العنصر الخامس: منجزات دولة آخر الزمان:
من أهم عناصر القوة في الدولة هي منجزاتها التي تخدم بها أبناءها ورعاياها، وكلما كانت المنجزات حقة وحقيقية وتمس واقع الناس وأمنهم، كانت الدولة قد نفذت إلى قلوب الناس، وصار الناس العاديون هم من يدافع ويقوّم الدولة، ولذا نجد النجاح تلو النجاح يسجل لدولة الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، وما ذلك إلّا لما يراه الناس في ذلك الزمان من الإنجازات الباهرة، ومن تلك الإنجازات:
المنجز الأوّل: كسر شوكة الكفر والنفاق، فإنّ الكفار والمنافقين، وأهل المعاصي، وأصحاب رؤوس الأموال، والمتنفذين، والأحزاب البعيدة عن الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هؤلاء وغيرهم ممن عاثوا في الأرض فساداً، سوف لا يكون لهم موطئ قدم في دولة آخر الزمان، وذلك لأنها دولة الأخيار ولا مجال فيها للفجار وغيرهم من الأشرار، كما يستفاد من قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والله لو أن الوضيع في قعر بئر لبعث الله (عزَّ وجلَّ) إليه ريحاً ترفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار»(٨٦)، وهذه الدولة التي يحكمها الإمام (عجَّل الله فرجه) هي دولة الأخيار فلا مجال للأشرار فيها أبداً.
هذا مضافاً إلى ما ورد في دعاء الندبة: «أين قاصم شوكة المعتدين، أين هادم أبنية الشرك والنفاق، أين مبيد أهل الفسوق والعصيان والطغيان، أين حاصد فروع الغي والشقاق، أين طامس آثار الزيغ والأهوال، أين قاطع حبائل الكذب والافتراء، أين مبيد العتاة والمردة، أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد، أين معز الأولياء ومذل الأعداء»(٨٧)، فتصل الحالة من الذل والهوان للكفار يتمنون أن يكونوا تراباً كما في قوله تعالى: ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً﴾ (النبأ: ٤٠)، وعندها لا يجدون من يأويهم ولا أحد ينجيهم، فيسخّر الله عليهم كل شيء حتى الحجر كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يزال الحجر والشجر يقول: يا مؤمن تحتي كافر اقتله»(٨٨).
فإذا تم إقصاء كل ذوي الأهواء والمحتالين وغير المخلصين عن السلطة، وإبادة الكفر وأعلامه، استقرت الدولة وعاش الناس في أمان وسلام.
ومن جراء هذه الحملة لتصفية الكفر وكسر شوكته، فلا يفكّر أحد بالاعتداء على هذه الدولة، أو الاعتداء على الآخرين؛ لأن الحساب فيها عسير للغاية.
المنجز الثاني: هو إجراء حكم داود وسليمان (عليهما السلام)، أي: الحكم على الباطن وما خفي على الناس من دون أن يقام على الدعوى حجة وبينة، وهذا الحكم لم يتح لاحد من الأئمة قبل الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، فإنّه (عجَّل الله فرجه) يحكم بعلمه لا بالبينة التي يجوز عليها الكذب والاشتباه عقلاً، وهذا ما نطقت به عدة من النصوص:
عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «... ثم يأمر منادياً فينادي: هذا المهدي يقضي بقضاء داود وسليمان (عليهما السلام)، لا يسأل على ذلك بينة»(٨٩).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «... ويبعث الله الريح من كل واد تقول: هذا المهدي يحكم بحكم داود ولا يريد بينة»(٩٠).
وهذا معناه: أن المجرم ينال جزاءه العادل بأسرع وقت، ولا يشفع له أنه من الفرقة الفلانية أو الحزب الفلاني، أو مخادعة الناس بأنه تاب أو عساه أن يتوب.
ولا يخفى ما لهذا الأمر من أثر عظيم على إجراء القصاص وسرعته من المجرمين، والقضاء على الفساد ومادته، بحيث يعم الأمان على البشر، وينعمون بدولة لا مثيل لها أبداً.
