أعماق الخليفة.. فقال بأدب:
          ـ عندي عقد تحصّن به نفسك ويحميك من الشرور..
          كما أنقذني الله منك البارحة.. حتّى لو لقيت به جيوش الروم.. فإن أجبتَ بعثتُ به إليك.
          أجاب المأمون وقد انبعث في قلبه أمل في الانتصار على الروم:
          ـ نعم.. أكتبه بخطّك وابعثه إليّ..
          وفي المنزل طلب الإمام جلد غزال تِهاميّ وراح يكتب الكلمات المقدّسة:
          ـ أنت الذي خشعت لك الأصوات..
          وضلّت فيك الأوهام..
          وضاقت دونك الأسباب..
          وملأ كلَّ شيء نورُك..
          ووَجِل كلُّ شيء منك..
          وهرب كلُّ شيء إليك..
          وتوكّل كلُّ شيء عليك..
          وأنت الربيع في جلالك..
          وأنت البهيُّ في جمالك..
          وأنت العظيم في قدرتك..
          وأنت الذي لا يُدركك شيء..
          وأنت العليّ الكبير العظيم ومُجيب الدعوات..
          قاضي الحاجات.. مُفرِّج الكُرُبات.. وليّ النعمات..
          يا مَن هو في عُلُوّه دانٍ..
          وفي دُنُوّه عالٍ..
          وفي إشراقه منير..
          وفي سلطانه قويّ..
          وفي مُلكه عزيز..
          صلِّ على محمّد وآل محمد..
          واحرس صاحب هذا العقد وهذا الحرز وهذا الكتاب بعينك التي لا تنام، واكنفه برُكنك الذي لا يُرام.
          وارحمه بقدرتك عليه فإنه مرزوقك.
          وقال مخاطباً ياسراً:
          ـ احمله إلى أمير المؤمنين وقُل له يضعه في قَصَبة من فِضّة خالصة، ولينقش على القصبة هذه الكلمات:
          ـ يا مشهوراً في السماوات..
          يا مشهوراً في الأرضين..
          يا مشهوراً في الدنيا والآخرة.
          جَهِدتِ الجبابرة والمُلوك على إطفاء نورك.
          وإخماد ذِكرك.
          فأبيتَ إلاّ أن يتمّ نورك.
          ولو كَرِه المشركون
          (70).
          لم تمض سوى أيّام حتّى أعلن الخليفة، أنّه سيثأر لأنطاكيا وسيلقّن أعداء الإسلام دروس العزّة والكرامة.
          وبدأت جيوش الإسلام زحفها باتجاه الحدود الشماليّة، وتساقطت حصون الروم ( ملطية ) و ( ماجدة ) و ( سندس ) وفُتحت مدينة أنقرة، وانكفأ الامبراطور « تيئوفيل » خاسئاً وهو حسير.. ولكنّه ظلّ يتربّص الفرص للانقضاض مرّة أخرى.
          اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


