إنَّ للطفل ـ ذكراً كان أو أُثنى ـ حقّ الحياة ، فلا يبيح الشرع لوالديه أن يطفئا شمعة حياته بالوأد أو القتل أو الاجهاض . ولقد شنَّ الاِسلام حملة قوية على عادة (الوأد) التي كانت متفشية في الجاهلية، وتساءَل القرآن مستنكراً ومتوعداً : ( وإذا الموؤدة سُئلت * بأيّ ذنب قتلت) (التكوير: 8 ـ 9) واعتبر ذلك جريمة كبرى لا يمكن تبريرها ـ بحال
حتى في الحالات الاضطرارية كحصول المجاعة . وكانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر ، كما في قوله تعالى ): ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) (الانعام : 151) . وفي آية أُخرى : )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) (الاِسراء 31 (
والملاحظ في الآية الاَولى ، إنّه تعالى قدّم رزق الآباء على رزق الاَبناء، وفي الآية الاخرى ، نجد العكس ، إذْ قدّم رزق الاَبناء على الآباء ، فما السرّ في ذلك ؟ وهل كان التعبير عفوياً ؟ بالطبع لا ؛ لاَن التعبير القرآني قاصد ودقيق ، لا يقدّم كلمة أو يُؤخر أُخرى إلاّ لغاية وحكمة .
وعند التأمل العميق نجد ان قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من املاق)(الانعام : 151) . توحي بأن الفقر موجود بالفعل ، والمجاعة قائمة ، ولمّا كان اهتمام الاِنسان في تلك الازمان يتمحور حول نفسه ، يخشى من هلاكها ، لذا يُطمئنه الخالق الحكيم في هذه الآية بانّه سوف يضمن رزقه أولاً ، ومن ثم رزق أولاده في المرتبة الثانية ، يقول له : ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي يا أصحاب الاِملاق نحن نأتي برزقهم أيضاً .
بينما في الآية التالية ، يقول تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق (الاِسراء31) ، أي : خوفاً من فقر سوف يقع في المستقبل ، وبتعبير آخر : من فقر محتمل الوقوع ، وهنا يُطمئنه الرَّبّ تعالى بضمان رزق أبنائه أولاً ؛ لاَنّه يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم فيقول له مُطمئناً : (نحن نرزقهم وإياكم ) .
فالمعنى ـ في الآيتين ـ ليس واحداً ، وكلّ آية تخاطب الوالدين في ظرف معين ، ولكن تتحد الآيتان في الغاية وهي الحيلولة دون الاعتداء
على حياة الاَبناء . ثم إنّ الجاهلية كانت تمارس سياسة التمييز بين الجنسين بين الذكر والأنثى فتعتدي على حياة الاِناث بالوأد الذي كان يتمّ في صورة بشعة وقاسية ، ويفتقد إلى أدنى العواطف الاِنسانية ، حيثُ كانت البنت تُدفن وهي حية !..
ينقل مؤلف المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار
(سُئل عمر بن الخطاب عن أعجب ما مرَّ به في حياته .
فقال : هما حادثتان: كلمّا تذكرت الاَولى ضحكت ، وكلمّا تذكرت الاَُخرى بكيت..
قيل له : فما الاَُولى التي تُضحكك ؟
قال : كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة ، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم ، وصنعت من البلح الجديد صنماً غيره !
قيل له : وما الاَُخرى التي تبكيك ؟
قال : بينما كنت أحفر حفرة لوأد ابنتي ، كان الغبار يتناثر على لحيتي ، فكانت ابنتي هذه تنفض عن لحيتي هذا الغبار ، ومع ذلك فقد وأدتها) !!! المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار ، نبيه الداموري : 29 ، الشركة العالمية للكتاب ط 1987م) .
