ظاهرةُ التطبير وجَدلُ الإباحةِ و التحريم
______________________________
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله المعصومين
وعجّلَ اللهُ تعالى فرجَ إمامنا المهدي في العالمين من قريب
لاريبَ في أنّ التطبير بوصفه سلوكاً وتعبيراً يُمارسه أتباع أهل البيت
المعصومين (عليهم السلام) في أيام عاشوراء قد تأصّل في فعله العُرفي
والإجتماعي تأصلاً مَكيناً .
مما يصعبُ رفعه بفتوى التحريم أو الإلغاء بقانون والتجربة أثبتْ ذلك
ويُخيّلُُ لي أنّ منشأ الإشكاليّة والجدل الدائر بين إباحة التطبير وتحريمه
هو إختلاف المباني الأصولية الإستدلالية عند المُجوزين والمانعين من المجتهدين الفعليين .
وهذا الإختلاف البُنيوي لم يكن جديدا بإستحداث التطبير سلوكاً وظاهرةً
بل كان قديماً من أول التأسيس لنظام الأصول والقواعد الفقهية عند مدرسة الإمامية .
فقد إختلف العلماءُ من ذي قبل في أنّ الأصل في الأشياء عقلاً
هل هو الإباحة ؟
أي حكم العقل بإباحة الافعال و الاشياء بغض النظر عن حكم الشارع
فالقول بأصالة الاباحة معناه حكم العقل بحلية الافعال وعدم استحقاق المكلف
للعقاب عند ارتكابها ما لم يمنع الشارع عن ارتكابها .
أو هو حكم العقل بإباحة كل فعل وقع الشكُ في حكمه الواقعي .
أم أصالة الحَظر(المنع) إلى أن يرد الدليل الشرعي القاطع ؟
وهو حكم العقل بلزوم الامتناع عن كل فعل وقع الشك في حكمه الواقعي .
فذهب بعضهم إلى أصالة الإباحة في الأشياء عقلا
وذهب آخر إلى أصالة الحظر ولم يحسم النزاع إلاّ الشرع الحكيم .
هذا فضلاً عن حاكميّة التعاطي مع الموضوعات والمُستحدثات بالحكم
الظاهري أو بالأصل العملي وهي قابلة للتخطئة .
والحُكم الظاهري هو الحُكم المجعول في ظرف الجهل بالحكم الواقعي بقطع
النظر عن أخذ الجهل والشك في الحكم الواقعي موضوعا في الحكم أو عدم أخذه في موضوعه.
و أننا في وقت الغيبة الكبرى قد إفتقدنا الأحكام الواقعية المُجعولة في علم
وتشريع الله تعالى لما لغيبة المعصوم الإمام المهدي (عليه السلام) من أثر في ذلك.
فبقينا ندور مدار الحكم الظاهري أو الأصل العملي في منطقة الفراغ التشريعي
علاجاً و حلاًّ للإشكاليات المعاصرة .
ومع هذا الدوران الإستدلالي إختلفتْ الفتوى وتباين الحكم .
ولا أظن أنّ أحداً يستيطع حسم النزاع إلاّ المعصوم (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)
كونه المُطّلع على الحكم الواقعي الإلهي تشريعياً والقادر على البت في المُختَلف عليه .
كما قال الله تعالى
(( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ )) (10)الشورى
(( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا )) (83)النساء
وكيف ما كان لم يقتصر الأمر على البت في نوع الحكم في موضوع التطبير
على جهة الإختلاف البُنيوي إستدلاليا
بل هناك إشكالية أخرى وهي إشكالية تطبيق المبنى الأصولي على موضوعه
ووقوع البعض في الإشتباه المصداقي والمفهومي دلالياً .
وعند متابعتنا البحثيّة لمباني المُجوزين لفعل التطبير وجدنا أنَّهم
قد تمسكوا بدلالة فعل المُتشرعة ( السلوك بمرأى ومسمع من المعصوم)
وقالوا بإطلاقها حتى تشمل موضوعة التطبير تطبيقاً
والحال الأصولي أنّ دلالة فعل المعصوم وفعل المتشرعة في وقته لا إطلاق فيها يقيناً
كونها دلالة شرعية غير لفظية يُتَمسكَ فيها بالقدر المُتيقن في وقت الفعل
حصرا ولا يمكن تعدية الدلالة الفعلية إلى غير ماهي عليه قطعا .
وأقصى ما عند القائلين بإباحة التطبير وجوازه
هو فعل السيدة زينب (عليها السلام) على ما نسبتْ الرواية مع غض النظر عن صحتها أو ضعفها سندا
من أنها نطحتْ رأسها الشريف بقتب (خشبة) المَحمل جزعاً على الإمام
الحسين (عليه السلام) حتى خرج الدم من رأسها
وأمام مرأى إمامها المعصوم (علي بن الحسين ) (عليه السلام)
وهذا الفعل من عند السيدة زينب (ع) يُسمى في علم الأصول بالدليل
المتشرعي أو دلالة الفعل ودلالته محدودة في قدره المُتيقن الذي أمضاه المعصوم سكوتاً أو تقريرا.
بمعنى لو ثبتَ ذلك الفعل وتم إمضاءه من قبل المعصوم فصحة الأخذ به شرعا
تنحصر في مقداره المُتقين والمُمارس فعلا وهو ضرب الرأس بالخشبة
أو بالمَحمل لا غير .
إذ التعديّة إلى غير ذلك من المصاديق تحتاج إلى دليل آخر غير دلالة الفعل هذا
من فعل آخر كتطبير الفرد رأسه أمام المعصوم أو يرد دليل لفظي ونصي على إباحة وجواز فعل التطبير .
في هذه الصورة ممكن التمسك بإباحة التطبير
وأما بخلاف ذلك فمن الصعب القول بالجواز من دون دليل شرعي .
ومما يزيد في الإشكالية تعقيداً هو ظهور فعل التطبير سلوكاً في عصر خارج النص و في غيبة المعصوم .
فلا أحد يستطيع أن يثبت الإباحة والجواز نصاً أو فعلاً في عصر النص و حضور المعصوم .
لذا إنحصرتْ أدلة القائلين بالجواز بفعل السيدة زينب (عليه السلام) المحدود
بحد النطح أو ضرب الخشبة لا أكثر ولا أقل دلالة .
وبأصالة الإباحة والتي تعارضها أصالة المنع والحظر .
وعلى أساس ذلك يبقى النزاع الإستدلالي قائما بقيام النظام البُنيوي الأصولي
إلى أن يظهر قائم آل محمد المهدي (عجّل اللهُ تعالى فرجه الشريف)
ليحسم الأمر بالرجوع والرد إلى منطقة الأحكام الواقعية المجعولة تشريعيا من لدن الله تعالى .
ويرتفع كلّ خلاف ويندفع الحكم الظاهري والأصل العملي وغيرها من الحلول المؤقتة .
أما أن نبقى ندور في فلك الجدل فهذا مالايغني ولايسمن من جوع
فقد دار قبلنا العلماء والباحثون في نزاعات بنائية أصولية وفقهية ورجالية
وعقدية وغيرها وبقي الحال على ما هو عليه
يجتره المُجترون ويكرره المُكررون دون فصل وعلاج
____________________________________
مرتضى علي الحلي / النجف الأشرف
تعليق