          تعليق


          • #25
            انتهاء الحلم

            ليس هناك ما هو أقسى من حياة المرء مع من لا يحبّ، ولقد بدا ومنذ الأيّام الأولى أنّ « زينب » بنت المأمون لم تلج قلب ذلك الشاب التقيّ، فهناك من التناقضات ما يحوّل الحياة إلى جحيم لا يطاق؛ ومع كلّ ذلك فقد كان محمّد الذي تجاوز العشرين ربيعاً من عمره قد أبدى صبراً عجيباً في تحمّل زوجة لا تعرف من الحياة غير المال والجاه والنفوذ..
            أمّا تلك الحياة الهادئة المُفعمة بالسكينة والإيمان فلم يكن لها معنى في حياتها..
            غير أن قَدَراً ما ساق إليه « جمانة » تلك الفتاة السمراء التي جمعت جمالَين: جمال الخَلْق وجمال الخُلُق والروح... بدّدت في حضورها الأجواء الملبّدة بالغيوم، حتّى إذا وُلد « عليّ » أضاءت شمسٌ بهيّة ملأت المنزل بالنور والدفء..
            كان الإمام يدرك حراجة موقفه من زينب العبّاسيّة التي لا تعرف أبسط حقوق الزوجيّة..
            ومع ذلك فكان يتحمّل مرارة الحياة معها.
            فقد تثوب إلى رشدها.. قد تعود إلى ذاتها وفِطرتها وتنزاح عن عينيها ظلمات الذهب البرّاق والنفوذ، فترى نور الحقيقة..
            إنّه يُدرك مدى أحقاد العبّاسيين الذين ينظرون إليه بعيون كالجمر.. يَرَون فيه منافساً لهم.. عقبةً في طريقهم.
            من أجل هذا استأذن الخليفة في الحج مرّة أخرى..
            بغداد أيّتها المدينة اللعوب... يا غانية الشرق التي لا تُصغي إلاّ للموصليّ...
            ضاعت في دروبها آيات القرآن.. واختنق في منائرها صوتُ الأذان...
            مَن ينظر إلى عينَي محمّد يدرك الأحزان التي تموج في قلبه.. يدرك مأساته كإنسان، وفي غُربته يدرك مِحنة الإسلام.. الإسلام الذي تألّقت كلماته فوق سفوح حِراء..
            من أجل هذا كان محمّد يرنو صوب مدينة جدّه العظيم... أدار ظهره لبغداد اللاهية؛ إلى مدينة النخيل إلى مهبط جبريل، هناك يستطيع أن يتنفّس مِلء رئتيه هواءً نقياً... بعيداً عن قصور بغداد المليئة بالدسائس والمؤامرات..
            لكنّه لا يستطيع مغادرة بغداد دون تصريح رسميّ.. سوف يتحمل الغصص من أجل آلاف المشرّدين الذين نعموا قليلاً بدفء السلام.
            أمّ الفضل تكتب إلى أبيها تحرّض الذئاب على زوجها... وقد سيطرت عليها حُمّى الانتقام... في أعماقها ذئب شرّير يريد تمزيق كلّ الاشياء الجميلة..
            من أجل هذا كان الشاب العلويّ يتطلّع إلى السماء حيث العالم اللامتناهي ويغمغم بأسى قائلاً:
            ـ الفرج بعد المأمون بثلاثين شهراً.
            الأفق مشحون بالمؤامرة، مُترَع بالدسائس والاحلام المريضة، وفي مِثل هذا العالم القذر كيف يتسنّى للإنسان الطاهر أن يحيا بسلام ؟!
            ويتطلّع الإمام إلى الآفاق البعيدة فيراها تشتعل حرائق.. ودُخاناً يتصاعد في الفضاء يحرق العيون.. وأنهاراً من دم عبيط...
            وخيولاً مجنونة ما انفكّت تهزّ الأرض.. وذئاباً تعوي في ليل شتائيّ طويل يئنّ من زمهرير الرياح.. رياحٍ عاتية.
            وفي مثل هذا العالم المثقل بالآثام تنفتح في السماوات كوّة تُفضي إلى عالم مُفعم بالسكينة مغمور بالسلام.. عالم بعيد عن شرور الأرض... عالم ظليل، ظلاله وارفة هادئة، يزخر بشذى أشجاره الخالدة...
            من أجل هذا قال الإمام وهو يرنو إلى السلام القادم:
            ـ الخلاص بعد وفاة المأمون..
            والمأمون في طرسوس من شمال سوريا... إنّه يقترب من الحفرة التي سيسقط فيها.. إنّه يبحث عن جنّته في الأرض، وما الأرض إلاّ كبيت العنكبوت.. قوّةٌ ما تسوقه إلى الهاوية التي سيتردّى فيها... إنّه لا يُدرك ذلك، فلا تدري نفسٌ ماذا تكسب غداً ولا تدري نفسٌ بأيّ أرض تموت!
            الأشجار تلقي ظلالها فوق النبع، والمياه الصافية تتدفّق فيُحدِث ارتطامها بالصخور صوتاً عذباً يعكس عذوبة المياه نفسها، وكانت نقاط الضوء المتساقطة تتألّق فينبعث منها نور شفّاف..