إزاء هذه الممارسات الهمجية ، الوحشية ، الخالية من الاِنسانية ، والتي كانت تُرتكب في عصر الجاهلية ، عمل الاِسلام على تشكيل رؤية جديدة لحياة الاِنسان ، رؤية تعتبر الحياة ليست حقا فحسب ، بل هي أمانة إلهية أودعها الله سبحانه وتعالى لدى البشر ، وكل اعتداء عليها بدون مبرِّر شرعي يُعد عدواناً وتجاوزاً يستحق الاِدانة والعقاب الاَخروي ، فليس من حق أية قوة غير إلـهية سلب هذه الوديعة المقدسة ، والله تعالى هو واهب الحياة ، وله وحده الحق في سلبها .
وأيضاً عمل الاِسلام على تشكيل وعي اجتماعي جديد بخصوص الاَُنثى، وقد كان الجاهليون لا تطيب نفوسهم بولادتها كما يقول القرآن الكريم : (وإذا بُشّر أحدُهُم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهُو كظيم * يتوارى من القوم من سُوء ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُون أم يَدسُهُ في التُّراب ألا ساءَ ما يحكمون )(النحل 58 ـ 59). ولقد اختار النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أفضل السُّبل لاِزالة هذا الشعور الجاهلي تجاه الاَنثى ، والذي كان يتسبب في زهق أرواح مئات الفتيات كل عام ، ففضلاً عن تحذيره من العواقب الاُخروية الجسيمة المترتبة على ذلك ، اعتبر من قتل نفساً بغير حق جريمة كبرى ينتظر صاحبها القصاص العادل .
ومن جانب آخر زرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وعيهم أن الرّزق بيد الله تعالى ، وهو يرزق الإناث كما يرزق الذكور ، فأشاع بذلك أجواء الطمأنينة على العيش ، وكان الجاهليون يقتلون الإناث خوف الفقر . أضف إلى ذلك استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغةً وجدانيةً شفافة ، فتجد في السُنّة القولية عبارات تعتبر البنت ريحانة ، والبنات هن المباركات ، المؤنسات ، الغاليات ، المشفقات.. وما شابه ذلك ، وكشاهد من السُنّة القولية وردّ (عن حمزة بن حمران يرفعه قال : أتى رجل وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأُخبر بمولود أصابه ، فتغيّر وجه الرّجل !! فقال له النبيّ : «ما لكَ» ؟ فقال : خير ، فقال : «قُل» . قال: خرجت والمرأة تمخض ، فأُخبرت أنّها ولدت جارية !! فقال له
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «الاَرض تقلّها ، والسَّماء تظلّها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمّها..» فروع الكافي 6 : 5 | 6 باب فضل البنات من كتاب العقيقة . (
وقد أكد الاِمام علي عليه السلام ، ذلك التوجه النبوي بقوله : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بُشّر بجارية ، قال : ريحانة ، ورزقها على الله عزّ وجلّ». البحار 104 : 98 .
ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُنموذجاً حياً يعدُّ قدوةً في السلوك مع ابنته فاطمة عليها السلام ، ينقل الحسني في سيرة الاَئمة عن بنت الشاطئ في حديثها عن بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لما ولدت فاطمة (استبشر أبواها بمولدها ، واحتفلا به احتفالاً لم تألفه مكة في مولد أنثى) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاَول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط1406 هـ).
ويظهر ذلك أيضاً من الاَسماء والالقاب العديدة التي منحها إياها صلى الله عليهما ، فقد نقل الحسني عن الاُستاذ توفيق أبي علم ، في كتابه أهل البيت : (إنّ للسيدة فاطمة الزهراء تسعة أسماء فاطمة ، والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدثة ، والزهراء ، والبتول ، وسيدة نساء أهل الجنة ، واضاف إلى ذلك (أبو علم) أنه كان يُطلق عليها : أم النبي ؛ لاَنّها كانت وحدها في بيته بعد موت أمّها ، تتولى رعايته والسهر عليه ) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاَول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط1406 هـ. (4)
وتنقل كتب السيرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يمنحها حبّه ، ويسبغ عليها عطفه بحيث أنه كان اذا سافر كانت آخر الناس عهداً به ، وإذا رجع من سفره كانت أولَ الناس عهداً به ، وكان إذا رجع من سفر أو غزاة ، أتى المسجد فصلى ركعتين ، ثم ثنّى بفاطمة . أُنظر سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : 68 .
صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استشف من وراء الغيب السر المكنون فيها.. وأن الذّرية الطاهرة من بضعته الزَّهراء عليها السلام ، وأنهم سوف يتابعون المسيرة التي بدأها ولن يفترقوا عن الكتاب حتى يردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحوض ، ولكن الصحيح أيضاً أنّ النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يرسم لنا صورة مشرقة في التعامل مع البنت ، ذلك النوع من التعامل الاجتماعي الذي غيبته الجاهلية . ولقد سار أئمة أهل البيت عليهم السلام على خطى جدّهم العظيم ، واقتفوا آثاره في تغيير النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من الاَُنثى لحساب الذكر ولا تقيم لها وزناً .
قال الحسن بن سعيد اللّخمي : ولد لرجل من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبدالله عليه السلام ، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبدالله عليه السلام : «أرأيت لو أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك ! : أن أَخْتَارُ لك ، أو تختار لنفسك ، ما كنت تقول» ؟ قال : كنت أقول : يا ربِّ تختار لي ، قال عليه السلام : «فإنّ الله قد اختار لك». فروع الكافي 6 : 10 | 10 باب فضل البنات .
بهذه الطريقة الحكيمة أزاح الاِمام الصادق عليه السلام رواسب الجاهلية المتبقية في نفوس الآخرين .
على ان الاَكثر إثارة في هذا الصَّدد أن بعضهم اتّهم زوجته بالخيانة ، لا لشيء إلاّ لكونها ولدت جارية ! وعندئذ دحض الاِمام الصادق عليه السلام هذا الرأي السقيم ، الذي لا يستقيم على سكة العقل ولا الشرع ، وكشف عن الرؤية القرآنية البعيدة .
عن ابراهيم الكرخي ، عن ثقة حدّثه من أصحابنا قال : تزوجت بالمدينة ، فقال لي أبو عبدالله عليه السلام : «كيف رأيت» ؟ قلت : ما رأى رجل من خيرٍ في امرأة إلاّ وقد رأيته فيها ، ولكن خانتني ! فقال : «وما هو» ؟ قلت : ولدت جارية ! قال : «لعلّك كرهتها ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً ) (النساء 4) . فروع الكافي 6 : 8 | 1 باب فضل البنات .
وعن الجارود بن المنذر قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام : «بلغني أنّه ولد لك ابنة فتسخطها ! وما عليك منها ؟ ريحانة تشمَّها ، وقد كُفيت رزقها..» فروع الكافي 6 : 9 | 9 باب فضل البنات
ولابدّ من التنويه على ان الاِمام الصادق عليه السلام قد قلب النظرة التمييزية التي تُقدِّم الذَّكر على الاَنثى ، رأساً على عقب ، وفق نظرة دينية أرحب ، وهي أن البنين نِعَمٌ ، والبنات حسنات ، والله تعالى يَسأل عن النِعَم ويثيب على الحسنات.. قال عليه السلام في هذا الصدد : «البنات حسنات، والبنون نِعمة، فانما يثاب على الحسنات ، ويُسأل عن النعمة» . فروع الكافي 6 : 9 | 8 باب فضل البنات .
وعلى ضوء ماتقدم نجد أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام مارست عملية (الاِخلاء والاِملاء) :
إخلاء العقول من غواشي ورواسب الجاهلية ، وانتهاكها الصارخ لحق المولود في الوجود .
واملاء العقول بافكار الاِسلام الحضارية، التي تبين للاِنسان مكانته في الكون ، وتصون حياته ، وتكفل حريته وكرامته ، وتراعي حقوقه منذ نعومة أظفاره ، وعلى الخصوص حقه في الوجود ، وعلى الاَخص حق البنات في الحياة .
وفي النهاية أقول ان مثل الوأد والقتل الإجهاض .