المنجز الثالث: انتعاش المجتمع اقتصادياً بعد أن عانى مرارة العيش وقساوته، فبإذن الله تعالى تخرج الكنوز، وتظهر الأرض بركاتها، وتنزل السماء قطرها، فتنبت الأرض وتثمر الأشجار ببركة الإمام (عجَّل الله فرجه)، كما ورد في عدة من الروايات:
منها: ما ورد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «... يرسل السماء عليهم مدراراً، ولا تدخر الأرض من نباتها شيئاً، ويكون المال كدوساً، قال: يجيء الرجل إليه فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل»(٩١).
ومنها: ما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدداً»(٩٢).
ومنها: ما ورد عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «حدثني أبي، عن جدي، عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه: ... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولا خرجت الأرض نباتها»(٩٣).
ومنها: ما ورد عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «... إذا قام قائمنا فإنّه يقسم بالسوية ويعدل في خلق الرحمن، البر منهم والفاجر»(٩٤).
إذن: تصل الحالة في العطاء من الأموال للمحتاجين أن تحثى حثواً ولا تعد عداً كما في الرواية السابقة، وهذا ما يعرب عن انتعاش اقتصاد الدولة المهدوية بشكل لا نظير له.
وهذا الانتعاش الاقتصادي هو من أهم ركائز قوة الدولة العالمية، وقد بسطنا الكلام في ذلك في مقال مستقل تقدم في هذه المجلة المباركة(٩٥).
المنجز الرابع: توحيد العالم على الدين الإسلامي الحنيف، فإنّه من أهم ما يقوم به إمامنا المنتظر (عجَّل الله فرجه)، حيث ينشر الإسلام فيعلو على كل الأديان، وهو ما وعد به الله تعالى في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ (الصف: ٨ - ٩)، فإذا ظهر الدين الحق وتربع على عرش الأديان، بطلت كل البدع المخترعة، وانهارت صروح الضلالة والغواية، واندحر الكفر والنفاق، فيعيش الناس سعداء بنعمة الإسلام وبظل أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما يشير إليه قولهم (عليهم السلام): «يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
فعندما تتوحد البشرية تحت راية الإسلام فإنّ ذلك يعني بطلان كل المسميات والتحزبات والتكتلات، فيكون المجتمع ﴿صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: ٤)، ويكون أيضاً ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: ٢٩)، فعندها يكونون هم حزب الله الغالبون(٩٦) والمفلحون(٩٧).
فإن الوحدة والإخاء وسيادة دين الإسلام وحكمه، هي من أهم أسباب نجاح الدولة وقوتها وثباتها وتفاني الناس فيها، ولكنه على العكس من التفرقة والتحزب، فإنّه يكون من أهم أسباب ضعف وانهيار الدولة، وتفرق الناس وتشتتهم عنها، فتبقى دولة فارغة المعنى، وفاقدة لأهم نواة وقاعدة تقوم عليها، ألا وهي الرعية والمجتمع الذي تحكمه.
وهذا ما يؤكده القرآن الكريم، حيث نجده يحث على الوحدة والألفة والمحبة والتلاحم والوقوف صفاً واحداً أمام الكفر وأهله، وينهى عن التفرق والتحزب، ويعد ذلك من أسباب الضلال والابتعاد عن الدين، لأن الدين واحد حيث ورد: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران: ١٩)، وأمّا التحزبات فهي من السبل التي سوف تتفرق بأهلها ولا توصلهم إلى شاطئ الأمان أبداً، ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: ١٥٣).
وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٩).
وقوله: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (المؤمنون: ٥٣).
وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ﴾ (القصص: ٤).
قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم: ٣١ - ٣٢).
فإن هذه الآيات صريحة بأن الفرقة والتحزب هي عنصر فاعل في ضعف المجتمع والدولة القائمة عليه.
المنجز الخامس: هو قتل إبليس وانتهاء أمده في ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهو اليوم المعلوم، فإنّ الله تعالى عندما أمر إبليس بالسجود وعصى، طرده من الجنة، فعندها طلب إبليس من الله (عزَّ وجلَّ) أن يعطيه مهلة وفرصة بأن لا يميته إلى يوم القيامة، فلم يوافق الله تعالى على هذا الأمد وإنما أعطاه فرصة إلى الوقت المعلوم، كما ورد في قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ (الحجر: ٣٦-٣٨؛ ص: ٧٩-٨١).