            كان المأمون جالساً عند حافّة النهر الصغير قريباً من النبع.. المياه الباردة في ذلك الصيف تغسل قدميه وتُشيع في جسده برودة منعشة.
            نظر إلى رأس أخيه، وودّ لو يعرف ما يدور في هذا الرأس الكبير الفارغ !
            (71)
            وعندما مُدّ الخوان وامتلأ بأصناف الطعام قال المأمون:
            ـ ما ينقص هذه المائدة ؟
            قال رجل:
            ـ أمير المؤمنين أعلم.
            قال الخليفة الذي اقتربت نهايته:
            ـ كثة رطب.
            وسُمع صهيل خيول البريد.. وهتف حارس من بعيد:
            ـ خيول بريد بغداد.
            وجاء جندي يحمل سلّتين تطفحان رطباً جنيّاً...
            وبرقت فرحة في عينَي المأمون، وراح يلتهم حبّاتها باشتهاء.
            ولكنّه ما أن ارتوى حتّى داهمته مشاعر مبهمة وظهرت كآبة همّ ثقيلة فغمغم قائلاً:
            ـ ملكتُ الدنيا وذلّت لي الصعاب.. وبلغت آرابي
            (72).
            ها أنا اشتهي رُطباً في أرض ليس فيها نخل فيأتيني.. فما الذي بقي لي في هذه الدنيا ؟! إنّني أقترب من النهاية... آه.
            لقد انتهى الحلم اللذيذ..
            وفي تلك الليلة شعر بالحمّى.. وداهمته آلام رهيبة... آلام تُشبه سكاكينَ وخناجر تقطّع أمعاءه وكبده.. وتذكّر وصيّة صِهره الطاهر: لا تُعاقر الخمرة!.. آه لو أنّي سمعت نصيحته! ولكن ما قيمة الدنيا دون خمرة وغناء ولهو ؟!
            وراحت السكاكين والخناجر تمزق أحشاءه بقسوة فظيعة.. فتح عينيه بعد غيبوبة طويلة.. رأى كثيراً من الوجوه تنظر إليه، وعرف أخاه وابنَيه، وميّز وجه الطبيب ابن « ماسويه »...
            عندما حلّ المساء وألقى الظلام كلاكله كان المأمون قد استعاد قدراً من حيويته.. إنّها صحوة الموت، نظر إلى بعض حرسه وأمرهم بايقاد المشاعل في العراء..
            وأضاءت آلاف المشاعل.. بددت ليل طرسوس، بدت المشاعل كنجوم السماء.. وتصاعد الدخان.. في منتصف الليل كانت تخبو شيئاً فشيئاً.. انطفأت مشاعله... واستحال الجمر المتوهّج إلى رماد...
            زحف « عبدالله » من فراشه.. راح يتمرّغ في الرماد.. لقد انطوت حياته.. انطفأت كانطفاء المشاعل.. واشتعلت في ذاكرته صور ضحاياه.. كم قتل خلال عشرين سنة من حكمه ؟
            راح يبحلق في السماء المرصّعة بالنجوم.. هتف من أعماق روحه الأسيرة:
            ـ يا من لا يزول مُلكُه! ارحَم مَن زال مُلكُه.
            وبدأت لحظات الاحتضار... استحالت الاشياء إلى كابوس.. هل هو في حلم مخيف ؟
            وسمع صوتاً يلقّنه كلمات الشهادة.. قل: أشهد أن لا اله إلاّ الله...
            ولكنه لا يستطيع.. حتّى لسانه خرج عن أوامره...
            لم يبق له شيء من مملكته الزائلة.. سينتقل مجده الذي بناه على الجماجم إلى غيره.. الثراء والقصور المُلك العريض وآلاف الجواري الحِسان... آه ما أتفه هذه الدنيا...
            وجاء الصوت: قل: أشهد أنّ محمّداً رسول الله...
            آه لا أستطيع لا أستطيع..
            تذكّر صهره الطاهر ذلك الشاب الطاهر.. إنّه قبس من روح محمد... سمع صوتاً آخر يعرفه، إنّه صوت الطبيب ابن ماسويه يقول للذي يلقّنه الكلمات المقدّسة:
            ـ دعه فإنّه لا يفرّق في هذه الحال بين ربّه وماني.
            وانفجر غيظاً فتح عينيه.. أراد أن يُصدر أوامره بالبطش بهذا الطبيب الحقير.. ولكن يا للتعاسة إنه لا يستطيع.. لقد عجز عن الكلام..
            اللحظات تمرّ.. والرجل المحتضر يشعر أنّه يغوص في هوّةٍ بلا قرار.. وأضاءت حقيقة خالدة.. آه إنّه يموت.. يستحيل إلى جُثّة هامدة... لقد انتهى الحلم.
            اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


