بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وآل محمَّد
إنَّ بصيرةَ السيِّدة زينب




إنَّ هذه المقولة لو صحَّت -وهي لا تصحُّ- لكان مؤدَّاها أنَّ الحسين

حرص الإمام على التعريف بحجم الأخطار ومآلات الأمور:
وهذا مضافًا إلى منافاته مع مكارم أخلاق الحسين

فحين بلغَه مقتل عبد الله بن يقطر ومسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وهو في طريقه إلى الكوفة قام خطيبًا فيمَن كان معه فقال: "بسم الله الرحمن الرحيم أمَّا بعد: فإنَّه قد أتانا خبرٌ فظيع قُتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة وعبد الله بن بقطر وقد خذلَتنا شيعتُنا، فمَن أحبَّ منكم الانصراف فلينصرفْ، ليس عليه منَّا ذمام".
قال: فتفرَّق الناسُ عنه تفرُّقًا فأخذوا يمينًا وشمالًا حتى بقيَ في أصحابه الذين جاءوا معه من المدينة، وإنَّما فعل ذلك لأنَّه ظنَّ أنَّما اتَّبعه الأعراب لانَّهم ظنُّوا أنَّه يأتي بلدًا قد استقامت له طاعةُ أهلِه، فكرِهَ أنْ يسيروا معه إلا وهم يعلمون علامَ يُقدمون، وقد علِمَ أنَّهم إذا بيَّنَ لهم لم يصحبْه إلا مَن يُريد مواساته والموتَ معه"(1).
ومثل هذا الموقف تكرَّر صدورُه عن الإمام الحسين


أمَّا بعدُ: فإنِّي لا أعلمُ أصحابًا أوفى ولا خيرًا من أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرَّ ولا أوصلَ من أهل بيتي فجزاكم الله عنِّي خيرا، ألا وإنِّي لأظنُّ أنَّه آخرُ يومٍ لنا مِن هؤلاء، ألا وإنِّي قد أذنتُ لكم فانطلقوا جميعًا في حلٍّ ليس عليكم منِّي ذِمام، هذا الليل قد غشيَكم فاتِّخذوه جملا .."(2).
وبين هذين الموقفين وقبله ومنذُ أنْ كان في مكَّة كان يؤكِّدُ أنَّه يسلك طريقًا محفوفًا بالمكاره والأخطار وقد ينتهي باستشهاده واستشهاد الصفوة ممَّن معه من أهل بيته وأصحابه.
مضافًا إلى ما نعتقدُه من أنَّ أهل البيت






وبقطع النظر عن ذلك فإنَّ السيِّدة زينب




البصيرة التي كان عليها عموم مَن كان في الركب الحسيني:
ثم إنَّ دعوى طلب السيِّدة زينب المتكرِّر من الحسين




يقول الإمامُ زينُ العابدين -بحسب رواية الشيخ المفيد في الإرشاد-: "فقال له إخوته وأبناؤه وبنو أخيه وأبناء عبد الله بن جعفر: لِمَ نفعلُ ذلك؟! لنبقى بعدك؟! لا أرانا اللهُ ذلك أبدا. بدأهم بهذا القول العباسُ بن عليٍّ رضوان الله عليه واتبعته الجماعة عليه فتكلَّموا بمثله ونحوه" إلى أنْ قالوا: "لا والله ما نفعلُ ذلك، ولكنْ تفديك أنفسُنا وأموالُنا وأهلونا، ونقاتلُ معك حتى نردَ موردَك، فقبَّح اللهُ العيشَ بعدك".
"وقام إليه مسلم بن عوسجة فقال: أنخلِّي عنك ولمَّا نعذر إلى الله سبحانه في أداء حقِّك؟! أما والله حتى أطعنَ في صدورهم برمحي، وأضربَهم بسيفي ما ثبت قائمُه في يدي، ولو لم يكن معي سلاح أُقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة، والله لا نُخليك حتى يعلمَ اللهُ أنْ قد حفظنا غيبةَ رسول الله صلى الله عليه وآله فيك، والله لو علمتُ أنِّي أُقتل ثم أَحيا ثم أُحرق ثم أَحيا ثم أُذرى، يُفعلُ ذلك بي سبعين مرَّة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونَك، فكيف لا أفعلُ ذلك وإنَّما هي قتلةٌ واحدة ثم هي الكرامة التي لا انقضاء لها أبدا.
وقام زهيرُ بن القين البجلي (رحمة الله عليه) فقال: والله لوددتُ أنِّي قُتلتُ ثم نُشرتُ ثم قتلتُ حتى أقتل هكذا ألف مرَّة، وأنَّ الله تعالى يدفعُ بذلك القتل عن نفسِك، وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك. وتكلم جماعة أصحابه بكلام يُشبه بعضُه بعضا في وجهٍ واحد، فجزاهم الحسين