وقد جاء بيان المراد من قوله: ﴿يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ في الروايات الشريفة:
منها: ما ورد عن وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس قوله: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ أي يوم هو؟ قال: «يا وهب، أتحسب أنه يوم يبعث الله تعالى الناس؟ لا، ولكن الله (عزَّ وجلَّ) أنظره إلى يوم يبعث الله (عزَّ وجلَّ) قائمنا، فإذا بعث الله (عزَّ وجلَّ) قائمنا فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه، فذلك ﴿يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾»(٩٨).
وفي رواية أخرى(٩٩): «إن الذي يقتله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بعد ما تدور بينه وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) حرب ضروس، فعندها يأتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويطعنه بحربة من نور فيقتله».
وهذه الروايات وإن اختلف لسانها في صيغة قتل إبليس، ومن يقتله، وكيفية قتله، إلّا أنها متفقة على أن إبليس يقتل في زمن الظهور المبارك، وتنتهي حياة الملعون الغوي الرجيم.
ولكن لا يوجد في الروايات ما يدل على أنه بقتل إبليس سوف ينتهي الشر ويبطل تماماً، ولا يبقى في الدنيا إلّا الخير والصلاح، وذلك لأمور، منها:
١ - إن الإمام (عجَّل الله فرجه) إنما يحكم في الدنيا وهي دار بلاء واختبار، فإذا زال الشر مطلقاً صارت الدنيا ليست بدار اختبار أصلاً.
٢ - إن لإبليس جنوداً كثيرة وشياطين متعددة، فلو قتل رئيسهم بقى أعوانه من شياطين الجن والأنس أحياء، وقد يؤدون بعض أدوار كبيرهم ولو بنحو جزئي.
٣ - هذا مضافاً إلى وجود النفس الأمارة بالسوء عند الناس.
قد يقال: إذن ما هي فائدة قتل إبليس وهزيمته مع جيشه؟ فإذا كان الشر حتى بعد قتل إبليس موجوداً وباقياً فقتله وعدمه سيان؟
نقول: الأمر ليس كذلك، فإنّ الشر ليس مناطاً بشخص إبليس الكبير ذاته، حتى إذا قتل زال الشر، وإنما هو كان يرأس الشر وأهله، فإذا قتل الرئيس بقى أعوانه من الجن والإنس فهم يؤدون بعض أدواره كما ذكرناه سابقاً.
ثم إن إبليس طلب من الله تعالى المهلة في الأجل فأعطاه أجلاً طويلاً جداً يمتد إلى أيام دولة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، فهو أجل محتوم لا يمكن تغييره، فالفائدة هي إجراء وعد الله الحق.
يتبع
من أهم عناصر القوة في الدولة هي منجزاتها التي تخدم بها أبناءها ورعاياها، وكلما كانت المنجزات حقة وحقيقية وتمس واقع الناس وأمنهم، كانت الدولة قد نفذت إلى قلوب الناس، وصار الناس العاديون هم من يدافع ويقوّم الدولة، ولذا نجد النجاح تلو النجاح يسجل لدولة الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، وما ذلك إلّا لما يراه الناس في ذلك الزمان من الإنجازات الباهرة، ومن تلك الإنجازات:
المنجز الأوّل: كسر شوكة الكفر والنفاق، فإنّ الكفار والمنافقين، وأهل المعاصي، وأصحاب رؤوس الأموال، والمتنفذين، والأحزاب البعيدة عن الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، هؤلاء وغيرهم ممن عاثوا في الأرض فساداً، سوف لا يكون لهم موطئ قدم في دولة آخر الزمان، وذلك لأنها دولة الأخيار ولا مجال فيها للفجار وغيرهم من الأشرار، كما يستفاد من قول النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): «والله لو أن الوضيع في قعر بئر لبعث الله (عزَّ وجلَّ) إليه ريحاً ترفعه فوق الأخيار في دولة الأشرار»(٨٦)، وهذه الدولة التي يحكمها الإمام (عجَّل الله فرجه) هي دولة الأخيار فلا مجال للأشرار فيها أبداً.
