لم تحظَ ثورة في العالم ما حظيت به ثورة الإمام الحسين (ع) من البقاء والخلود، حيث إنّها تركت أثراً لم تستطع الأيام والسنون محوه كما لم يستطع طغاة العالم إخماد هذه الثورة بالرغم من محاولاتهم في سبيل إخمادها. إنّها ثورة ليست كأيّ ثورة، وإنما لها جانب غيبي تاريخي أبدي بدءاً من حيث أشرقت أنوار الوجود الحسيني، وستبقى هذه الثورة مشعلاً حتى ظهور الحجة (ع). فعندما ولد الحسين (ع) بكاه جده المصطفى (ص) وهو يذكر تفاصيل ثورته الأبدية، وهذا ما يؤكد عظمة هذه الثورة التي ولدت بمجرد ولادة مفجّرها. وبالطبع فإنّ ثورة كهذه لا بد أن يكون لها أهداف عظيمة تضاهي عظمتها، وتحكي سر شموخها، وتروي لحالك أيام الظلمة والجبابرة أسطورة العزة والكرامة والإباء. فالحسين رمز الإباء؛ لأنه بدمه الطاهر الزكي كتب أنشودة الجرح حين يسمو بألمه، كما روى قصة العشق الذي يخلد بعد عناء الكبرياء. إذن مثل هذه الثورة لا بد وأن يكون لها أهداف ودوافع تجعلها تخلد وتتفجر في أعماق الوجود لتصرخ بكرامتها، والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو ما هي هذه الدوافع التي دعت الإمام الحسين (ع) إلى الخروج والتضحية بكل غالٍ ونفيس لأجل إنجاح هذه الثورة وتفجيرها؟ نستطيع القول بأن الأسباب والدوافع التي دعت الإمام الحسين (ع) إلى الخروج والثورة تقسم على قسمين رئيسين؛ منهما تتفرع أسباب ودوافع أخرى. فإذا راجعنا تاريخ ثورة الإمام الحسين (ع) وطالعنا أسباب نهضته ودوافعها نجدها تتمثل بعدة أمور: 1- أسباب ظاهرية: وهي الدوافع التي يذكرها المؤرخون في كتب السير والمقاتل، حيث إنهم ذكروا أن الإمام الحسين (ع) انطلق بثورته بسبب حدوث بعض القضايا، منها: أ- البيعة ليزيد: وهو الدافع الأول لخروج الإمام الحسين (ع)، وهذه القضية تعدّ من القضايا الأساسية في الثورة الحسينية، فالإمام الحسين (ع) رفض أن يبايع طاغية كيزيد لا يمكن أن يمثل حقيقة الإسلام وجوهره، بل هو شارب للخمر معلن للفسوق بعيد عن الإسلام بكل معنى البعد. ويذكر المؤرخون عدة مواقف للإمام الحسين (ع) يجسد خلالها رفضه لمبايعة يزيد، سواء في حياة معاوية أو بعد مماته، وكما يروي ابن قتيبة في الإمامة والسياسة: (كتب معاوية إلى الحسين بن علي: أما بعد؛ فقد انتهت إليَّ فيك أمور لم أكن أظنك بها رغبة بك عنها، وإن أحق الناس بالوفاء لمن أعطى بيعة من كان مثلك في خطرك وشرفك ومنزلتك التي أنزلك الله بها، فلا تنازع إلى قطيعتك واتقِّ الله، ولا تردن هذه الأمة في فتنة، وانظر نفسك ودينك وأمة محمد، ولا يستخفنك الذين لا يوقنون)(1). هكذا يريد معاوية من الحسين (ع) أن يبايع ابنه الفاسق الفاجر، فكيف أجابه الحسين (ع)؟ لقد أجابه بجواب يحمل روح الحسين الشامخة التي لا تطئطئ لمثل معاوية ويزيد وإن سالت دماؤه، فقد أجابه بكتاب طويل ضمّنه جرائم معاوية من قتله للصالحين، وفسقه وفجوره، وبعده عن الإسلام، نقتطف منه قوله (ع): (وقلت فيما قلت: لا ترد هذه الأمة في فتنة، وإني لا أعلم لهم فتنة أعظم من إمارتك عليها، وقلت فيما قلت انظر لنفسك ولدينك، ولأمة محمد (ص) وإني والله ما أعرف أفضل من جهادك، فإن أفعل فإنه قربة إلى ربي، وإن لم أفعل فأستغفر الله لديني وأسأله التوفيق لما يحب ويرضى. وقلت فيما قلت: متى تكدني أكدك، فكدني يا معاوية فيما بدا لك، فلعمري لقديماً يكاد الصالحون، وإني لأرجو أن لا تضر إلا نفسك ولا تمحق إلا عملك، فكدني ما بدا لك واتقِّ الله يا معاوية، واعلم أن لله كتاباً لا يغادر صغيرة ولا كبير إلا أحصاها، واعلم أن الله ليس بناسٍ لك قتلك بالظنّة، وأخذك بالتهمة، وإمارتك صباً يشرب الشراب، ويلعب بالكلاب، ما أراك إلا وقد أوبقت نفسك، وأهلكت دينك، وأضعت الرعية والسلام)(2). فهذه الوثيقة التأريخية والرسالة الحسينية تعلن عن جانب من الأسباب التي دعت الحسين (ع) إلى الخروج على يزيد، فهذا الرفض بدأ من زمن معاوية، واستمرّ إلى ما بعد موته، فبعد أن ذهب إلى الجحيم وتولّى خلافة المسلمين ابنه يزيد الذي كان معروفاً بالفسق والفجور، استعجل يزيد بأخذ البيعة من المسلمين رغماً عليهم وخصوصاً من الشخصيات المهمة في المدينة المنورة، فرفض الإمام الحسين (ع) وبقوة مبايعة يزيد، وقال