يعد الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الملقب بـ (الطوسي) من أجلّ علماء الإمامية على مدى تاريخها الطويل والحافل بكبار العلماء والفقهاء، وتدلنا مؤلفاته على علمية واسعة وثقافة موسوعية شاملة، فلم يترك باباً من أبواب العلم إلا وطرقه وحاز فيه على قصب السبق، فقد ألّف الطوسي في التفسير والحديث والفقه والأصول والعقائد وعلم الكلام والتراجم والسير والعبادات والفقه المقارن والأدعية وغيرها وقد امتاز بسعة الأطلاع في كل باب ألف فيه فكان ذا أفق واسع وعقلية متفتحة على آفاق العلم المتباينة ومصادره المتنوعة.
ولد الشيخ الطوسي عام 385 هـ في مدينة طوس بخراسان التي اشتهرت بكونها مركزاً علمياً مرموقاً ففيها قبر الإمام علي بن موسى الرضا (ع) وقد تخرج فيها (من أئمة العلم والفقه ما لا يسعهم الحصر) كما يقول ياقوت الحموي (1) وقد ذكر الحموي منهم: (أبا حامد الغزالي وأخاه أبا الفتوح تميم بن محمد والوزير نظام الملك الحسن بن علي، ومن غريب الصدف أن اثنين من أبرز العلماء الذين أنجبتهم طوس، قد شاركا الطوسي في اسمه ولقبه وهما محمد بن الحسن الطوسي والد نصير الدين الفيلسوف المعروف بـ (الخواجة) والمتوفي سنة 672 هـ والمدفون بجوار الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ومحمد بن الحسن الطوسي الخراساني الفقيه صاحب كتاب (الفيروزجة الطوسية في شرح الدورة الغروية) في فروع الفقه.
نشأ الشيخ الطوسي في مسقط رأسه طوس ردحاً من شبابه وتلقى دروسه الأولى بها، ولم تذكر المصادر شيئاً عن دراسته المبكرة ونوعها خلا أن الذي لا شك فيه أنه درس أوليات العلوم النقلية والعقلية التي كانت دراستها لازمة لمن هو في مثل مرحلته وسنه، ولم يطل به المقام في طوس فقد كان توّاقاً لطلب العلم أينما حل فهاجر وهو في الثالثة والعشرين من عمره إلى بغداد التي كانت حاضرة العالم الإسلامي حيث مدراس العلم ومجالسه تموج بالعلماء والفقهاء والمتعلمين وتغصّ بالوافدين من كل حدب وصوب فوجد فيها ما يطمح إليه.
إلى بغداد
وصل الطوسي الى بغداد عام (408 هـ) وما إن استقر به المقام بها حتى بدأ ينهل من علوم مجالسها وكانت فاتحة تعلمه في عاصمة العلم آنذاك على يد الشيخ أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان الملقب بـ (المفيد) والمعروف بـ (ابن المعلم) فقيه الإمامية وأستاذهم ورئيسهم في ذلك الوقت والذي كان مجلسه في الفقه والكلام وغيرهما يحضره كثير من أهل العلم، كما كانت له مناظرات في علم الكلام مع أبي بكر الباقلاني والقاضي عبد الجبار المعتزلي حفظتها المصادر الإسلامية.
كان حضور شيخنا الطوسي لمجلس أستاذه المفيد ممهداً لتبحّره في العلوم وقد لازم الطوسي الشيخ المفيد خمس سنوات أي من عام (408 هـ) وهي السنة التي ورد فيها إلى بغداد حتى عام (413 هـ) وهي السنة التي توفي فيها الشيخ المفيد، ويصف الطوسي شيخه المفيد: (بأنه مقدم في العلم وصناعة الكلام)، وإنه (فقيه متقدم، حسن الخاطر، دقيق الفطنة، حاضر الجواب، له مؤلفات كثيرة) ثم يذكر بعضاَ من مؤلفاته (2).
ويتبيّن أثر دراسة الطوسي على يد المفيد وما تلقاه عنه من العلم فيما رواه عنه في كتابه (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار).