أبعدنا الله وإياكم عما يكره
والحمد لله رب العالمين
حتى في الحالات الاضطرارية كحصول المجاعة . وكانوا يقتلون أولادهم خوفاً من الفقر ، كما في قوله تعالى ): ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) (الانعام : 151) . وفي آية أُخرى : )ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم ) (الاِسراء 31 (
والملاحظ في الآية الاَولى ، إنّه تعالى قدّم رزق الآباء على رزق الاَبناء، وفي الآية الاخرى ، نجد العكس ، إذْ قدّم رزق الاَبناء على الآباء ، فما السرّ في ذلك ؟ وهل كان التعبير عفوياً ؟ بالطبع لا ؛ لاَن التعبير القرآني قاصد ودقيق ، لا يقدّم كلمة أو يُؤخر أُخرى إلاّ لغاية وحكمة .
وعند التأمل العميق نجد ان قوله تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم من املاق)(الانعام : 151) . توحي بأن الفقر موجود بالفعل ، والمجاعة قائمة ، ولمّا كان اهتمام الاِنسان في تلك الازمان يتمحور حول نفسه ، يخشى من هلاكها ، لذا يُطمئنه الخالق الحكيم في هذه الآية بانّه سوف يضمن رزقه أولاً ، ومن ثم رزق أولاده في المرتبة الثانية ، يقول له : ( نحن نرزقكم وإياهم ) أي يا أصحاب الاِملاق نحن نأتي برزقهم أيضاً .
بينما في الآية التالية ، يقول تعالى : ( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق (الاِسراء31) ، أي : خوفاً من فقر سوف يقع في المستقبل ، وبتعبير آخر : من فقر محتمل الوقوع ، وهنا يُطمئنه الرَّبّ تعالى بضمان رزق أبنائه أولاً ؛ لاَنّه يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم فيقول له مُطمئناً : (نحن نرزقهم وإياكم ) .
فالمعنى ـ في الآيتين ـ ليس واحداً ، وكلّ آية تخاطب الوالدين في ظرف معين ، ولكن تتحد الآيتان في الغاية وهي الحيلولة دون الاعتداء
على حياة الاَبناء . ثم إنّ الجاهلية كانت تمارس سياسة التمييز بين الجنسين بين الذكر والأنثى فتعتدي على حياة الاِناث بالوأد الذي كان يتمّ في صورة بشعة وقاسية ، ويفتقد إلى أدنى العواطف الاِنسانية ، حيثُ كانت البنت تُدفن وهي حية !..
ينقل مؤلف المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار
(سُئل عمر بن الخطاب عن أعجب ما مرَّ به في حياته .
فقال : هما حادثتان: كلمّا تذكرت الاَولى ضحكت ، وكلمّا تذكرت الاَُخرى بكيت..
قيل له : فما الاَُولى التي تُضحكك ؟
قال : كنت في الجاهلية أعبد صنماً من العجوة ، فإذا دار العام أكلت هذا الصنم ، وصنعت من البلح الجديد صنماً غيره !
قيل له : وما الاَُخرى التي تبكيك ؟
قال : بينما كنت أحفر حفرة لوأد ابنتي ، كان الغبار يتناثر على لحيتي ، فكانت ابنتي هذه تنفض عن لحيتي هذا الغبار ، ومع ذلك فقد وأدتها) !!! المختار من طرائف الاَمثال والاَخبار ، نبيه الداموري : 29 ، الشركة العالمية للكتاب ط 1987م) .
إزاء هذه الممارسات الهمجية ، الوحشية ، الخالية من الاِنسانية ، والتي كانت تُرتكب في عصر الجاهلية ، عمل الاِسلام على تشكيل رؤية جديدة لحياة الاِنسان ، رؤية تعتبر الحياة ليست حقا فحسب ، بل هي أمانة إلهية أودعها الله سبحانه وتعالى لدى البشر ، وكل اعتداء عليها بدون مبرِّر شرعي يُعد عدواناً وتجاوزاً يستحق الاِدانة والعقاب الاَخروي ، فليس من حق أية قوة غير إلـهية سلب هذه الوديعة المقدسة ، والله تعالى هو واهب الحياة ، وله وحده الحق في سلبها .
