مما لاشك فيه عندما يتأزم الوضع السياسي ، وتتدهور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية، يكون المناخ العام مهيَّأ لاستقبال موجات الانحرافات والسلوك المنحرف مما يتنافى مع العقيدة الاسلامية، ويتقاطع مع الفكر السليم البنّاء، حينذاك نكثر الدعوات الضالة، وتجتمع الفرق المنحرفة بين حين وآخر.
ويبدو ان موجات التضليل قد اتخذت شتى الاساليب والطرق لبثّ سمومها في جسم الامة، الامر الذي دفع الامام الحسن العسكري (عليه السلام) الى توجيه ضربة قوية لتلك الموجات، اي ان وجوده (عليه السلام) ساعده على دفع الخطر الوافد ومجابهة الانحراف المنظم، فهيّأ الأذهان عملياً لرفض كل محاولات التخريب الفكري. من خلال الاشارة بإيجاز مكثف الى ابرز الظواهر التي استطاع الامام التعامل معها بجدية و موضوعية:
- فرقة الثنوية:
كان نتيجة التلاقح الثقافي بين المسلمين وبقية الامم ان علقت بعض الاوشاب في الذهنية السطحية لدى بعض المسلمين، متأثرة بالمجوسية حيناً والزرادشتية حيناً آخر، فنتج عن ذلك ميلاد فرقة سميت بالثنوية، وهي التي تحاول ان تثبت مع القديم قديماً غيره، ومع الإله آلهة تقابله، وهذا هو الاشراك، يمكن القول ان هذه الفرقة اعتقدت مبدأ قائما بين ألهين: اله النور واله الظلمة، فاله النور يمثل مبدأ الخير، واله الظلمة يمثل مبدا الشر، وهذا من بقايا المجوسية وعبدة النيران في معتقدات فاسدة. فقد كان الامام العسكري(عليه السلام) بثباته المتزن وحسن تأتيه للأمور جادا في تفنيد ذلك بشدة متناهية، فهو يحذر مواليه من الانخراط في سلك هذه العمليات الجديدة، فما بعد الهوى الا الضلال ، وما بعد التوحيد الا الشرك .
- فرقة الواقفة :
فرقة من المتصوفة المبطلة، وهم الذين وقفوا على الإمام السابع موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) ، فلم يقولوا بإمامة من بعده، حيث زعموا أن الامام الكاظم (عليه السلام) لم يمت وأنه حي، وأنهم ينتظرون خروجه حيث أنه دخل في غيبة. وكان المؤسس لهذه الفرقة زياد بن مروان القندي، وعلي بن حمزة، وعثمان بن عيسى[1].
يبين الشيخ القمي ان السبب كان بتوقفهم هو:" مضى ابو ابراهيم وعند زياد القندي سبعون الف دينار، وعند عثمان بن عيسى ثلاثون الف دينار وخمس جواري ومسكنه بمصر، فبعث اليهم الامام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) ان احملوا ما قبلكم من المال، وما كان اجتمع لابي عندكم، فإنني وارثه وقائم مقامه، وقد اقتسمنا ميراثه ولا عذر لكم في حبس ما قد اجتمع لي ولوارثه قبلكم"[2]، في حين ان علي بن حمزه فقد أنكر ولم يعترف بما عنده من المال وكذلك زياد القندي، وأما عثمان بن عيسى فانه كتب الى الامام الرضا (عليه السلام) قائلا:" أن اباك صلوات الله عليه لم يمت وهو حي قائم، ومن ذكر انه مات فهو مبطل، واعمل على انه مضى كما تقول، فلم يأمرني بدفع شئ اليك، واما الجواري، فقد اعتقتهن وتزوجت بهن"[3].
وكان للأمام الحسن العسكري (عليه السلام) موقفاً حازماً اتجاههم اذ اكد لاحد اصحابه ممن وقف على موسى بن جعفر (عليهم السلام) قائلا: أتولاهم ام أتبرا منهم؟ فكتب الامام (عليه السلام):" ... انا الى الله منهم بري فلا تتولاهم، ولا تعد مرضاهم، ولا تشهد جنائزهم، ولا تصل على احد منهم مات ابدا سواء من جحد أماما من الله او زاد اماما ليست امامته من الله او جحد او قال : قالت ثلاثة، ان جاحد امر اخرنا جاحد امر اوّلنا والزائد فينا كالناقص الجاحد امرنا"[4] .