وقيل لمحمّد بن بشير الحضرمي -أحد أنصار الحسين


أفيصحُّ البناءُ على أنَّ بصائر هؤلاء الصفوة أنفذُ من بصيرة ربيبة بيت الوحي؟!
إنَّ هؤلاء الكِرام اللذين لم يُظهروا استعدادًا للموت وحسب بل اشتياقًا له أملًا في الذبِّ عن مهجة الرسول

إنَّنا نقبلُ على السيِّدة زينب




ما يُصحِّح الإخبار بلسان الحال:
وأمَّا ما قد يُقال من أنَّ مقصود الخطباء من قولِهم إنَّ السيِّدة زينب




فجوابُه إنَّ ذلك لا يُناسِبُ حال السيِّدة زينب

فهل كان واقعُ حال السيِّدة زينب



فإذا لم يكن ذلك هو واقع حال السيِّدة زينب

السيِّدة كانت على علمٍ بتفاصيل ما سيقع واستعدادٍ للتحمُّل:
وهنا ننقلُ شطرًا من روايةٍ عن زين العابدين



أورد هذه الرواية الشريفة الحسين بن أحمد بن المغيرة عن شيخه أبي القاسم جعفر بن محمد بن قولويه (رحمه الله) في هامش كتاب كامل الزيارات بسنده عن قدامة بن زائدة، عن أبيه زائدة، عن عليِّ بن الحسين


فإنَّه لما أصابَنا بالطفِّ ما أصابنا وقُتل أبي


ثم حدَّثته عن أمِّ أيمن عن رسول الله




قالت زينب: فلمَّا ضرب ابنُ ملجم **** الله أبي

وخلاصة القول: إنَّ ما يتداولُه بعضُ الخطباء -شعرًا ونثرًا- أنَّ السيِّدة زينب



والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
1- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص75، 76، إعلام الورى -الطبرسي- ج1 / ص447، تاريخ الطبري -الطبري- ج4/ ص 300، 301، روضة الواعظين -الفتال النيسابوري- ص179، وغيرها.
2- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص91، الأمالي -الشيخ الصدوق- مع تفاوت يسير ص220، تاريخ الطبري -الطبري- ج4 / ص317، تجارب الأمم -ابن مسكويه- مع تفاوت يسير ج2 / ص75، الكامل في التاريخ -ابن الأثر- مع تفاوت يسير ج 4 / ص57، 58، وغيرها.
3- الإرشاد -الشيخ المفيد- ج2 / ص92، 93، المصادر السابقة.
4- تاريخ مدينة دمشق -ابن عساكر- ج14 / ص182، تهذيب الكمال -المزي- ج6 / ص407، مثير الأحزان -ابن نما الحلِّي- ص39، اللهوف -السيد ابن طاووس- ص75.
5- اللهوف -السيد ابن طاووس- ص39، 40.
6- كامل الزيارات -جعفر بن محمد بن قولويه- ص444.
7- الظاهر أنَّ هذا الذي يتداوله بعضُ الخطباء مأخوذٌ من مثل كتاب أسرار الشهادات للفاضل الدربندي (رحمه الله) ج2 / ص182 وهذا الكتاب غير معوَّلٍ على ما يتفرَّد بنقله أو ما ينقله عن متأخرين مثله، على أنَّ الكاتب (رحمه الله) معروفٌ بالتساهل الشديد في النقل وهو قد صرَّح بنفسه بذلك بل صرَّح بأنه ينقل في كتابه هذا حتى ما هو مظنون الكذب، وحكي كذلك عن غيره من كتب المتأخرين الذين هم ليسوا أحسن حالًا من كتاب أسرار الشهادات على أنَّ ما يتداولُه بعض الخطباء يزيد على ما يذكره هؤلاء الكتَّاب، فقد أضفوا عليه الكثير من الزيادات والرتوش وأخرجوه عن سياقه وتفنَّنوا في صياغته شعرًا ونثرًا.