مخاطباً والي المدينة عندما دعاه إلى بيعة يزيد: (أيها الأمير، إنا أهل بيت النبوة ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة، ومهبط الوحي، بنا فتح الله، وبنا ختم، ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسوق، فمثلي لا يبايع مثله، ولكن نصبح وتصبحون، وننظر وتنظرون أينا أحق بالخلافة والبيعة)(3). فإصرار الحسين (ع) على عدم البيعة وتمسكه بموقفه الرافض ليزيد هو أحد الدوافع الظاهرية لنهضته الخالدة. ب- دعوة أهل الكوفة للحسين (ع): والدافع الظاهري الآخر للنهضة الحسينية هو مكاتبة أهل الكوفة ودعوتهم للحسين (ع) من أجل إنقاذهم من ذل يزيد وعبيد الله والأمويين كافة؛ فقد كاتبه أشرافهم بعد أن علموا نبأ خروجه من المدينة إلى مكة رافضاً بيعة يزيد، وكانت كتبهم قد اجتمعت عنده وتكاثرت حتى بلغت اثني عشر ألف كتاب كما تذكر المصادر(4)؛ فقد اجتمع الشيعة في منزل سليمان بن صرد وكتبوا للحسين (ع): (بسم الله الرحمن الرحيم، للحسين بن علي من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجبة، ورفاعة بن شداد، وحبيب بن مظاهر، وشيعته من المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة. سلام عليك؛ فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة، فابتزها أمرها، وغصبها فيئها، وتأمّر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى شرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعداً له كما بعدت ثمود. إنه ليس علينا إمام، فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق، والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة، ولا نخرج معه إلى عيد، ولو قد بلغنا أنك قد أقبلت إلينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام إن شاء الله، والسلام ورحمة الله عليك)(5). وقد كانت هذه الرسالة فاتحة الرسائل والكتب التي تلقاها الإمام الحسين (ع)، ولم تقتصر هذه الكتب على وجوه الشيعة، وإنما كتب له حتى الذين لم يعرفوا بولائهم لأهل البيت (ع)، وإنما كانوا من المحسوبين على الخط الآخر المعادي، ومن هؤلاء شبث بن ربعي، وحجار بن أبجر، ويزيد بن الحارث، وعزرة بن قيس، وعمرو بن الحجاج الزبيدي، ومحمد بن عمير التميمي، وقد كتبوا: (أما بعد، فقد اخضر الجناب، وأينعت الثمار، وطمت الحمام، فإذا شئت فاقدم على جند لك مجندة، والسلام عليك)(6). فأجابهم الحسين (ع) في رسالة جاء فيها: (... وقد بعثتُ إليكم أخي وابن عمي، وثقتي من أهل بيتي، وأمرته أن يكتب إليّ بحالكم وأمركم ورأيكم، فإن كتب إليَّ أنه قد أجمع رأي ملئكم وذوي الفضل والحجى منكم على مثل ما قدمت عليَّ به رسلكم، وقرأتُ في كتبكم أقدم عليكم وشيكاً إن شاء الله، فلعمري ما الإمام إلا العامل بالكتاب، والآخذ بالقسط، والدائن بالحق، والحابس نفسه على ذات الله، والسلام)(7). 2- الدوافع الباطنية والحقيقية للثورة الحسينية: يقول الإمام الحسين (ع) في مقولته الشهيرة: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح في أمة جدي (ص) أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن ردَّ عليَّ أصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم، وهو خير الحاكمين)(8). هذا النص الشريف يجسّد كل أهداف ودوافع الثورة الحسينية حين يلخصها بأمور، وهي: أ- إني لم أخرج أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً، ولا ظالماً، وإنما خرجتُ لطلب الإصلاح... هنا الإمام الحسين (ع) يريد أن يؤكد للأمة أن خروجه على طاغية عصره إنما كان لأجل الإصلاح؛ لأنه رأى أن الأمة الإسلامية يدبّ فيها الخدر والخمول، ويحكمها بنو أمية الذين يريدون أن يغيروا حقيقة الإسلام ويمحوا اسم نبيه (ص)، فهم ألدُّ أعداء الإسلام وأشدُّ الناس عليه حقداً، ولنبيه وآله حسداً وعداءً، وكما يصرح معاوية كما ينقل ابن أبي الحديد: (إن معاوية سمع المؤذن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فقالها ثلاثاً، فقال: أشهد أن محمداً رسول الله، فقال: لله أبوك يا بن عبد الله، لقد كنت عالي الهمة، ما رضيت لنفسك إلا أن يقرن اسمك باسم رب العالمين)(9). فهذا النص يكشف عن مقدار الحسد والحقد الذي يحمله معاوية