عاش الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) في المرحلة كانت من أغنى مراحل الفكر والثقافة الإسلامية، ففيها عاش مؤسِّسو المذاهب الفقهية على سبيل المثال الشافعي ومالك بن أنس وأحمد بن حنبل، فضلا عن مجموعة من فقهاء وأصحاب آراء ووجهات نظر فقهية كـ "أبي يوسف القاضي وسفيان الثوري وعبد الله بن المبارك ويحيى بن أكثم".
وفي الوقت نفسه عاش في هذه المرحلة مجموعة كبيرة من أصحاب العلوم العقلية والاجتماعية كـ "الكسائي والفراهيدي والأصمعي ومحمد بن الهذيل العلاّف المعتزلي وجبريل بن بختشيوع" ، فضلا عن ذلك تبلورت مدارس الفقه والحديث والسَّير ونشأ التيارات الفلسفية خاصة أيام المأمون العباسي، فأمر بالترجمة ونقل الفلسفة إلى العربية ونما تيار المتصوفة وظهرت الزندقة والغلوّ[1].
مما لا شك فيه كان الإمام (عليه السلام) ملجأ أهل الفكر والمعرفة، يُناظر علماء التفسير ويُحَاور أهل الفلسفة والكلام، ويردُّ على الزنادقة والغُلاة، ويوجِّه أهل الفقه والتشريع، ويثبت قواعد الشريعة وأصول التوحيد، وكما بَيَّنَ (عليه السلام) إن العقل البشري اثمن ما خلق الله وعمل على حمايته من الخلل الذي يؤدي الى المفاسد وتشويه الأفكار والمفاهيم والقيم الإسلامية من قبل ضعاف النفوس فقال(عليه السلام):" إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، وثالثها: التصريح بمثالب أعدائنا، فاذا سمع الناس الغلوّ فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا، وإذا سمعوا التقصير أعتقدوه فينا، وإذا سمعوا مثالب أعدائنا بأسمائهم؛ ثلبونا بأسمائنا..."[2].
يمكن القول ان الامام علي الرضا (عليه السلام) أتخذ أساليب عدة في الإصلاح الديني كان من أهمها الرد على الانحرافات الفكرية الدينية ، حيث تصدى (عليه السلام) للرد على جميع الانحرافات وكان يستهدف الأفكار والأقوال مرة والواضعين لها والمتأثرين بها مرة أخرى.
وتبين المصادر التاريخية ان الامام الرضا تصدى للنظريات والادعاءات الباطلة التي تبنتها فرقة التجسيم والتشبيه ففي ردّه على المشّبهة قال( عليه السلام):" إلهي بدت قدرتك ولم تبدُ واهية فجهلوك، وقدروك والتقدير على غير مابه وصفوك وإني بريء ياإلهي من الذين بالتشبيه طلبوك ليس كمثلك شيء"[3]، بالإضافة الى اثرة الكبير في التصدي لفتنة "الجبر والتفويض" ففي ردّه على المجبرة والمفوضة قال (عليه السلام):" من زعم أن الله يفعل أفعالنا ثم يعذبنا عليها، فقد قال بالجبر، ومن زعم أن الله عزوجل فوّض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام، فقد قال بالتفويض، والقائل بالجبر كافر، والقائل بالتفويض مشرك"[4]، كما له ردود عديدة على أصحاب الافتاء والتفسير بالرأي والقياس وأصحاب الفتاوى تابعة لأهواء الحكّام وشهواتهم، وبالإضافة الى ذلك له ردوداً على أصحاب الديانات غير الإسلامية كاليهود والنصارى والمجوس والصابئين والبراهمة وكذلك الملحدين والدهرية وباقي اصناف الزنادقة.
