الجهة الأُولى: الظالميّة والمظلوميّة معناهما وأسبابهما
لا شكّ في أنَّ دراسة معانى الكلمات ـ وما يتّصل بها من المفاهيم بصورةٍ صحيحةٍ ـ يُعطي القارئ تصوّراً واضحاً لها، وإعطاء الصورة الواضحة منذُ البدء يُساعد على الإلمام السريع بمقصود المتكلَّم. من هنا؛ نجد من الضروري تكريس هذه الجهة، لتسليط الضوء على مفهومي الظالميّة والمظلوميّة، وما يرتبط بهما من مفاهيم، مع التأكيد على بعض أسباب صناعة هذين المفهومين.
أوّلاً: معنى الظالميّة والمظلوميّة
الظالمية: هي الظُّلْم بضم حرف الظاء، وسكون اللام، اسم مصدر، والمصدر ظَلْمبفتح وسكون، وهو من المصادر المشتقة، وفعله متعدٍّ، فيقال: ظلمه.
ومعنى الظلم في اللغة: «وضع الشيء في غير موضعه، أَلا تراهم يقولون: مَن أشبه أباه فما ظلم. أي: ما وضع الشبه غير موضعه»[1]. والظلم: «الشرك، قال الله عزّ وجلّ: ﴿إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم﴾[2]»[3]. والظُلامة: «ما تطلبه مظلمتك عند الظالم»[4].
وكلمة الظالم: صيغة لاسم الفاعل، تدلّ على الشخص الذي صدر منه الظلم، فإذا لحقتها ياء النسب والتاء، أفادت معنى المصدر؛ أي: مُطلق الحدث من دون انتساب إلى الفاعل أو المفعول. وهذا النوع من المصدر يُسمّى بالمصدر الصناعي، واستعماله قليل في اللغة العربية القديمة، كما في كلمة جاهلية[5].
ومحاربة الظالم ضدَّ السِّلم والاستسلام إليه، وهي على قسمين: الأوّل محاربة الظالم باللسان. الثاني: محاربة الظالم باليد والسلاح.
والمظلوميّة أيضاً: هي مصدر صناعي، يدلّ على مُطلق الحدث الذي هو الظلم.
والمظلوم: صيغة لاسم المفعول، وهو الشخص الذي وقعت عليه عملية الظلم.
والتظلّم: هو أن يشتكي ظلمه ممّن ظلمه[6].
ومن المفاهيم ذات الصلة بمفهوم الظلم والمظلوميّة، مفهوم النُصرة ومشتقاتها، والنُصرة: «حسن المعونة»[7]، والاستنصار: استمداد النصر وطلب النُصرة[8]، قال الله تعالى: ﴿فَإِذَا الَّذِي اسْتَنصَرَهُ بِالأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ﴾[9]. والنصير: عون المظلوم. والأنصار: جماعة الناصر. وأنصار النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أعوانه. وانتصر الرجل: انتقم من ظالمه.
والنُّصرة على قسمين:
الأوّل: النُّصرة باللسان: وهي أن يُنصر المظلوم بإظهار أحقيّته على الظالم؛ ولذا لمّا مدح حسّان بن ثابت أمير المؤمنين عليه السلام يوم الغدير، قال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم : «لا تزال ـ يا حسّان ـ مؤيَّداً بروح القُدس ما نصرتنا بلسانك»[10].
الثاني: النُّصرة باليد والسلاح، وهي أن يُدافع عن المظلوم بيده وسلاحه.
ويقابل النُّصرة الخذلان، والخَذْل: هو ترك الإِعانة والنُّصرة، وتَخَاذَل القومُ: تَدَابَروا[11]. والخذلان أيضاً على قسمين: الأوّل: الخذلان القولي، أي: ترك النُّصرة باللسان. والثاني: الخذلان العملي، أي: ترك النُّصرة بالسلاح.
والظالم والمظلوم عموماً من المفاهيم الواسعة، والتي لها مراتب مختلفة، وحينما نُعبِّر بالظالم والمظلوم في هذا المقال، لا نقصد بذلك بما للمفهوم من السعة والشمول لجميع المراتب، بل نقصد بالظالم: الظالم المسلم، أو مَن يدَّعي الإسلام، الذي يُمارس عملية القتل وإراقة الدماء، وسلب حقوق المسلمين، ونهب أموالهم، والاعتداء على أعراضهم، سواء كان حاكماً أم لم يكن كذلك، وعليه؛ فمن أوضح مصاديقه المحاربون، وسلاطين الجور، الغاصبون للخلافة والحكومة الإلهيّة[12]. ونقصد بالمظلوم هو ذلك الإنسان الذي قد مارس الحاكم الظالم بحقه تلك الأُمور المتقدّمة.
ثانياً: أسباب صناعة الظالم والمظلوم
إنّ أيَّ ظاهرةٍ من الظواهر تتدخّل في تكوينها وإيجادها أسباب عدّة، ووجود ظالم ومظلوم كبقية الظواهر، لا تخرج عن هذا القانون، فهناك أسباب وعوامل مختلفة لها تأثير مباشر في ذلك، وكلامنا حول هذه الأسباب من ناحية فقهيّة، بمعنى أنّ الشارع قد جعل أحكاماً؛ الغاية منها القضاء على أسباب الظلم ومناشئه، فتكون مخالفة تلك الأحكام أو تركها سبباً واضحاً لتحقق الظالميّة وانتشار المظلوميّة. وهذه الأسباب والعوامل كالآتي:
1ـ نقض العهد
كلمة العهد من الكلمات القرآنيّة، والمراد بالعهد: هو العهد المأخوذ من الناس على الإيمان بالله تعالى، والإيمان برسوله صلى الله عليه وآله وسلم ، والولاية لعلي عليه السلام . جاء عن الإمام الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾[13]، قال: «المأخوذ عليهم لله بالربوبيّة، ولمحمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالنبوة، ولعلي بالإمامة، ولشيعتهما بالمحبّة والكرامة»[14]. فإذا نقض الناس هذا العهد ـ ولم يعملوا به ـ فسوف يتسلّط عليهم الظالم، ويؤكّد هذا المعنى بعض الروايات، كما عن أبي جعفر عليه السلام إذ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :«...وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ الله وعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ الله عَلَيْهِمْ عَدُوَّهُمْ...»[15]. والحديث طويل أخذنا منه موضع الحاجة.
