دنيا الأضداد
دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر ( الخلد ) متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر ( الخُلد ).. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم ( المهدي )(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة ( زُبَيدة ) أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في ( الوباء )(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت ( العروس ).. ظهرت ( زبيدة ) كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وجاء ( هارون )(4) بشبابه المتفجّر وطوله الفارع.. ووجهه الممتلئ نعمةً ودلالاً.
وبالرغم من أنّ الحاكم قد حرص على أن يظهر بمظهر الأُبهة، لكنّه ضاع إلى جانب زوجته ( الخَيزُران ) التي كانت تجلس كملكة، عيناها تتألقان بنفوذ قاهر..
أمّا الحاكم العبّاسي فقد بدت عيناه منطفئتين.. أذهب بريقَهما السُّكْر..
انتصف الليل.. واشتعلت حمّى الشهوات، وتعالت الضحكات الماجنة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت ( شهرزاد ) عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر ( الخلد ).
تركهم يفعلون ما يشاؤون، لم يعترضْ ولم يستعطف..
راح القاربان ينسابان وسط صمت مَريع.. سأل الرجلُ المفتول الساعدين والشارب:
ـ ما اسمك ؟
أجاب الفتى:
ـ عليّ.
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن ( المِطْبَق )، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
دجلة تتدافع أمواجه.. تتألق تحت أشعة شمس الغروب.. القباب والمنائر تغمرها غلالة ذهبية.. فبدت شفّافة موحية.. حتّى أشجار النخيل التي تنهض على ضفاف النهر بدت هي الأخرى كرموشِ حسناء ساحرة..
القصور المرمرية الأنيقة.. تتناثر فوق الشطآن كلالئ منثورة، وما يزال قصر الذهب بقبته الخضراء يهيمن على بغداد أجمل مدن الشرق.. وما يزال الفارس يشير برمحه الطويل إلى المَدَيات البعيدة.. حيث تشتعل الثورات(1).
انزلق القارب الصغير في المياه الباردة.. وراح ينساب مع تموجات النهر.. من بعيد بدا قصر ( الخلد ) متألقاً.. ما يزال فتيّاً رغم عقد من السنين.
جلس الفتى في قاربه يراقب الامتداد الرشيق لجبهة النهر حيث تغتسل بعض الأغصان المتدلّية.
غابت الشمس، توارت خلف ذُرى النخيل.. فبدت متّقدة بلون يشبه توهجات الجمر في المواقد الشتائية.
هبّت نسمة عليلة بدّدت شيئاً من حرّ آب. في دجلة لا يشعر المرء بلهيب آب، فالضفاف الخضراء والمياه الباردة القادمة من أقاصي الشمال، تبعث في النفس شعوراً بالحيوية..
غابت الشمس.. وانتشرت ظلمة خفيفة.. ومن بَعيد كان صوت الأذان ينساب كانسياب المياه..
ضرب الفتى بمجدافه المياه، فاتّجه القارب صوب قصر ( الخُلد ).. وشيئاً فشيئاً تناهت له أصوات الموسيقى والغناء، وكان صوت الأذان يتلاشى في أُذنيه حتّى اختفى تماماً...
توقف القارب في الرمال الناعمة وبدا الشاطئ صفحة ملساء.. قفز الفتى الذي لم يبلغ العشرين بعد.. قفز إلى الشاطئ الرملي، وربط القارب بجذور شجرة معمَّرة.. وراح يشقّ طريقه بين أشجار النخيل..
تعالت أصوات الموسيقى، وارتفع غناء الجواري.. بدا القصر في تلك الليلة صَدَفة جميلة تتألق في الضوء.
مئات القناديل تضيء في الشرفات، والجواري في ثيابهن المزركشة.. شعر الفتى أنّه قد يعيش في عالم آخر.. منذ مدّة وهو يترقّب هذه اللحظة.. لقد سمع منذ أسابيع عن عزم الحاكم ( المهدي )(2) على تزويج ابنه هارون من ابنة عمّه المدلّلة ( زُبَيدة ) أثرى فتيات بغداد.. وسيّدة بني العبّاس الأولى..
اقترب الفتى أكثر.. كان يتلصّص حذراً.. منتظراً فرصة مناسبة ليزجّ بنفسه مع جموع المدعوّين.. سوف تشفع له ثيابه الفاخرة التي جلبها له أبوه التاجر من الهند..
صدحت الموسيقى.. وظهرت عشرات الجواري.. الفتيات الجميلات يخطرن كالظباء.. يَرفَلْن بالحُلل الحريرية المزركشة بالذهب.. فتيات من بلدان عديدة.. فتيان من أرمينيا ومن الهند، والمغرب وإيران.