            تعليق


            • #26
              الحاكم الجديد


              عجيب هذا الإنسان!.. يرى الحقيقة أمام عينَيه فلا يراها تتجسّد أمامه تصرخ به.. لكنّه يحسبها بعيدة عنه لا تخصّه ولا تهتف به.. أليس هذا الذي يتمرّغ أمامهم في رماد المشاعل مَلِكاً يحكم نصف العالم ؟!
              ها هو الآن يودّع الدنيا بكل لذائذها.. ها هو الآن يسافر على الرُّغم منه.. ها هي الحقيقة.. الحقيقة الكبرى.. الموت.. نهاية الإنسان. المصير الحتم يختطفه كصقر يمسك بعُنقه ينتزعه على الرغم منه فلا تُجديه نفعاً جيوشه وأمواله وحرسه الخاص!
              عجيب أمر هذا الإنسان يرى كل شيء أمامه فلا يراه.. وهذه الحقيقة التي يخشع الإنسان في حضرتها كيف تتحول إلى بريق في عيون الآخرين... بريق يشعل آلاف الاطماع في عيونهم..
              « أبو اسحاق » برأسه الكبير لا يكاد يضمّه جلده.. سوف يصبح خليفة البلاد وحاكم العباد وهذه الجيوش الجرّارة تنطلق بأمره!
              حتّى « العبّاس » و « جعفر » لم يَكترِثا لموت أبيهما.. كانا مشغولين بالأسلاب، بل إنّ العبّاس ناقم على أبيه الذي لم يكتب له عهداً بالمنصب الخطير، وترك الخلافة لعمّه دون ابنه.. لماذا ؟!
              أبو إسحاق الذي ورث ملامح أمه التركيّة... هذا الرأس الكبير الذي لم يتعلّم بَعدُ حرفاً واحداً، كيف سيكون جديراً بالخلافة ؟!
              أبو إسحاق يدرك أطماع ابن أخيه.. يدرك ما يموج في أعماقه من شهوة الحكم، ويعرف أن كثيراً من القادة العسكريين يتمنّون أن يصبح العبّاس خليفة.. يُمنّونه الخلافة.. ولكنه يعرف كيف يتصرّف مع هؤلاء.. عندما يعلن العبّاس بيعته فإنّهم سوف يبايعون.. لن يعود إلى بغداد قبل أن يرتّب أمر الجيش ويجعله طوع بنانه.
              بغداد تموج بأهلها وقد استعرت حمّى الشهوات، ودوريات العسكر تجوب الأزقة، وقد بدأت إجراءات الخليفة الجديد، تقبض بقسوة على أزمّة الحكم، ودارت الدنيا دورتها فخدمُ القصور أصبحوا سادة وقادة، وما انفكّت الدنيا تمارس لعبتها القديمة مع أبنائها: ترفع أُناساً وتخفض آخرين..
              ودجلة تتدافع أمواجه يتعجّب من هذه المدينة التي وُلدت قبل ألف شهر، ما تزال سكرى بنشوة اللذائذ غافلة عن الذين بدأوا يتوافدون بالمئات والألوف كأن وجوههم المِجانّ المطرّقة، غِلاظ الأكباد.. لقد نحتت الرياح الباردة وجوههم الجامدة فاستحالت قلوبهم إلى كُتَل من الرصاص!
              كان الخليفة الجديد الذي سمّى نفسه « المعتصم »، منتشياً وهو يُصغي إلى كلمات الثناء، وقد خضع الجميع في مجلسه، وكان شاعر متكسّب يتغنّى بقصيدة مدحٍ تافهة وقد اصطفّ بعض الشعراء من أمثاله ينظرون دورهم.
              فجأة تقدّم الوزير يحمل رقعة مختومة من شاعر كبير أرسل قصيدته، وعندما سمع الخليفة أنّها من دعبل الخزاعيّ استوى جالساً وطلب من وزيره الجديد ابن ماسرجس ان يقرأها.
              فضّ الوزير الختم.. وعندما وقعت عيناه على الأبيات الشعرية ارتجفت يداه وسقطت الرقعة فوق أرضيّة البلاط، صرخ الخليفة بعصبيّة:
              ـ ماذا حصل ؟!
              قال الوزير:
              ـ أعفِني يا أمير المؤمنين.
              ـ قلت لك إقرأْها.
              تقدّم الوزير وهمس بكلمات أجّجت الجمر في عينَي المعتصم، أمسك المعتصم بالرقعة وراح ينظر إلى كلماتها ولكنه لم يستطع قراءة كلمة واحدة.. لشدّ ما يمقت الكتاب والكتابة!!
              أمر الخليفة وزيره أن يقرأها له بصوت خافت، وراح الوزير يقرأ بصوت مرتبك الأبيات الثائرة في زمن الخنوع:
              ملـوكُ بني العباس فـي الكُتْبِ سـبعةٌ ولم تأتِـنا عـن ثــامنٍ لهمُ الكـتـبُ
              كذلك أهـلُ الكهف في الكهـف سبـعة كـرامٌ إذا عُـدّوا وثـامنـهم كـلـبُ
              وإنّي لأُعـلـي كلبَـهَم عنـكَ رِفعـةً لأنّـك ذو ذَنْـبٍ ولـيـس لـه ذَنْـبُ
              لقد ضاع أمرُ النـاس حيثُ يسـومهـم وَصيفٌ وأشناسٌ وقد عَظُم الخَطبُ (73)
              اشتعل الحقد في صدره وتأجّجت عيناه ببريق الانتقام، وافلتت منه كلمات تركيّة تعلّمها من أمّه في وعيد وتهديد (74).
              لم تمرّ سوى اسابيع معدودة عندما أمر الخليفة الجديد بطرد العرب من مؤسّسات الجيش والقوّات المسلّحة، وصدرت أوامر مشدّدة في استخدام الاتراك الذين بدأ تدفّقهم إلى العاصمة بشكل هدّد فيها الأمن والاستقرار.
              وأصدر المعتصم أمراً بتعيين خادم تركيّ غليظ يُدعى أشناس قائداً على الجيش كما أُسندت له إدارة اقليم مصر.
              وفيما كان الجنود الاتراك الذين جاءوا من الصحارى القاسية يعيثون فساداً في بغداد... كان أحمد بن حنبل يتلوّى تحت سياط المحنة.. محنة خلق القرآن.
              وكان الإمام الجواد ينظر إلى الأفق اليها فيراه مليئاً بالدماء القانية، من أجل هذا غادر بغداد قبل أن يصل ابن ماردة إليها.. ولكن...
              اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