وأيضاً عمل الاِسلام على تشكيل وعي اجتماعي جديد بخصوص الاَُنثى، وقد كان الجاهليون لا تطيب نفوسهم بولادتها كما يقول القرآن الكريم : (وإذا بُشّر أحدُهُم بالاُنثى ظلَّ وجهُهُ مُسودّاً وهُو كظيم * يتوارى من القوم من سُوء ما بُشِّر به أيُمسِكُهُ على هُون أم يَدسُهُ في التُّراب ألا ساءَ ما يحكمون )(النحل 58 ـ 59). ولقد اختار النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أفضل السُّبل لاِزالة هذا الشعور الجاهلي تجاه الاَنثى ، والذي كان يتسبب في زهق أرواح مئات الفتيات كل عام ، ففضلاً عن تحذيره من العواقب الاُخروية الجسيمة المترتبة على ذلك ، اعتبر من قتل نفساً بغير حق جريمة كبرى ينتظر صاحبها القصاص العادل .
ومن جانب آخر زرع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وعيهم أن الرّزق بيد الله تعالى ، وهو يرزق الإناث كما يرزق الذكور ، فأشاع بذلك أجواء الطمأنينة على العيش ، وكان الجاهليون يقتلون الإناث خوف الفقر . أضف إلى ذلك استعمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم لغةً وجدانيةً شفافة ، فتجد في السُنّة القولية عبارات تعتبر البنت ريحانة ، والبنات هن المباركات ، المؤنسات ، الغاليات ، المشفقات.. وما شابه ذلك ، وكشاهد من السُنّة القولية وردّ (عن حمزة بن حمران يرفعه قال : أتى رجل وهو عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، فأُخبر بمولود أصابه ، فتغيّر وجه الرّجل !! فقال له النبيّ : «ما لكَ» ؟ فقال : خير ، فقال : «قُل» . قال: خرجت والمرأة تمخض ، فأُخبرت أنّها ولدت جارية !! فقال له
النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم : «الاَرض تقلّها ، والسَّماء تظلّها ، والله يرزقها وهي ريحانة تشمّها..» فروع الكافي 6 : 5 | 6 باب فضل البنات من كتاب العقيقة . (
وقد أكد الاِمام علي عليه السلام ، ذلك التوجه النبوي بقوله : «كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا بُشّر بجارية ، قال : ريحانة ، ورزقها على الله عزّ وجلّ». البحار 104 : 98 .
ولقد أعطى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أُنموذجاً حياً يعدُّ قدوةً في السلوك مع ابنته فاطمة عليها السلام ، ينقل الحسني في سيرة الاَئمة عن بنت الشاطئ في حديثها عن بنت النبي صلى الله عليه وآله وسلم : لما ولدت فاطمة (استبشر أبواها بمولدها ، واحتفلا به احتفالاً لم تألفه مكة في مولد أنثى) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاَول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط1406 هـ).
ويظهر ذلك أيضاً من الاَسماء والالقاب العديدة التي منحها إياها صلى الله عليهما ، فقد نقل الحسني عن الاُستاذ توفيق أبي علم ، في كتابه أهل البيت : (إنّ للسيدة فاطمة الزهراء تسعة أسماء فاطمة ، والصدّيقة ، والمباركة ، والطاهرة ، والزكية ، والمحدثة ، والزهراء ، والبتول ، وسيدة نساء أهل الجنة ، واضاف إلى ذلك (أبو علم) أنه كان يُطلق عليها : أم النبي ؛ لاَنّها كانت وحدها في بيته بعد موت أمّها ، تتولى رعايته والسهر عليه ) سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاَول : 65 ـ 67 ، دار التعارف للمطبوعات ط1406 هـ. (4)
وتنقل كتب السيرة أيضاً عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يمنحها حبّه ، ويسبغ عليها عطفه بحيث أنه كان اذا سافر كانت آخر الناس عهداً به ، وإذا رجع من سفره كانت أولَ الناس عهداً به ، وكان إذا رجع من سفر أو غزاة ، أتى المسجد فصلى ركعتين ، ثم ثنّى بفاطمة . أُنظر سيرة الاَئمة الاثني عشر ، هاشم معروف الحسني ـ القسم الاول : 68 .
