هل فكرت بيوم التقاعد
حياة الإنسان مراحِل، وعُمرهُ منازِل، يحياها ويتنقَّلُ فيها، ويعيشُها، ويعملُ فيها، يتَّعِظُ من مُتغيِّراتها، ويعتبِرُ من تقلُّباتها؛ بل إن لكل مرحلةٍ من مراحِل عُمره أعمالاً تليقُ بها، إن لم يُحسِن الاستفادةَ منها مضَت في ضياع، وانقَضَت في إهمال.
ولهذا جاء في الحديث: «اغتنِم خمسًا قبل خمس: صحَّتَك قبل مرضِك، وشبابَك قبل هرمِك، وغِناكَ قبل فقرِك، وفراغَك قبل شُغلك، وحياتَك قبل موتِك».
وفي الحديث الآخر: «لن تزولَ قدمَا عبدٍ يوم القيامة حتى يُسألَ عن أربع: عن عُمره فيما أبلاه، وعن مالِه من أين اكتسَبَه وفيمَ أنفقَه، وعن شبابِه فيما أفناه، وعن علمِه ماذا عمِلَ به».
لقد أكرمك ربك ومولاك بأن أمدَّ في عمرك فأحسن العمل لتكون من خير الناس, فقد سأل رجلٌ رسولَ الله صلى الله عليه واله وسلم: من خير الناس؟ قال: (من طال عمره وحسن عمله) رواه أحمد والترمذي.‏قال احد الحكماء "إن الأوقات والساعات كرأس المال للتاجر فينبغي أن يتجر فيما يربح فيه، وكلما كان رأس ماله كثيراً كان الربح أكثر, فمن انتفع من عمره بأن حسن عمله فقد فاز وأفلح, ومن أضاع رأس ماله لم يربح وخسر خسراناً مبيناً"
. لئن ضعف بدنك فلقد قوي عقلك, ولئن رق عظمك فلقد زاد فهمك, ولئن لاح الشيب في رأسك فلقد ظهرت الحكمة في رأيك..فلا تظن أن التقاعد دعوة إلى القعود وركون إلى الخلود؛ بل هو توقف عن العمل الرسمي فقط وليس توقفاً عن العمل الرباني, والإنسان مكلف ما بقيت فيه عين تطرف وعقل و عـند كبرهم وضعف قواهم تجدهم لم يتوقفوا عن الاستزادة من أبواب البر حتى لو كانت شاقة عليهم.لما خرج الرسول صلى الله عليه واله وسلم إلى غزوة أحد بقي اليمان بن جابر وثابت بن وقش في المدينة، وكانا شيخين كبيرين لا يقويان على القتال, فقال أحدهما لصاحبه: لا أبا لك ! ماذا ننتظر؟ فوالله ما بقي لواحد منا من عمره إلا ظِمءُ حمار (أي وقت يسير), ألا نأخذ أسيافنا فنلحق برسول الله صلى الله عليه واله وسلم؟ فلحقا بالجيش وقُتلا هنالك.فإذا كانت هذه أحوال الصحابة عند كبرهم مع الجهاد وما فيه من المشقة والمخاطر فكيف بحال المتقاعد مع الطاعات التي هي أقل بكثير من مشقة الجهاد وأخطاره.


إن التقاعد بتغيراته ونقلته ومفاجآته قد يكون في ظاهره مؤلماً ومحزناً للبعض، ولكننا نذكر أنفسنا وإياهم بالمنح الكامنة في زوايا المحن، فرحمة الله لا تغيب، ولكننا نغفل عن إدراكها أحياناً، فكل حالنا عطاء ومنن من الله، حتى منعه لنا وأخذه بعضاً مما نحب في جوهره عطاء وكرم، فهو لم يمنعنا بخلاً، إنما منعنا لطفاً ورحمة، وهو أعلم بما يصلح شأننا من أنفسنا، والحمد لله رب العالمين.
-