أروقة القصر مزيّنة بالسجاد الأرمني.. والبُسط الفارسية..
وجاء سِرب من الجواري يَحملنَ أطباقاً من الذهب ملأى بالفضة وأطباقاً من فضة ملأى بالذهب.. وجاء سرب آخر من الجواري يحملن أنواع الحلل.. وسرب من الفتيات يحملن صناديق تزخر بالمجوهرات.. وتلاهُنّ فتيات يحملن آنية العطر.. وأخيراً جاءت حسناوات يحملن أطباق الطعام.. وآنية الخمر.
شعر الفتى لوهلة أنّه في الجنّة.. تذكّر صديقه الفقير الذي مات في ( الوباء )(3) قبل أيّام.. وفي غمرة ذهوله ظهرت ( العروس ).. ظهرت ( زبيدة ) كأجمل ما تكون، تنوء بحلل الذهب، ورأى لأول مرّة تلك الحُلّة العجيبة التي طالما سمع عنها في الأحاديث والحكايات.. رأى شيئاً أُسطورياً..
كيف يُصاغ الثوب كلّه من الذهب فلا يدخل فيه من الغَزْل سوى القليل القليل من الحرير.
كان منظر اللآلئ وهي تُطرّز ثوب الذهب كنجوم في بركة تغمرها أضواء الشمس..
كانت زبيدة تخطر في مشيتها تحفّها عشرات الصبايا.. وقد استقرّ فوق رأسها تاج ملكي مرصّع بالجواهر النادرة..
وجاء ( هارون )(4) بشبابه المتفجّر وطوله الفارع.. ووجهه الممتلئ نعمةً ودلالاً.
وبالرغم من أنّ الحاكم قد حرص على أن يظهر بمظهر الأُبهة، لكنّه ضاع إلى جانب زوجته ( الخَيزُران ) التي كانت تجلس كملكة، عيناها تتألقان بنفوذ قاهر..
أمّا الحاكم العبّاسي فقد بدت عيناه منطفئتين.. أذهب بريقَهما السُّكْر..
انتصف الليل.. واشتعلت حمّى الشهوات، وتعالت الضحكات الماجنة..
وانسلّ الفتى.. عاد من حيث أتى.. عاد قبل أن يدركه الصباح.. وقبل أن تسكت ( شهرزاد ) عن الكلام المباح!
ألفى قاربه في مكانه لَكأنه ينتظر.. شعر الفتى أنّه كان في عالم الأطياف.. وأنّه قد استيقظ ليجد نفسه في قاربه يجذف باتجاه الجانب الشرقي حيث تنهض أكواخ الفقراء. طفحت في أعماقه دهشة كفقاعات مليئة بالهواء سرعان ما تنفجر وتتبدد.. سمع نفسه يقول:
ـ بغداد، يا مدينةً عجيبة.. كيف أمكنكِ أن تحتضني كل هذا الترف والبذخ إلى جانب البؤس ؟!
كيف لدِجلتك أن تبقى هادئة وهي تمرّ بالقصور مقابل الأكواخ ؟! بغداد أنت حكاية عجيبة! الويل لك يا بغداد!!
فجأة ظهر في قلب الظلمة قارب مليء بوجوه قاسية.. رجال يحملون الرماح. بدا أحدهم بطوله الفارع ووجهه القاسي وشواربه المفتولة كائناً مخيفاً كالذي يتحدّث عنه تجّار البحار..
قفز بعض الرجال إلى قاربه.. واستسلم الفتى.. عرف أن هؤلاء من حرس القصر.. وأنّه قد ارتكب جرماً بالاقتراب من قصر ( الخلد ).
تركهم يفعلون ما يشاؤون، لم يعترضْ ولم يستعطف..
راح القاربان ينسابان وسط صمت مَريع.. سأل الرجلُ المفتول الساعدين والشارب:
ـ ما اسمك ؟
أجاب الفتى:
ـ عليّ.
وصل القاربان الى مرفأ صغيراً عند جسر الرُّصافة. نزل الرجال.. ونزل الفتى. اتّجهوا إلى باب الطاق.. وعبروا الخندق.. واجتازوا المَسناة.. فاستقبلهم حرس الطاقات في باب البصرة. وفي ضوء الشماعل تأمّل الفتى رجال الشرطة..
أدرك أنهم سوف يذهبون به إلى سجن ( المِطْبَق )، فشعر بدوار يعصف برأسه المُثقَل بالهموم.
تعليق