هناك حقيقة تاريخية الا وهي دَحَضَ (عليه السلام) جميع الروايات التي يعتمد عليها المنحرفون، واكد بطلان صدورها عن النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) وهَدَى الفقهاء وطلّاب العلم إلى الروايات الصحيحة، ففي ردّه على الرواية المنسوبة إلى النبي الاكرم محمد (صلى الله عليه وآله) التي جاء فيها:" إن الله تبارك وتعالى ينزل كل ليلة جمعة إلى السماء الدنيا"، قال(عليه السلام) : "لعن الله المحرفين الكلم عن مواضعه، والله ما قال رسول الله كذلك، وإنما قال:" إن الله تعالى يُنزل ملكاً إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير، وليلة الجمعة في أول الليل فيأمرهُ فينادي هل من سائل فأعطيه، هل من تائب فأتوب عليه، هل من مستغفر فأغفر له.... حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول الله "[5].
وفي الوقت نفسه امر الإمام (عليه السلام) المسلمين إلى مقاطعة المنحرفين كالمجبّرة والمفوّضة والغلاة لمنع تأثيرهم في الأمة، فقال (عليه السلام):" حدثني أبي موسى بن جعفر، عن أبيه جعفر بن محمد(عليهما السلام)، أنه قال:" من زعم أن الله تعالى يجبر عباده على المعاصي أو يكلفهم مالا يطيقون، فلا تأكلوا ذبيحته، ولا تقبلوا شهادته، ولا تصلّوا وراءه، ولا تعطوه من الزكاة شيئاً"، ثم قال (عليه السلام):" الغلاة كفّار والمفوّضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم، أوشاربهم، أو واصلهم، أوزوّجهم، أو تزّوج منهم، أو آمنهم، أو إئتمنهم على أمانة أو صدّق حديثهم،أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله) وولايتنا أهل البيت"[6] ، بل اكد على مقاطعة جميع أصناف الغلاة فقال:" لعن الله الغلاة ألا كانوا يهوداً، ألا كانوا مجوساً، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرّية، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا حرورية ... لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم، وابرؤوا منهم بريء الله منهم"[7] .
وأما موقفه (عليه السلام) من الواقفة فيمكن القول عَمَل على مواجهة افكارهم الهدامة بشتى الأساليب من اجل القضاء عليهم، فقد لعنهم أمام المَلأُ فقال(عليه السلام):" لعنهم الله ما أشدّ كذبهم"، ثم اكد في قاله:" الواقف حائدُ عن الحق ومقيم على سيئة إن مات بها كانت جهنم مأواه وبئس المصير"[8]، وبذلك أستطاع تحجيم دورهم وإيقاف حركتهم داخل مدرسة أهل البيت(عليهم السلام)، ولم تنتشر أفكارهم إلا عند أصحاب المطامع والأهواء.
نستنتج من ذلك كان للإمام علي بن موسى الرضا(عليه السلام) الأثر الكبير في تقويم الفكر والثقافة الإسلامية، وقد أثرت عن الإمام جمهرة من غرر الحكم والآداب والوصايا والنصائح، وغيرها مما ينفع الناس، وقد دللت على أنه كان المربي الأكبر للعالم الإسلامي في عصره.
جعفر رمضان
العتبة الحسينية المقدسة
[1] باقر شريف القرشي، حياة الأمام الرضا،: منشورات سعيد بن جبير) ج2، ص ص 182-183.
[2] ابو جعفر محمد بن علي الصدوق، من لا يحضره الفقيه، تحقيق: علي اكبر غفاري، (: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1984م)، ج4، ص504. .
[3] ابو جعفر محمد بن علي الصدوق، التوحيد، تحقيق: هاشم الحسيني، (: جماعة المدرسين في الحوزة العلمية، 1967م)، ص125.
[4]ابو جعفر محمد بن علي الصدوق، ، الهداية، (: مؤسسة الإمام الهادي 1998م)، ص ص18-19.
[5] ابو جعفر محمد بن علي الصدوق ، من لا يحضره الفقيه..، ج1، ص421.
[6] ابو جعفر محمد بن علي الصدوق ، عيون أخبار الرضا، ج2، ص 219.
[7] المصدر نفسه، ص 218.
[8] أبو جعفر محمد بن الحسن بن علي الطوسي، أختيار معرفة الرجال، تحقيق: محمد باقر الحسيني، مؤسسة آل البيت لإحياء التراث، 1984م)، ج 2، ص 756.