وهذه الحقيقة هي أحد الأسباب التي خلقت يزيد الظالم؛ حيث إنّ من جملة وصايا رسول الله لهذه الأُمّة، أنّه قال: «الخلافة مُحرّمة على آل أبي سفيان... فإذا وجدتم معاوية على منبري فابقروا بطنه»[16].ولكن لم تعمل هذه الأُمّة بهذه الوصيّة، ورأوا معاوية على منبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، ولم يعترضوا عليه بقولٍ ولا فعلٍ، فضيّعوا بذلك وصيّة رسول الله وعهده؛ فسلَّط الله عليهم يزيد الفاجر الفاسق، وقد أشار إلى هذه القضية الإمام الحسين عليه السلام ، حينما خاطب مروان بن الحكم[17].
2ـ ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
من أهمّ الوسائل التي تُمهِّد الأرضيّة لتسلّط الظالم على الناس هي ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنّ من طبع الإنسان إذا تعدى تعدّياً بسيطاً، ولم يواجه نهياً صريحاً عن هذا التعدّي، ولم يتّضح له مدى شناعة فعله؛ عند ذلك سيستسيغ ذلك التعدّي ويستصغره، باعتبار أنَّ الناس لم تستنكر عليه فعله، وإذا استساغ ذلك، تعدّى تعدياً أعظم منه، حتى يتسلّط على الناس، وبذلك يشيع الظلم بينهم، بخلاف ما لو استنكر الناس عليه ذلك، ونهوه عن فعله؛ فسيكون هذا الاستنكار منهم رادعاً ومانعاً عن تكرار ذلك الفعل منه، وبذلك سينتهي عن التعدّي على الآخرين، وقد ورد هذا المعنى في بعض الروايات، منها: عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ عَرَفَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا الْحَسَنِ عليه السلام يَقُولُ: « لَتَأْمُرُنَّ بِالْمعْرُوفِ، وَلَتَنْهُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أَوْ لَيُسْتَعْمَلَنَّ عَلَيْكُمْ شِرَارُكُمْ، فَيَدْعُوا خِيَارُكُمْ، فَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ»[18]
إذاً؛ فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الوظائف التي إنْ تركها الناس تسلّط الظالم عليهم، فترك هذه الوظيفة العظيمة يُمهِّد السبيل، ويُوجد الأرضيّة المناسبة لصناعة الظالم، فيكون وجود ظالم ومظلوم من النتائج الطبيعيّة لترك هذه الوظيفة، والرواية تؤكّد على هذه النتيجة الطبيعيّة والمنطقيّة.
وهذا الأمر هو الآخر كان عاملاً مهمّاً في إيجاد الظالميّة والمظلوميّة في كربلاء؛ حيث ابتُليت الأُمّة في ذلك الوقت باللامبالاة في الدين، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويُشير إلى هذه الحقيقة قول الإمام الحسين عليه السلام : «ألا ترون أنّ الحقّ لا يُعمل به، وأنّ الباطل لا يُتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء الله محقّاً؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة، ولا الحياة مع الظالمين إلّا برماً»[19].
3ـ ترك إقامة حدّ القصاص
لو حصل العلم اليقيني للإنسان بأنّ عاقبة القتل هي القتل، وعاقبة السرقة قطع اليد، فسوف لن يقدم على القتل، والسرقة بكلّ تأكيد؛ لأنّه يعلم أنّ في ذلك هلاكه، كما أنّه لو أمِنَ الناس من القصاص، لقتل بعضهم بعضاً، وتفشّت جرائم القتل والظلم فيهم؛ لذا يُعدُّ تقنين القصاص من الأسباب التي تبثُّ الأمن والحياة للبشرية، فترك هذا القانون يستلزم الخوف والرعب، وتفشّي القتل والجرائم في المجتمع الإنساني، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة، في قوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي الأَلْبَابِ﴾[20]. فترك القصاص يساوي الحكم بالإعدام على الجميع، وتسليط الظالمين على الناس؛ وعليه فهو أحد الوسائل الممهّدة لإيجاد الظالمين، وتحكّمهم في البلاد، وقد ورد في الرواية عَنْ أَبِي عَبْدِ الله عليه السلام ، قالَ: قالَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ عليه السلام : «مَنْ خَافَ الْقِصَاصَ، كَفَّ عَنْ ظُلْمِ النَّاسِ»[21].
ولم يتجّرأ معاوية ويزيد على قتل خيار الصحابة وكبارهم إلّا لكونهما قد آمنا القصاص، فراحا يسفكان الدماء، ويعتدَيان على الأعراض من دون أن يخضعا إلى المحكمة العادلة، ولو قُدِّر للمحكمة العادلة إجراء حدّ القصاص على هؤلاء، لمَا تمكّن أحد من سفك الدماء، وقتل الأخيار، إذاً؛ ترك إجراء الحدود ـ وتنفيذ القصاص في ذلك الزمن ـ كان له أثر كبير وخطير في اتساع بقعة الظلم، وإيجاد المظلوميّة في كربلاء.
تعليق