«من أصبح وأمسى والدنيا أو الآخرة أكبر همُّه»
عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال:
«من أصبح وأمسى والدنيا أكبر همِّه، جعل الله الفقر بين عينيه وشتَّت أمره ولم ينل من الدنيا إلا ما قُسِمَ له ومن أصبح وأمسى والآخرة أكبر همِّه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره».
* * *
الشرح:
الدنيا والآخرة هما نشأتان في نفس كل إنسان، نشأة الدنيا وهي زائلة ومتغيرة، ونشأة الآخرة وهي باقية وخالدة تسعى للوصول إلى الكمال.
ولولا الدنيا ما وصل أحد من ذوي النفوس الناقصة إلى كماله الموعود ودار قراره.
إن ما ورد في القرآن والأحاديث في ذم الدنيا، لا لحقيقة الدنيا، بل يعود للتعلق والانشداد إليها، ولكن الدنيا الممدوحة، يقول عنها الإمام عليّ (عليه السلام) في نهج البلاغة: «إن الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار عافية لمن فهم عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، ودار موعظة لمن اتعظ بها، هي مسجد أحباء الله، ومهبط وحي الله، ومتجر أوليائه، اكتسبوا فيها الرحمة، وربحوا فيها الجنَّة.
أسباب حب الدنيا:
الإنسان وليد هذه الطبيعة، وهي أُمَّهُ، وهو ابن هذا التراب والماء، فحب الدنيا مغروس في قلبه منذ نشوئه، وكلما كبر في العمر، كبر هذا الحب ونما، وبما أن حب البقاء فطريّ في الإنسان، فهو يكره الزوال والفناء، ولو آمن بعقله بأن هذه الدنيا دار فناء وممرّ، وأن العالم الآخر، عالم بقاء سرمدي، ولكن هذا الإيمان لم يدخل قلبه، فهو ما يزال بفطرته يميل إلى الدنيا والبقاء فيها.
ولو أدركت القلوب، أن هذه الدنيا هي أدنى العوالم وأنها دار الفناء والزوال، وأن دار الكمال والثبات والبهجة والسرور هي في العالم الأخروي، لأحبَّت ذلك العالم، ولنَفَرت من هذه الدنيا، التي هي بمثابة سجن مظلم في نظر الأولياء.
قال الإمام عليّ (عليه السلام): «والله لابن أبي طالب، آنس بالموت من الطفل بثدي أمه» ولعلَّ خطيئة آدم أبي البشر نجمت عن هذا التوجه القسريّ إلى الدنيا وسائر الأمور الطبيعية، إنها خطيئة بالنسبة لأولياء الله».
من المفاسد الكبيرة لحب الدنيا، أنه يمنع الإنسان من الرياضات الروحية، والعبادات والمناسك، ويقوي جانب الطبيعة في الإنسان، بحيث يجعلها تعصي الروح وتتنمَّر عليها، وتوهن عزم الإنسان وإرادته.
ومن أكبر أسرار العبادات والرياضات الروحية، هو أن يجعل الجسم وقواه الطبيعية، تابعة منقادةً للروح، ويكون للإرادة دوراً مؤثراً في الجسم، فيخضع لهذه الإرادة ويعمل بما تشاء ويمتنع عما تشاء، فإذا اكتملت الإرادة واشتد العزم نصبح مثل ملائكة الله، الذين لا يعصون الله، وإنما يطيعونه في كل ما يأمرهم وينهاهم عنه، من دون معاناة أو مشقة.
الإنسان الذي ليست له إرادة نافذة، ولا عزم قوي، لا ينال تلك الجنَّة، ولا يبلغ ذلك المقام الرفيع.
من كانت إرادته تابعة للشهوات المادية، وعزيمته خامدة لا يصل إلى هذا المقام، والقانون الإلهي منزَّه عن العبث، كما أن هذا العالم قائم على الأسباب والمسببات، إن نفوذ الإرادة يجب أن يتهيأ في هذا العالم.
إن لكل عبادة عن العبادات أثراً يحصل في النفس، مما يقوّي الإرادة شيئاً فشيئاً، ويصل بقدراتها إلى حد الكمال، وكلما كانت العبادات شاقَّة إزدادت قوة الروح وتغلَّبت على قوى الجسم وقويت الإرادة.
لذلك نلاحظ أن أهل العبادة، يقومون بالأعمال دون مشقة وتكلُّف، ثم بعد ذلك تتحول المشقَّة إلى راحة بعد القيام بالواجبات الدينية، وتصبح الأمور عادية، ونكون قد حصلنا على العزيمة والقوَّة في هذه الدنيا، ولا أحد يعلم سوى الله، الكرامة المعطاة لنا في الآخرة.
الإنسان بفطرته يعشق الكمال المطلق، ولكن كل شخص يرى الكمال في شيء ما، فأهل الآخرة يرون الكمال في مقامات الآخرة ودرجاتها، وقلوبهم متوجهة إلى الله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 79].
وأهل الدنيا رأوا الكمال في عشق الدنيا ولذائذها، واتجهوا نحوها، ولكن التعلق بالدنيا ليس له نهاية، فكلما حصلنا على شيء تمنَّينا شيء آخر.
هذه النفس لا تدري أن هذا الشيء الآخر، ليس هو الدنيا ولكن هو الجمال المطلق، والكمال المطلق هو الله ولكنها تنحرف بهذا الحب إلى الأمور المادية.
أما أهل الآخرة كلما توجهوا نحو الله، أشاحوا بوجوههم عن الدنيا وزخارفها، وهذا هو مضمون الحديث الشريف: «من أصبح وامسى والدنيا أكبر همه، جعل الله الفقر بين عينيه ولم ينل منها إلا ما قُسم له، ومن أمسى وأصبح والآخرة أكبر همِّه جعل الله الغنى في قلبه وجمع له أمره».
إن من يتجه إلى الآخرة، تغدو أمور الدنيا وصعابها في نظره حقيرة سهلة، فتخف حاجاته، ويقل افتقاره إلى الأمور الماديّة، وإلى الناس، بل يصل حيث لا تبقى لها حاجه، فيجتمع له أمره وتنتظم أموره، ويفوز بالغنى الذاتي والقلبي.
إننا كلما نظرنا إلى هذه الدنيا بعين المحبَّة والتعظيم وتعلَّق قلبنا بها، ازدادت حاجاتنا وبان الفقر في باطننا، وتزلزلت قلوبنا، واستولى علينا الخوف والهم ولا تجري الأمور كما نشتهي، تكثر التمنيات ويزداد الجشع، ويغلبنا الهم والحسرة.
عن الإمام الصادق (عليه السلام): «من تعلّق قلبه بالدنيا ابتُليَ بثلاث خصال: همٌّ لا يفنى، وأملٌ لا يدرك، ورجاءٌ لا يُنال».
وأما أهل الآخرة، فإنهم كلما ازدادوا قرباً من دار كرم الله، ازدادت قلوبهم سروراً واطمئناناً وزاد انصرافهم عن الدنيا وما فيها، ولولا أن الله قد عيَّن لهم آجالهم لما مكثوا في هذه الدنيا لحظة واحدة، فهم كما يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في نهج البلاغة: «نزلت أنفسهم في البلاء، كالتي نزلت في الرخاء، ولولا الأجل الذي كتب الله لعباده، لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين شوقاً إلى الثواب».