مع المرتضى
انتقل الطوسي إلى مجلس علي بن الحسين الموسوي المعروف بـ (الشريف المرتضى) الذي آلت إليه رئاسة الإمامية بعد وفاة الشيخ المفيد فكانت داره في الكرخ يؤمها الكثير من طلبة العلم وكان الطوسي من أبرز هؤلاء الطلبة، وقد لازم أستاذه المرتضى مدة طويلة بلغت ثلاثة وعشرين عاماً حيث لقي منه رعاية واهتماماً بالغين اذ جعل له داراً في الكرخ وأجرى له عطاءً شهرياً، وقد نهل في مجلس المرتضى علوماً مختلفة حيث كان مجلس المرتضى يحتوي على دراسات متنوعة في الفقه والأصول والتفسير والكلام والعقائد واللغة وغيرها وكان للسيد المرتضى في علم التفسير منهج مميز ودراسات خاصة تجلت في كتابه (الأمالي) ويشير الطوسي إلى فضل أستاذه المرتضى عليه في مؤلفاته، فقد أشاد بعلمه وتنوّع ثقافاته وأثره العلمي عليه فقال: (علم الهدى، الأجلّ المرتضى، رضي الله عنه، متوحّد في علوم كثيرة، مجمع على فضله، مقدم في العلوم مثل علم الكلام والفقه وأصول الفقه والأدب والنحو والشعر واللغة وغير ذلك) كما أشار إلى آرائه في التفسير في مواضع كثيرة في تفسيره (التبيان). (3)
وإضافة إلى هذين العَلَمين الكبيرين الذين درس الطوسي عندهما فقد أخذ العلم كذلك على يد علماء كبار آخرين منهم:
أبو عبد الله احمد بن عبد الواحد البزار المعروف بـ (ابن عبدون). و(ابن الحاشر) الذي وصفه الطوسي بأنه كثير السماع والرواية وبيّن أنه أجاز له بجميع ما رواه وقد روى عنه في كتابيه (الأمالي) و(الاستبصار).
ومنهم أبو عبد الله الحسين بن عبد الله الغضائري الذي ذكره في (الفهرست) و(الرجال) وروى عنه في (الأمالي) كثيراً من الأخبار وقد وصفه بأنه كثير السماع عارف بالرجال له تصانيف ثم قال (سمعنا منه وأجاز لنا بجميع رواياته).
ومنهم أيضاً: أبو الحسين علي بن أحمد بن أبي جيد القمي وقد ذكره الطوسي في مواضع عديدة من (الفهرست) مشيراً إلى أنه روى عنه مصنفات بعض الإمامية كما روى عنه في (الاستبصار) عدة اخبار.
وهناك شيوخ كثيرون أخذ عنهم الطوسي وذكرهم في كتبه وروى عنهم في أماليه منهم:
أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم القزويني
وأبو طالب بن عزور
وأبو القاسم علي بن شبل الوكيل وغيرهم.
ولسنا بصدد حصرهم فهم كثيرون وإنما نحن بصدد الإشارة فقط إلى ما يلقي الضوء على مصادر دراسته وثقافته الواسعة.
كرسي علم الكلام
فقد نهل الطوسي من معين العلم وجنى ثماره على يد أساطين العلماء وهذا ما جعله موسوعياً في تآليفه، كثير العناية بالموازنات في كتبه، مجدداً في أسلوبه الدراسي والعلمي تجديداً فاق من سبقه ومن لحقه، فقد بدأ بهذا الشيخ الرائد عصر العلم الجديد الذي أصبح الأصول فيه علماً له دقته وصناعته وذهنيته العلمية الخاصة، وتشعرنا مؤلفاته العلمية والفقهية بهذه الثقافة الواسعة فهي بحر زاخر يموج بمختلف العلوم فكانت ثقافته الواسعة في علم الكلام ــ وله فيه أكثر من مؤلَّف ــ هي التي حدت الخليفة القائم بأمر الله أن يمنحه منصباً علمياً ممتازاً هو كرسي علم الكلام وهو أرفع منصب في هذا العلم ولا يحظى به إلا من أوتي علماً جماً وملكة فائقة على المناظرة والحِجاج.
انتقلت الرئاسة العلمية والاستاذية المطلقة إلى الطوسي بعد وفاة السيد المرتضى (عام 436 هـ) وصارت الإمامية يرجعون إليه فكانت داره التي تقع في الكرخ يؤمها طلبة العلم من البلاد الإسلامية كافة، ومما ساعده على نشر علومه أن عصره اتّسم بحرية الفكر على الصعيد السياسي فلم يكن هناك حجر عقائدي على مدارس المسلمين المختلفة ومنهم الإمامية كما ساعده على ذلك وجود البويهيين في الحكم والذين كانت لهم ميول قوية ورغبة في تكريم وتشجيع العلماء والأدباء، وقد حظي الطوسي لذلك بكرسي الكلام الذي كان يعد للمناظرة وقد كان أهلاً لذلك باعتبار أن هذا المنصب الذي يلتقي فيه كل طلاب المسلمين من غير انحياز طائفي، بلا ريب يثمر ثمراته في رواياته فينطلق من القيد الطائفي إلى طلب العلم، ولن يكون مقيَّداً إلّا بقيد الثقة والاطمئنان.