              تعليق


              • #27
                العودة إلى بغداد

                أطلّ العام الجديد وبدأ هلال محرّم ابتسامة حزينة توحي بالكثير من الأسرار.. وتسامع أهل بغداد بتعيين تركيّ جديد ليكون قائداً من قادة الجيش، لم يكتف الخليفة الذي فارت دماء الأخوال في عروقه بالأفشين وبأشناس، فإذا هم يرون رجلاً يحسبه المرء معتوهاً إذا رآه.. ولكنّ زيّه كقائد عسكريّ وبريق الديباج يبهر الناس وهم يتطلّعون إليه متصدّراً قوّاته التي غادرت بغداد نحو آذربيجان لقمع الثورة التي اندلعت قبل عشرين سنة.
                وعندما حلّ يوم عاشوراء، تدفّق أهالي بغداد إلى شواطىء دجلة بالرغم من البرد القارس، فالسواقي الصغيرة وبغداد تتجمد في أشهر الشتاء، وتظل شطآن دجلة مقفرة حتّى إطلالة الربيع..
                ولكن ما دفع الناس إلى التجمهر على امتداد الشواطىء هو الاعلان عن قدوم السفن من البصرة تحمل آلاف الرجال والنساء والاطفال من « الزطّ » الذين استسلموا بعد عشرين سنة من التمرّد في الأهوار جنوب العراق
                (75)..
                فالأطفال الذين سمعوا حكايات البحّارة عن الزطّ ووصفهم لأشكالهم المخيفة جاءوا ينظرون اليهم..
                وتضاعفت حوادث الدهس ذلك اليوم الحزين، وقُتلت فتيات تحت سنابك خيول أصيلة يمتطيها جنود أتراك غِلاظ الأكباد، وبرقت في عيون بعض الأهالي إرادة الثأر والانتقام.
                وفيما كان موكب الخليفة الذي أُعدّ له مكان على متن سفينة شراعيّة في الطريق؛ انبرى شيخ يتوكّأ على عصاه.
                المعتصم تحفّه رماح وجنود وأكباد مقدودة من الصخر الجلمود ووجوه كأنها المجانّ المطرّقة.. هتف الشيخ ملوّحاً بعصاه:
                ـ يا أبا إسحاق!
                وتبادر الجنود لافتراسه، كيف يخاطب الخليفة دون ألقاب السلطان ؟!
                واستأنف الشيخ صرخته:
                ـ لا جزاك الله عن الجوار خيراً.. جاورتَنا وجئتَ بهؤلاء العُلوج فأسكنتَهم بين أظهُرنا.. فأيتمت صِبياننا وأرملت نساءنا وقتلت رجالنا.
                لم يكترث المعتصم له، لأنّ رأسه الكبير كان يضجّ بالقلق والهواجس.. ربما تتفاقم الأوضاع وتصبح أكثر سوءً، وقد يحدث تمرّد عسكريّ.. من يدري ؟
                (76)
                وبدأت سلسلة من اغتيال الأتراك، من أجل هذا فكّر المعتصم ببناء مدينة جديدة تسرّ من رآها
                (77)، فهناك في « القاطول » مصيف لهارون الرشيد يمكن أن يكون نواة لهذه المدينة، وأصدر الخليفة مرسوماً يمنع الاتراك من الزواج بغير التركيّات. يريد لجيشه الجديد أن يبقى على تقاليده القاسية البعيدة عن أسباب الحضارة والمدنيّة.
                وبدأ تدفّق آلاف الجواري التُركيّات ليصبحن زوجات... ولتصبح العاصمة الجديدة ثكنة عسكرية أو مستوطنة تركيّة تضمّ آلاف الاتراك المحاربين الذين لا يعرفون غير دقّ طبول الحرب.
                الخليفة على متن سفينة شراعيّة وقد وصلت طلائع السفن والزوارق.. جنود اتراك يحفون بالخليفة.. وأصبح التحدّث باللغة التركيّة جزءً من ثقافة بغداد الجديدة.. فهؤلاء الغلاظ سوف يمسكون بمقدّرات الدولة الإسلاميّة المترامية الأطراف.
                وصلت السفن وظهر « الزطّ » في السفن.. والمجاذيف تصارع مياه دجلة في طريقها إلى الشمال، وقد ضرب الخليفة عصفورَين بحجر واحد: التخلّص منهم، وجعلهم سدّاً بشرياً في مواجهة الروم
                (78).
                أصوات أبواق الزطّ تملأ الفضاء، حتّى إذا اجتازوا « الشماسيّة » خفتت، إذ توجّب عليهم مغادرة السفن إلى الجانب الشرقي من دجلة لشحنهم برّاً إلى خانقين منها إلى الحدود مع الروم في « عين زربة ».
                وفي المدينة الطيّبة.. مدينة الرسول كانت النخيل تنشر الظلال ورياح شباط القارسة تهبّ، وكان الشاب الذي ناهز الرابعة والعشرين من عمره في طريقه إلى مسجد بناه جدّه العظيم..
                حزيناً كان يسير.. سوف يودّع الربوع الحبيبة وربّما إلى الأبد...
                لأسباب غامضة قرّر الخليفة الذي مضى على حكومته عام وبضعة شهور استدعاءَ صِهر أخيه من أبيه.
                ما أقسى الحياة في عالم غارق في الشرور.. عالم تستحيل فيه مُثُل الاخلاق إلى كائنات خائفة مُطاردَة كأنّها ليست من هذا العالم..
                اتّجه الشاب الذي أُوتي عِلم الكتاب بكلّيّته إلى السماء في ظلال سقف المسجد، وقد فاح عبير قادم من ثرى يضمّ آخر الأنبياء في تاريخ الإنسان... وقف يصلّي ركعتَين... سورة الحمد في كل ركعة، وسبعين مرّة تلا سورة الاخلاص..
                ورفع كفَّين سمراوَين، وكان قلبه يتّجه إلى نقطة هي مصدر الحياة والوجود.. وانسابت كلمات خاشعة:
                ـ يا من لا شبيه له ولا مِثال، أنت الله لا إله إلاّ أنت، ولا خالق إلاّ أنت.. تُفني المخلوقين وتبقى.. حلمتَ على مَن عصاك، وفي المغفرة رضاك..
                وفي المنزل قال لولده عليّ وهو يحاوره:
                ـ ما تحبّ أنت أن يُهدى إليك من طرائف العراق ؟
                قال الصبي:
                ـ سيفاً كأنّه شُعلة.
                قال الأب وقد ملأ قلبه الأمل:
                ـ أشبَهَني أبو الحسن
                (79).
                وفي منتصف شهر محرّم الحرام ودّع الإمام أحبّ المدن إليه وأقربهاإلى قلبه، ودّعها وودّع ابنه عليّاً، ومضى إلى بغداد... مصطحباً معه زوجته ابنة الخليفة السابع...
                وقبل أن يطلّ هلال صفر ورد ابن الرضا بغداد من بوّابة الكوفة ليبدأ الفصل الأخير من حياته.. غريباً سيقضي أيّامه الأخيرة.. وما أقسى الغربة! سياط الجلاّدين أرحم منها.
                اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                تعليق