- الشبهات لدى السواد الاعظم:
تبين المصادر التاريخية، شهدت سامراء قحطاً شديداً ايام الامام الحسن العسكري (عليه السلام)، فخرج الناس للاستسقاء ثلاثة ايام فلم يمطروا، وخرج في اليوم الرابع الجاثليق مع النصارى فسقوا!! وخرج المسلمون في اليوم الخامس فلم يمطروا!! فشلت الناس في دينهم، وبدأت الفتنة تدب، استدعى المتوكل العباسي الامام الحسن العسكري ، وقال :" أدرك دين جدك يا أبا محمد!!" .
فلما خرجت النصارى ورفع الراهب يده الى السماء ، قال الامام (عليه السلام) لبعض غلمانه:" خذ من يده اليمنى ما فيها!!" فلما أخذه كان عظماً به سواد، ثم قال للراهب :" استسقِ الآن" ، فاستسقى فلم يمطروا وصحت السماء، وسئل الامام (عليه السلام) عن العظم فقال: "لعله اخذه من قبر نبيّ، ولا يكشف عظم نبي الا مطرت السماء"[5].
كان لهذا الموقف اثره في اقتلاع الشبهات لدى ضعفاء المسلمين، وكان للحادثة اولا اثرها السلبي في نفوس القوم، فاستنجد السلطان العباسي بالإمام الحسن العسكري(عليه السلام) لعلمه ان لا احد يدفع هذه المشكلات الآنية الا من جرّد من نفسه قيادياً متفرغاً للدفاع عن الاسلام، وقد كان ذلك هو الامام بإرادة تكوينية .
- فرقة المفوضة:
يعود تأسيس هذه الفرقة الى القرن الهجري الاول فهم جماعة قالت ان الله خلق محمداً وفوض اليه خلق الدنيا فهو الخلاق لما فيها، وقيل فوض ذلك الى الامام علي والائمة (عليهم السلام) من بعده[6] .وقد تصدى الامام الحسن العسكري (عليه السلام) لفكر هؤلاء وغلوهم فأجاب بعض شيعته عن ذلك وحدد مكانه أهل البيت (عليهم السلام) في وضعها الصحيح فقال:﴿ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾ [7] .
وان قوماً من المفوضة قد وجهوا كامل بن ابراهيم المدني الى الامام ابي محمد (عليه السلام) قال كامل : قلت في نفسي أساله لا يدخل الجنة الا من عرف معرفتي؟ وكنت جلست الى باب عليه ستر مرخى، فجاءت الريح فكشفت طرفه فاذا انا بفتى كانه فلقة قمر من ابناء اربع سنين او مثلها فقال لي : يا كامل بن ابراهيم ، فاقشعررت من ذلك والهمت ان قلت لبيك يا سيدي، فقال جئت الى والى الله تساله" لا يدخل الجنة الا من عرف معرفتك وقال بمقالتك؟" قلت اي والله قال اذن والله يقل داخلها والله انه ليدخلها قوم يقال لهم الحقيقة قلت ومن هم ، قال : قوم من حبهم لعلي بن ابي طالب (عليه السلام) يحلفون بحقه وما يريدون ما حقه وفضله.
ثم قال (عليه السلام): جئت تسال عن مقالة المفوضة؟ كذبوا، بل قلوبنا اوعية لمشيئة الله فاذا شاء الله شئنا، والله يقول﴿ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾[8]، فقال لي ابو محمد(عليه السلام) : مما جلوسك وقد أنباك بحاجتك الحجة من بعدي فقمت وخرجت ولم اعاينه بعد ذلك[9] .