مؤلفاته
شرع الطوسي في التأليف في سن مبكرة عملاً بمبدأ (صدقة العلم نشره) كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام) فألف في الموضوعات العلمية كافة حتى تجاوزت مؤلفاته (الخمسين) مؤلفاً ما بين كتاب ورسالة ذكر أكثرها في كتابه (الفهرست) ففي التفسير له ثلاثة آثار هي:
التبيان في تفسير القرآن: وهو من أهم كتب الطوسي وأشهرها وأكثرها تميّزاَ، ألفه بنمط جديد ومنهج مبتكر لم يسبقه إليه أحد إذ كان أول تفسير للإمامية يضمّ في أبواب متفرّدة مختلف مباحث التفسير وعلوم القرآن كالقراءات وحجتها والمعاني والإعراب واللغة والنظم وأسباب النزول وغيرها، وقد أشار إلى هذا التفسير الكثير من المؤلفين القدامى في تراجمهم كالسبكي والصفدي والعسقلاني والسيوطي وغيرهم ويقع هذا التفسير في عشرين مجلداً.
أما الأثران الآخران فهما:
المسائل الرجبية في تفسير القرآن، والمسائل الدمشقية في تفسير القرآن: وهما في تفسير آي من الذكر الحكيم.
أما في الحديث فلا أدل من كتابه (الاستبصار فيما اختلف من الأخبار) على علميته وتوسّعه في العلم فهذا الكتاب هو أحد المصادر الأصلية الأربعة لدى علماء الإمامية والمعوّل عليها ــ بعد كتاب الله ــ في استنباط الأحكام الشرعية منذ عصر الطوسي وحتى يومنا هذا ويحتوي على خمسة آلاف وخمسمائة حديث.
ومن مؤلفاته في الحديث أيضاً: تهذيب الأحكام. والمجالس في الاخبار: وهو المعروف بالأمالي لأنه أملاه مرتباً في عدة مجالس في النجف الأشرف على تلامذته.
أما في أصول الفقه فقد ألّف كتابه: العدة في أصول الفقه، الذي يعد لدى الإمامية من أحسن المصادر الأصلية في هذا الفن عند القدماء، أفاض فيه القول في تتبع مباني الفقه بما لا مزيد عليه في ذلك العصر.
كما ألّف الطوسي في التراجم والسير ثلاثة كتب هي (الرجال) واسم الكتاب يدل على مضمونه وهو من أقدم وأشهر كتب الرجال عند الإمامية ويتضمن الرجال الذين رووا عن النبي (ص) والأئمة الاثني عشر (ع) ومن تأخر عنهم ويسمى هذا الكتاب أيضاً بـ (الأبواب) لأنه مرتب على أبواب بعدد أصحاب النبي (ص) وأصحاب كل واحد من الأئمة الطاهرين (ع).
أما الكتاب الثاني فهو (اختيار الرجال) وهو تهذيب لكتاب (الرجال) للكشي أبي عمرو محمد بن عمر بن عبد العزيز، وقد أملى هذا الكتاب على طلابه في مشهد الإمام علي (ع) في النجف الاشرف.
أما الكتاب الثالث فهو (فهرست كتب الشيعة) وقد ذكر فيه من صنف من الإمامية وقد رتبهم على حروف المعجم ليسهل الرجوع إليهم، ويعد هذا الكتاب من آثاره الثمينة وقد اعتمد عليه الإمامية منذ عصره وحتى اليوم.
يقول عنه الأستاذ محمد أبو زهرة إنه (سد فراغاً في ذلك المذهب ما كان يمكن لغير الطوسي أن يسده).
وله أيضاً في الرجال كتاب (أخبار المختار).
و(مقتل الحسين عليه السلام).
أما في علم الكلام فله أربعة كتب هي: (رياض العقول) و(المسائل في الفرق بين النبي والإمام) و(الكافي في الكلام) و(مقدمة في علم الكلام)، وقد شرح هذه المقدمة قطب الدين الرواندي وعزيز الله الأردبيلي.