                • #28
                  حياكة المؤامرة

                  اتّخذ الشاب المَدَنيّ طريقه على شاطئ دجلة الشرقيّ وحيداً متّجهاً نحو قصور الخلافة في الشمّاسية.. الشواطئ مقفرة بسبب لفحات البرد في أُخريات شتاء سنة 834 لميلاد السيّد المسيح..
                  منظر دجلة وهو يخترق بغداد وحيداً بين النخيل كان حزيناً، ووقعت عيناه على جذوع نخيل محترقة، كانت مجانيق الحرب الأهلية التي اندلعت قبل عشرين سنة قد أحرقتها فهوت شهيدةً على الشُّطآن.. ثمّ اتّخذها صيّادو السمك فيما بعد مراسيَ لزوارقهم الصغيرة.. وفي الربيع تستحيل تلك الجذوع البائسة إلى مصاطب للمتنزّهين.
                  فضّل محمد أن يسلك الطريق الساحليّ مشياً على الأقدام، يريد أن ينفّس عن روحه مشاعر الغُربة التي تحاصره في زمن الزمهرير.
                  وفي القصر الجديد عقد المعتصم اجتماعاً مع الفقهاء لبحث عقوبة السارق.
                  وبدأت المداولات في الحكم الذي تبلور في جبهتَين: فقهاء رأوا رأي قاضي القضاة أنّ يد السارق تُقطع من المفصل بين الكفّ والساعد، وجبهة أخرى ترى قطعها من المرفق.. وكان الإمام معتصماً بالصمت.. ينطوي على ألم عميق.. كيف تضيع شريعة الله حتّى لا يُعرَف حكمٌ من أحكامها! وكيف يجتمع لصوص الحكم لقطع يد انسان سرق ربما دفعه الإملاق واليأس إلى ذلك ثمّ جاء يتطهّر من خطيئته!
                  التفت الخليفة إلى قاضي القضاة سائلاً:
                  ـ ما هو الدليل على رأيك ؟
                  قال القاضي:
                  ـ لأنّ اليد هي الأصابع والكفّ إلى الكرسوع، وقد قال الله في التيمّم: فامسحوا بوجوهِكم وأيديكم .
                  والتفت المعتصم إلى الجبهة الأخرى فقال فقيهُها:
                  ـ بل يجب القطع من المرفق.
                  قال الخليفة:
                  ـ والدليل ؟
                  ـ لأنّ الله قال في الوضوء: وأيديكم إلى المرافق فنحن نغسل أيدينا إلى المرافق، وهذا يدلّ على أن اليد هي إلى المرفق.
                  وساد صمت مهيب.
                  واستدار الرأس الكبير إلى الفتى الصامت فقال:
                  ـ ما تقول في هذا يا أبا جعفر ؟
                  قال الذي عنده عِلم الكتاب:
                  ـ قد تكلّم فيه القوم!
                  ـ دعني ممّا تكلّموا به... أيّ شيء عندك ؟
                  ـ أعفِني يا أمير المؤمنين!
                  ـ أقسمتُ عليك بالله لَمّا أخبرتَ بما عندك!
                  ـ أمّا إذا أقسمتَ عليّ بالله فإنّي أقول: إنّهم اخطأوا فيه السُنّة... إنّ القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع ويُترَك الكفّ.
                  قال المعتصم:
                  ـ وما الدليل على ذلك ؟
                  ـ قول رسول الله صلّى الله عليه وآله: السجود على سبعة أعضاء: « الوجه واليدَين والرُّكبتَين والرِّجلَين » هذه هي المساجد السبعة، فإذا قُطعت يده من الكرسوع أو المرفق لم تبقَ له يدٌ يسجد عليها، والله تبارك وتعالى يقول: وإنّ المساجدَ لله يعني به هذه الاعضاء السبعة التي يسجد عليها فلا تَدْعوا مع اللهِ أحداً
                  (80).
                  فغر المعتصم فاه لما يسمع وهتف:
                  ـ إنّ هذا لهو الحُكم!
                  الذين حضروا الاجتماع أدركوا أنّهم أمام شاب آتاه الله العِلم وجعله إماماً.
                  استحالت عينا القاضي إلى كُوّتَين تطلاّن على عالم يموج بالجحيم.. يموج بالشرور... وقد تأجّجت آلاف الغرائز والعُقَد... حسد وحقد وأطماع رخيصة وهواجس شيطانيّة.. وربما يعيّن الخليفة هذا الفتى الأسمر قاضياً للقضاة...
                  هتف في أعماقه: يا للَهول... سوف يقضي علَيَّ... لا.. لا.. لن أسمح أبداً.
                  لم يسمع الذين حضروا الاجتماع صيحات الرعب والحقد والضغينة في أعماق القاضي... ولكنّ الشاب وقد ألقى نظرة الوداع على الدنيا أدرك أنّها النهاية... من أجل هذا أخذ أُهبة الاستعداد للرحيل.. الرحيل عن هذا العالم المليء بالشرور إلى عالم أرحب زاخر بالطهر والمحبّة والسلام...
                  الجحيم تستعر في أعماق ابن أبي دُؤاد... وآلاف الشياطين تعربد في صدره.. وقد استحال رأسه إلى أفعى منتفخة بالسمّ.. قال « زرقان » صاحبه:
                  ـ ماذا حصل يا قاضي القضاة ؟!
                  قال بصوت يشبه فحيح الافاعي:
                  ـ إنّك لا تدري ما فعل هذا الأسود!
                  ـ من تقصد ؟
                  ـ محمّد بن علي.
                  ـ ابن الرضا ؟!
                  ـ نعم.
                  ـ ماذا حصل ؟
                  إن سارقاً أقرّ على نفسه وسأل الخليفة تطهيره بإقامة الحدّ عليه، فجمع لذلك الفقهاء في مجلسه، وقد أحضر محمّدَ بن علي، فسأَلَنا عن القطع في أيّ موضع، فقلت: من الكرسوع وقال غيري: من المرفق...
                  لكنّ الخليفة سأل الأسودَ فأجابه بجواب بليغ وحدّد موضع القطع من مفصل الاصابع ويُترَك الكفّ... فأخذ برأيه...
                  سكت زرقان وانطوى القاضي على شروره يفكّر ويدبّر.. فقُتِل كيف فكّر، ثم قُتل كيف دَبّر...
                  لم تمض سوى ثلاثة أيّام حتّى انتفخ السم في بطن القاضي لم يعد يتحمّل أكثر... ها هو في طريقه إلى قصر الخليفة في الشماسية..
                  دخل على سيّده فألفاه يكرع كؤوس الخمرة مع ابن اخيه جعفر... الرأس الكبير ينظر بعينين ثاقبتَين ليس فيهما ذكاء... كل ما فيها بريق الأفاعي والحيّات...
                  قال القاضي وقد أُترِعت نفسه حقداً وسمّاً:
                  ـ إنّ نصيحة أمير المؤمنين علَيَّ واجبة... وأنا أكلّمه بما أعلم أنّي أدخل به النار!!
                  قال المعتصم وقد شمّ رائحة الخطر:
                  ـ تكلّم!
                  ـ لقد جَمعتَ فقهاء الامة وعلماءها لأمرٍ من أمور الحُكم وسألتَهم عنه فأخبروك بما عندهم... وفي المجلس أسرتُك وقادتك ووزراؤك وكتّابك، ثمّ تترك أقوال الفقهاء وتأخذ بقول رجل يؤمنُ شطرُ هذه الأمّة بإمامته ويَدّعون أنه أولى بالخلافة
                  (81)... ومع هذا فأنت تأخذ برأيه من بين الآراء.. وينتشر الخبر بين الناس... أليس في هذا خطر ؟!
                  ضيّق ابن ماردة عينيه وعَلَت الصفرةُ وجهه:
                  ـ نعم لقد انتبهت.. هل عندك حيلة ؟
                  ابتسم القاضي بمكر ودهاء:
                  ـ دَعني أفكّر!
                  اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                  تعليق