لرسول الله (ص)، وهو خير دلالة على كفره وإلحاده، أما يزيد فقد كان مستهتراً ومستهيناً بكل قيم الإسلام وثوابته متظاهراً بذلك؛ ففي السنة الأولى من حكمه قتل آل الرسول (ص)، ومثّل بهم وسباهم، وفي السنة الثانية أرسل مسلم بن عقبة وأباح المدينة ثلاثة أيام، وكان من وصيته لمسلم بن عقبة: (فإذا ظهرت عليهم فأبحها ثلاثاً، فما فيها من مال أو دابة أو سلاح أو طعام فهو للجند)(10). إضافة إلى المجون والفجور الذي كان عليه يزيد، واستهانته بقيم الإسلام وشريعته، فقد كان يشرب الخمر ويلعب بالكلاب، وكما ورد في الحديث عن الإمام الحسين (ع): (ويزيد رجل فاسق، شارب خمر، قاتل نفس، معلن بالفسوق، فمثلي لا يبايع مثله...)(11). فقد واجه الحسين (ع) مثل هذا الواقع، فرأى الأمة ساكتة قانعة مستسلمة للظلم والفساد والانقياد الأعمى لطاغية فاجر مثل يزيد، فأراد بثورته أن يؤكد للأمة أن السكوت على هكذا واقع هو جريمة كبرى لا ينبغي السكوت عليها، فصرخ من أجل الحق، وقال: (إن مثلي لا يبايع مثله)، فلم يرضَ بالسكوت والخنوع، وإنما ثار من أجل إظهار وإبراز حقيقة هذا الخليفة الفاجر الظالم، وتحريك الأمة وإخراجها من قالب الصمت؛ لأجل إحقاق الحق وإزهاق الباطل المتمثل بيزيد. فأعلن ثورته ولم يبالِ بالموت، ولا بالقتل، ولا بالمصائب؛ لأن هدفه كان أبعد وأسمى من كل الدنيا، فقال بقوته العلوية وعزته الفاطمية وإبائه الحسيني: (لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً). لقد آثر الموت على الحياة في ظل الظلم، وتحت خيمة الظالمين؛ لأنه رأى السعادة في الثورة والتحدي وتغيير الواقع الفاسد وإخراج الأمة من واقعها المرير، وتحريك ضميرها الميت بدمه، وإصلاحها بثورته. ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الفرائض الإسلامية الهامة التي حثَّ عليها الإسلام، قال تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون)(12). وقال تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر)(13). فهذه الفريضة الإسلامية العظيمة كانت عاملاً كبيراً ودافعاً عظيماً للإمام الحسين (ع) في ثورته وخروجه؛ باعتبار أنها كانت شبه معطلة بالرغم من أهميتها وشدة تأكيد الإسلام وحرصه على إقامتها، فهي العامل الأهم في الثورة الحسينية، وقد أكّد الإمام الحسين (ع) على هذه الحقيقة في الكثير من بياناته، فقد صرّح أنه لم يخرج إلا من أجل إقامة هذه الشعيرة العظيمة؛ فقد قال لأخيه محمد بن الحنفية في وصيته: (أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر)، وقال أيضاً في خطبته: (أما بعد، فقد علمتم أن رسول الله (ص) قد قال في حياته: من رأى سلطاناً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ثم لم يغير بقول ولا فعل، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله)(14). يقول الشهيد مطهري: (وعلى هذا الأساس فإن قيمة قيام الإمام (ع) استناداً إلى هذا العامل تتضاعف كثيراً، ويأخذ الدرس الحسيني من هذا الحساب شكلاً آخر ووضعية مختلفة، والسبب الأساس والعامل الرئيسي الذي يعطي لهذه النهضة جدارتها وأهليتها لتبقى دائماً مشعة ومشرقة على جبهة التاريخ وخالدة أبداً ودرساً أزلياً وثورة لا نظير لها في العالم هو هذا السبب، إن هذا العامل يرفع كثيراً من أهمية وقيمة النهضة الحسينية)(15). الهوامش: (1) الإمامة والسياسة: 1/186 . (2) الإمامة والسياسة: 230-231 . (3) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: 1/184 . (4) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: 1/144 . (5) تاريخ الطبري: 5/352 . (6) المصدر السابق: 165 . (7) المصدر السابق: 166 . (8) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: 1/188 . (9) شرح نهج البلاغة: 10/101 . (10) تاريخ الطبري: 5/484. (11) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: 1/184 . (12) آل عمران: 104 . (13) التوبة. (14) مقتل الحسين (ع) للخوارزمي: 1/234 . (15) الملحمة الحسينية: 2/55 . |
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
دوافع الثورة الحسينية
تقليص
X
-
دوافع الثورة الحسينية
الكلمات الدلالية (Tags): لا يوجد
- اقتباس