صحيح أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد استشف من وراء الغيب السر المكنون فيها.. وأن الذّرية الطاهرة من بضعته الزَّهراء عليها السلام ، وأنهم سوف يتابعون المسيرة التي بدأها ولن يفترقوا عن الكتاب حتى يردوا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم الحوض ، ولكن الصحيح أيضاً أنّ النبي الاَكرم صلى الله عليه وآله وسلم أراد أن يرسم لنا صورة مشرقة في التعامل مع البنت ، ذلك النوع من التعامل الاجتماعي الذي غيبته الجاهلية . ولقد سار أئمة أهل البيت عليهم السلام على خطى جدّهم العظيم ، واقتفوا آثاره في تغيير النظرة التمييزية السائدة ، التي تحط من الاَُنثى لحساب الذكر ولا تقيم لها وزناً .
قال الحسن بن سعيد اللّخمي : ولد لرجل من أصحابنا جارية ، فدخل على أبي عبدالله عليه السلام ، فرآه متسخّطاً ، فقال له أبو عبدالله عليه السلام : «أرأيت لو أنّ الله تبارك وتعالى أوحى إليك ! : أن أَخْتَارُ لك ، أو تختار لنفسك ، ما كنت تقول» ؟ قال : كنت أقول : يا ربِّ تختار لي ، قال عليه السلام : «فإنّ الله قد اختار لك». فروع الكافي 6 : 10 | 10 باب فضل البنات .
بهذه الطريقة الحكيمة أزاح الاِمام الصادق عليه السلام رواسب الجاهلية المتبقية في نفوس الآخرين .
على ان الاَكثر إثارة في هذا الصَّدد أن بعضهم اتّهم زوجته بالخيانة ، لا لشيء إلاّ لكونها ولدت جارية ! وعندئذ دحض الاِمام الصادق عليه السلام هذا الرأي السقيم ، الذي لا يستقيم على سكة العقل ولا الشرع ، وكشف عن الرؤية القرآنية البعيدة .
عن ابراهيم الكرخي ، عن ثقة حدّثه من أصحابنا قال : تزوجت بالمدينة ، فقال لي أبو عبدالله عليه السلام : «كيف رأيت» ؟ قلت : ما رأى رجل من خيرٍ في امرأة إلاّ وقد رأيته فيها ، ولكن خانتني ! فقال : «وما هو» ؟ قلت : ولدت جارية ! قال : «لعلّك كرهتها ، إنّ الله عزّ وجلّ يقول : ( آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيُّهم أقرب لكم نفعاً ) (النساء 4) . فروع الكافي 6 : 8 | 1 باب فضل البنات .
وعن الجارود بن المنذر قال : قال لي أبو عبدالله عليه السلام : «بلغني أنّه ولد لك ابنة فتسخطها ! وما عليك منها ؟ ريحانة تشمَّها ، وقد كُفيت رزقها..» فروع الكافي 6 : 9 | 9 باب فضل البنات
ولابدّ من التنويه على ان الاِمام الصادق عليه السلام قد قلب النظرة التمييزية التي تُقدِّم الذَّكر على الاَنثى ، رأساً على عقب ، وفق نظرة دينية أرحب ، وهي أن البنين نِعَمٌ ، والبنات حسنات ، والله تعالى يَسأل عن النِعَم ويثيب على الحسنات.. قال عليه السلام في هذا الصدد : «البنات حسنات، والبنون نِعمة، فانما يثاب على الحسنات ، ويُسأل عن النعمة» . فروع الكافي 6 : 9 | 8 باب فضل البنات .
وعلى ضوء ماتقدم نجد أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام مارست عملية (الاِخلاء والاِملاء) :
إخلاء العقول من غواشي ورواسب الجاهلية ، وانتهاكها الصارخ لحق المولود في الوجود .
واملاء العقول بافكار الاِسلام الحضارية، التي تبين للاِنسان مكانته في الكون ، وتصون حياته ، وتكفل حريته وكرامته ، وتراعي حقوقه منذ نعومة أظفاره ، وعلى الخصوص حقه في الوجود ، وعلى الاَخص حق البنات في الحياة .
وفي النهاية أقول ان مثل الوأد والقتل الإجهاض .
أبعدنا الله وإياكم عما يكره
والحمد لله رب العالمين
تعليق