                  • #29
                    ذئاب عاوية

                    لم يُضِع القاضي الذي انتفخ سمّه وقتاً واستحال إلى شيطان مَريد، وبدأت الافكار الشيطانيّة تَذرّ قُرونها في الأعماق المظلمة، واستحال العقل تلك الجوهرة المتوقّدة في الانسان... استحال إلى أُلعوبة بيد الشيطان.. وعندما تبرق الأطماع عندما تستحيل الطموحات الهابطة إلى صواعق حارقة ماذا يتبقّى من العقل ؟! سوف يسقط ضحيّةً لآلاف الهواجس الشيطانيّة.. لقد مات الانسان في اعماق ابن أبي دؤاد واستحال إلى رغبة في الانتقام، واشتعلت نار الحسد فأحرقت آلف العقل والروح والضمير.
                    فكّر القاضي: إنّ الإمام لدى أتباعه من الشيعة انسان نزيه لا يرتكب الخطيئة، فهو مثال ونموذج وقدوة، فإذا شوهد سكران فقد سقطت إمامته وانتهى...
                    وبرقت عينا الاسخريوطيّ بالغدر... نعم سوف يقضي عليه.. سيحرّض الخليفة على أن يُجرّعه كأساً أو كأسَين من الخمرة... إنّ خمرة « قُطرُبل » سوف تفعل فعلها...
                    أسرع القاضي إلى سيّده يبثّه المؤامرة... وتساءل المعتصم: هل يُجدي ذلك ؟!
                    قال القاضي: سأجسّ النبض.. سوف أُشيع ذلك أوّلاً، ثمّ نضرب ضربتنا القاتلة.
                    وفي اليوم الثاني قال القاضي وقد رأى في مجلسه رجلاً له علاقات مع الشيعة:
                    ـ ما رأيكم في شيء قاله الخليفة البارحة ؟
                    ـ وماذا قال:
                    ـ قال: ما ترى الشيعة تصنع إن أخرجنا إليهم أبا جعفر سكران ؟!
                    ـ إذن تَبطُل حجّتهم وتبطل أفكارهم.. ستكون نهايتهم.
                    قال رجل يكتُم إيمانه:
                    ـ إنّني أخالط بعضهم وأعرف أفكارهم ويُفضون إليّ بأسرارهم، وإنّ ما يصنعه الخليفة لن يكون دليلاً، بل العكس.
                    قال القاضي باستياء:
                    ـ كيف!!
                    قال الرجل:
                    ـ إنّهم يقولون إنّ الأرض لا تخلو من إمام يكون حجّة لله على الناس...
                    ـ لم أفهم شيئاً.
                    ـ إذا قصد الخليفة « الجوادَ » من دون الناس ليُخرجه إلى الناس سكران أدركوا أنّه الحجة، لأنّ الخليفة يريد إبطال إمامته والقضاء عليه، وعندها ستكون هذه الخطّة التي يريد السلطان تنفيذها دليلاً على إمامة الجواد.
                    وبُهِت الذي حَسَد وانطوى على خيبةٍ مريرة! لقد كان يطمح إلى ضربة قاضية تكون فيها نهاية مذهب أهل البيت
                    (82).
                    وأحاط القاضي خليفته وسيّده علماً بما جرى... وقال الخليفة وقد برقت عيناه:
                    ـ دَع الأمر لي.
                    وفي تلك الليلة، استدعى الخليفة ابن أخيه ليقضيا معاً أمسيّة لذيذة...
                    وعندما كان جعفر يكرع كؤوس الخمرة « القُطربُليّة » كان عمّه ينفخه سمّاً، وينسج له خيوط المؤامرة..
                    ومن ذلك الوقت أخذ جعفر يتردّد على منزل الإمام بحجّة زيارة أخته وشقيقته...
                    وكانت العيون تبرق بالغدر.. وبدأت الزوجة الغادرة تُصغي وقد انطفأت في أعماقها آخر شموع الانسانيّة، فإذا ذئاب الغَيرة والأطماع تعوى في الأعماق الخاوية المظلمة.
                    اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                    تعليق