أما في الفقه فله (الايجاز في الفرائض) و (المبسوط في الفقه) وهو كتاب عظيم وأثر جليل يشتمل على ثمانين باباً في فروع الفقه كلها ولذلك وصف بأنه (لم يُصنَّف مثله) ويعد من أجلّ كتبه الفقهية.
وله كذلك (النهاية في مجرد الفقه والفتاوي)، وهو من (أعظم آثاره وأجلّ كتب الفقه ومتون الأخبار) كما يقول الشيخ آغا بزرك الطهراني حيث كان عليه مدار الدراسات الفقهية عند الإمامية منذ عصر مؤلفه.
ومن مؤلفات الطوسي في الفقه المقارن كتاب مهم هو: (مسائل الخلاف مع الكل في الفقه) وقد ذكر فيه مسائل الخلاف في الفقه بين الإمامية وغيرهم من المذاهب الإسلامية.
أما في العبادات فللطوسي فيها كتابان هما: (الاقتصاد فيما يجب على العباد)، وقد بين فيه العبادات الشرعية. و(الجمل والعقود في العبادات).
كما ألف في العقائد خمسة كتب هي (أصول العقائد) و(تلخيص الشافي في الإمامة) و (شرح ما يتعلق بالاصول من جمل العلم والعمل) و(الغيبة) و (المفصح في الإمامة).
أما في الأدعية فيعد الطوسي من أقدم المؤلفين في هذا الموضوع من الإمامية وغيرهم وقد اعتمد عليه كثير ممن جاؤوا بعده يقتبسون من مؤلفاته أو يختصرونها أو يجعلون لها ذيولاً وتتمات ونحو ذلك مما يدل على اتصالهم العلمي بها واعتمادهم عليها والكتب التي ألفها الطوسي في هذا المجال إثنان هما:
(مختصر المصباح في عمل السنة) و (مصباح المتهجد في عمل السنة).
واضافة الى هذه المؤلفات فللطوسي عدة رسائل في الموضوعات التي ذكرناها آنفاً وقد اكتفينا بالإشارة إلى كتبه الهامة كما أن هناك مؤلفات لم تنلها يد الفهرسة والطباعة مطمورة في زوايا النسيان.
تلاميذه
كان الطوسي علماً يُهتدى به، وقد اقتبس من أنواره وعلومه الكثير من طلبة العلم حتى قيل أن تلامذته ثلاثمائة تصدّر منهم أكثر من ثلاثين شيخاً التدريس والفتيا والتأليف وأشهر تلاميذ الطوسي ابنه أبو علي الحسن بن محمد الطوسي، الذي خلّف أباه بعد وفاته في الافتاء والتدريس حيث آلت إليه الرياسة العلمية.
ومن تلاميذه المعروفين بالتأليف: أبو بكر احمد بن الحسين النيسابوري، وأبو الخير بركة بن محمد بن بركة الأسدي، وأبو الصلاح الحلبي وكيل الطوسي في بلاد الشام، وأبو عبد الله محمد بن هبة الله الورّاق الطرابلسي، والحسن بن الحسين بن بابويه بن المظفر الحمداني، وناصر بن الرضا بن محمد العلوي الحسيني.
ولهؤلاء التلاميذ الذين ذكرناهم آثار متنوعة عديدة ومؤلفات قيمة في مختلف العلوم دلّت على أثر الطوسي العلمي فيهم وفضله عليهم وعلى الأجيال التي تلتهم فكلهم أخذ عن الشيخ الطوسي وكتبه لذلك أطلقوا عليه لقب (شيخ الطائفة) و(الشيخ) بحيث صار علماً له بالإجماع فاذا أطلق أي منهما لم ينصرف إلى غيره.
توفي الطوسي (رحمه الله) عام 460 هـ عن عمر يناهز الخامسة والسبعين حفلت بالعلم والدراسة والتأليف، وقد دفن في داره التي صارت بعد ذلك مسجداً سُمِّي بـ (مسجد الطوسي) وهو قريب من مرقد الإمام علي (عليه السلام) وسُمِّيَ الباب الذي يؤدي إليه من جهة المرقد بـ (باب الطوسي) وهو معروف وبمرور الزمن غدا مسجد الطوسي مدرسة من مدارس العلم تعقد فيه الحلقات العلمية لكبار علماء الإمامية على مدى العصور.
محمد طاهر الصفار
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
.................................................. ..........................
1 ــ معجم البلدان ج 4 ص 49 ــ 50
2 ــ الفهرست ص 186 ــ 187
3 ــ الفهرست ص 125 ــ 126
4 ــ الإمام الصادق ص 458