- تصديه لمظاهر الغلو :
وقد تصدى الامام الحسن العسكري( عليه السلام) لبعض مظاهر الغلو باهل البيت (عليهم السلام) فارسل الى بعض مواليه رسالة حادة حملت تهديد الامام (عليه السلام) لهم فقال :" فقد بلغني ما أنتم عليه من اختلاف قلوبكم ، وتشتيت أهوائكم ، ونزغ الشيطان ، حتى أحدث لكم الفرقة والإلحاد في الدين ، والسعي في هدم ما مضى عليه أوائلكم من إشادة دين الله ، وإثبات حق أوليائه ، وأمالكم إلى سبيل الضلالة ، وصد بكم عن قصد الحق ، فرجع أكثركم القهقرى على أعقابكم ، تنكصون كأنكم لم تقرؤا كتاب الله جل وعز ولم تعوا شيئاً من أمره ونهيه ولعمري لئن كان الأمر في اتكال سفهائكم على أساطيركم لأنفسهم وتأليفهم روايات الزور بينهم لقد حقت كلمة العذاب عليهم ولئن رضيتم بذلك منهم ولم تنكروه بأيديكم وألسنتكم وقلوبكم ونياتكم ، إنكم شركاء وهم ، في ما اجترحوه من الافتراء على الله تعالى وعلى رسوله وعلى ولاة الأمر من بعده ولئن كان الأمر كذلك لما كذب أهل التزيد في دعواهم ، ولا المغيريّة في اختلافهم ولا الكيسانية في صاحبهم ولا من سواهم من المنتحلين ودّنا والمنحرفين عنا، بل أنتم شر منهم قليلاً، وما شيء يمنعني من وسم الباطل فيكم بدعوة تكونوا شامتاً لأهل الحق إلاّ انتظار فيئهم، وسيفيء أكثرهم الى أمر الله إلاّ طائفة لو لسميتها ونسبتها استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، ومن نسي ذكر الله تبرأ منه فسيصليه جهنم وساءت مصيراً وكتابي هذا حجة عليهم ، وحجة لغائبكم على شاهدكم إلاّ من بلغه فأدّى الأمانة ، وأنا أسأل الله أن يجمع قلوبكم على الهدى ، ويعصمكم بالتقوى ، ويوفقكم للقول بما يرضى ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته"([10]) .
نستنتج من ذلك فقد استطاع الامام (عليه السلام) بما اوتي من كفاية عالية ومؤهلات مثلى، ان يثبت كالطود الاشم في احلك الظروف واقساها في وجه الانحراف العقائدي ، وان يصمد متطاولاً شاخصاً في مهب تلك الرياح العاصفة ليمسك برسالة السماء من كيد الظالمين.
في الوقت نفسه اسس الامام (عليه الاسلام) مدرسة فكرية متنقله تمثلت بالعديد من اصحابه كانت مسؤوليتهم تعليم الناس ونشر ثقافة اهل البيت (عليهم السلام) وقد كانت لهذه المدرسة دوراً كبيراً في محاربة الفكر المنحرف انذاك، وترسيخ ثقافة اهل بيت النبوة (عليهم السلام) .
جعفر رمضان
[1] ابو القاسم سعد بن عبد الله ابن خلف الاشعري القمي، المقالات والفرق، تحقق محمد جواد شكور، (طهران: مطبعة حيدري،1321)، ص93-94.
[2] ابن شعبة الحراني ، تحف العقول عن آل الرسول ، تحقيق علي أكبر الغفاري،( القم: مؤسسة النشر الاسلامي، 1404هـ)، ص362.
[3] ابي منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي، الاحتجاج، تحقيق محمد باقر الخرسان،(قم: مطبعة شريعت، 1380) ، ج2، ص518
[4] ابو عمر محمد بن عمر الكشي، اختيار معرفة الرجال، تحقيق حسن مطظفوي،( اطفهان: بلا ت)، ص467.
[5] أبو جعفر رشيد الدين محمد بن علي المازنداني ابن شهر اشوب، المناقب آل أبي طالب،(قم: مؤسسة انتشارات علامة، 1995).، ج3، ص526
[6]) ابي منصور احمد بن علي بن ابي طالب الطبرسي، الغيبة،( بيروت :دار الهدايا، بلا ت)، ص64-65.
[7] سورة الانبياء، الآية 26-27.
[8] سورة التكوير، الآية 29.
[9] أبي جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، الغيبة،(قم: مكتبة الإعلام الإسلامي، 1409هـ)، ص247.
[10] جمال الدين يوسف الشامي، الدر النظيم في مناقب الائمة اللهاميم ،(قم المقدسة: مؤسسة النشر الاسلامي، 1420)، ص748
تعليق