                    • #30
                      وارتجف القصر

                      جالساً يتحدّث مع اصحابه وأصحاب كانوا لأبيه.. إذ قال رجل يعرف دسائس الحاكمين:
                      ـ يا ابن رسول الله، إذا جاء أمر الله فإلى من ؟
                      قال الإمام بحزن:
                      ـ إبني عليّ.. أمرُه أمري، وقولُه قولي، وطاعته طاعتي.
                      وسكت.. مرّت لحظات ثم رفع رأسه قائلاً:
                      ـ أما إنها ستكون فترة.. فالحَقْ بالمدينة.
                      تساءل الرجل:
                      ـ أيّة مدينة ؟
                      قال الإمام وقد هزّ أعماقَه شوق لجدّه الحبيب:
                      ـ مدينة الرسول.. وهل مدينة غيرها ؟!
                      قال الرجل وكان يحفظ حديثاً عن النبي في عِدّة الأئمّة:
                      ـ وبعد عليّ ؟
                      ـ ابنه الحسن، أمرُه أمر أبيه، وطاعته طاعة أبيه.
                      وسكت الإمام.. فقال الرجل وكان اسمه صفوان:
                      ـ يا ابن رسول الله، فمَن الإمام بعد الحسن ؟
                      وفُوجئ الحاضرون بالإمام يبكي.. لم يدرك أحد سرّ الدموع التي امتزجت بالكلمات.. كلمات هي من صفحات المستقبل الغامض:
                      ـ بعد الحسن ابنه.. وهو القائم بالحق.. المنتظَر.
                      ـ يا ابن رسول الله، ولم سُمِّي القائم!
                      ـ لأنّه يقوم بعد أن ينساه الناس، ويرتدّ أكثرُ القائلين بإمامته.
                      ـ ولم سُمِّي المنتظَر ؟
                      ـ « لأنّ له غيبةً يكثر أيّامها ويطول أَمَدها، فينتظر خروجَه المخلصون، ويُنكره المرتابون، ويستهزئ بذِكره الجاحدون، ويكذّب فيه الوقّاتون، ويهلك فيه المستعجلون، وينجو فيه المُسلِّمون »
                      (83).
                      ووضع الإمام كفّه على بطنه وتأوّه من الألم، فتساءل رجل كوفي:
                      ـ هل تشكو شيئاً يا سيدي ؟!
                      أجاب الإمام وقد تذكّر منديلاً
                      (84) كانت فيه رائحة غريبة:
                      ـ مَعِدتي..
                      وطلب طَبَقاً من الزبيب، وتناول هو وأصحابه حبّات منه..
                      شعر الكوفيّ بالظمأ وطلب ماءً، فنادى الإمام على الجارية:
                      ـ اسقيه من نبيذي!
                      جاءت الجارية تحمل نوعاً من النبيذ في قدح نحاسيّ، تناول الكوفي القدح وراح يرتشف على مَهَل متلذّذاً بطعمه.. قال وهو يأتي عليه كلّه:
                      ـ إنّه أحلى من العسل.
                      وأردف:
                      ـ هذا الذي أفسد معدتك.
                      أجاب الإمام بودّ:
                      ـ هذا تمر من نخيل النبيّ تمرسه الجارية في الماء، فأشربه بعد الطعام.
                      قال الكوفي:
                      ـ إنّ أهل الكوفة لا يرضَون بهذا.
                      تساءل الإمام:
                      ـ فما نبيذهم ؟
                      ـ يأخذون التمر وينقّوه من النوى ويلقون عليه القعوة.
                      ـ وما القعوة ؟!
                      ـ الدازي.
                      ـ وما الدازي ؟!
                      أجاب الكوفي:
                      ـ حَبٌّ يُؤتى به من البصرة فيُلقى مع التمر، ثمّ يُغلى معاً في الماء حتّى يُسكر ثم يُشرب.
                      أجاب الإمام مستنكراً:
                      ـ هذا حرام!!
                      (85)
                      وفي قصر الخلافة استدعى المعتصم بعض شخصيات الدولة وطلب منهم أن يشهدوا على الإمام الجواد بأنّه كان يخطّط للثورة..
                      ولبّى الذين باعوا أنفسهم للشيطان وراحوا يُعدّون رسائل مزوّرة على الإمام، فيها دعوة للقضاء على الخليفة والاطاحة بحكمه!
                      وفيما كان الإمام يتوضّأ متهيّئاً لصلاة العشاء.. طرق الباب جنودٌ أتراك طلبوا منه الحضور أمام المعتصم على وجه السرعة.
                      قال المعتصم بفظاظة:
                      ـ إنّك تريد الخروج علَيّ!
                      أجاب الإمام مستنكراً الاتّهام الظالم:
                      ـ واللهِ ما فعلت شيئاً من ذلك.
                      ـ كلاّ لقد فعلتَ وهناك مَن يشهد على ذلك.
                      ـ من هم ؟
                      ـ بعض الذين راسلتَهم.
                      وظهر شهود الزور كما تظهر الحيّات من جحورها، قالوا:
                      ـ نعم.. وهذه الكتب أخذناها من بعض غلمانك.
                      حدّق الإمام في الوجوه الصفر.. إنّهم لا يعرفون معنى الإنسانية ولا معنى الرُّجولة..
                      نظر الإمام عبر نافذة مُشرَعة إلى السماء الزرقاء وقد ظهرت بعض النجوم، وكان القمر في المحاق.. مدّ كفَّيه إلى السماء وقال:
                      ـ اللهمَّ إن كانوا كذبوا علَيّ فخُذهم.
                      وارتجف القصر.. واهتز البهو.. لقد استجابت السماء دعوة المظلوم.. لسوف ينخسف القصر كما انخسف من قبله قصر قارون.
                      وصرخ الخليفة مذعوراً:
                      ـ إنّي تائب فادعُ ربّك يُسكّنْه!
                      وتطلّع الإمام إلى السماء حيث كلّ شيء بأمره:
                      ـ إنّك تعلم أنّهم أعداؤك وأعدائي.. اللهمّ سكّنه!
                      (86)
                      وعاد السكون مرّة أخرى.. والأشياء إلى حالتها، ونهض الإمام..
                      ونظرات الخليفة المتوجّسة تشيّعه.
                      اللهمّ اجْعَلْني عِنْدَكَ وَجِيهاً بِالحُسَيْنِ عَلَيهِ السَّلأم فِي الدُّنْيا وَالاخِرَةِ


                      تعليق

                      المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                      حفظ-تلقائي
                      Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                      x
                      يعمل...
                      X