هذا مضافاً إلى ما ورد في دعاء الندبة: «أين قاصم شوكة المعتدين، أين هادم أبنية الشرك والنفاق، أين مبيد أهل الفسوق والعصيان والطغيان، أين حاصد فروع الغي والشقاق، أين طامس آثار الزيغ والأهوال، أين قاطع حبائل الكذب والافتراء، أين مبيد العتاة والمردة، أين مستأصل أهل العناد والتضليل والإلحاد، أين معز الأولياء ومذل الأعداء»(٨٧)، فتصل الحالة من الذل والهوان للكفار يتمنون أن يكونوا تراباً كما في قوله تعالى: ﴿يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً﴾ (النبأ: ٤٠)، وعندها لا يجدون من يأويهم ولا أحد ينجيهم، فيسخّر الله عليهم كل شيء حتى الحجر كما في الرواية عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «لا يزال الحجر والشجر يقول: يا مؤمن تحتي كافر اقتله»(٨٨).
فإذا تم إقصاء كل ذوي الأهواء والمحتالين وغير المخلصين عن السلطة، وإبادة الكفر وأعلامه، استقرت الدولة وعاش الناس في أمان وسلام.
ومن جراء هذه الحملة لتصفية الكفر وكسر شوكته، فلا يفكّر أحد بالاعتداء على هذه الدولة، أو الاعتداء على الآخرين؛ لأن الحساب فيها عسير للغاية.
المنجز الثاني: هو إجراء حكم داود وسليمان (عليهما السلام)، أي: الحكم على الباطن وما خفي على الناس من دون أن يقام على الدعوى حجة وبينة، وهذا الحكم لم يتح لاحد من الأئمة قبل الإمام الحجة (عجَّل الله فرجه)، فإنّه (عجَّل الله فرجه) يحكم بعلمه لا بالبينة التي يجوز عليها الكذب والاشتباه عقلاً، وهذا ما نطقت به عدة من النصوص:
عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر بن محمد (عليه السلام) أنه قال: «... ثم يأمر منادياً فينادي: هذا المهدي يقضي بقضاء داود وسليمان (عليهما السلام)، لا يسأل على ذلك بينة»(٨٩).
عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قال: «... ويبعث الله الريح من كل واد تقول: هذا المهدي يحكم بحكم داود ولا يريد بينة»(٩٠).
وهذا معناه: أن المجرم ينال جزاءه العادل بأسرع وقت، ولا يشفع له أنه من الفرقة الفلانية أو الحزب الفلاني، أو مخادعة الناس بأنه تاب أو عساه أن يتوب.
ولا يخفى ما لهذا الأمر من أثر عظيم على إجراء القصاص وسرعته من المجرمين، والقضاء على الفساد ومادته، بحيث يعم الأمان على البشر، وينعمون بدولة لا مثيل لها أبداً.
المنجز الثالث: انتعاش المجتمع اقتصادياً بعد أن عانى مرارة العيش وقساوته، فبإذن الله تعالى تخرج الكنوز، وتظهر الأرض بركاتها، وتنزل السماء قطرها، فتنبت الأرض وتثمر الأشجار ببركة الإمام (عجَّل الله فرجه)، كما ورد في عدة من الروايات:
منها: ما ورد عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال: «... يرسل السماء عليهم مدراراً، ولا تدخر الأرض من نباتها شيئاً، ويكون المال كدوساً، قال: يجيء الرجل إليه فيقول: يا مهدي أعطني أعطني، قال: فيحثي له في ثوبه ما استطاع أن يحمل»(٩١).
ومنها: ما ورد عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أنه قال: «يكون في آخر أمتي خليفة يحثي المال حثياً لا يعده عدداً»(٩٢).
ومنها: ما ورد عن الإمام أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «حدثني أبي، عن جدي، عن آبائه (عليهم السلام) عن أمير المؤمنين (عليه السلام) في حديث طويل قال فيه: ... ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولا خرجت الأرض نباتها»(٩٣).
ومنها: ما ورد عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «... إذا قام قائمنا فإنّه يقسم بالسوية ويعدل في خلق الرحمن، البر منهم والفاجر»(٩٤).
إذن: تصل الحالة في العطاء من الأموال للمحتاجين أن تحثى حثواً ولا تعد عداً كما في الرواية السابقة، وهذا ما يعرب عن انتعاش اقتصاد الدولة المهدوية بشكل لا نظير له.
وهذا الانتعاش الاقتصادي هو من أهم ركائز قوة الدولة العالمية، وقد بسطنا الكلام في ذلك في مقال مستقل تقدم في هذه المجلة المباركة(٩٥).
المنجز الرابع: توحيد العالم على الدين الإسلامي الحنيف، فإنّه من أهم ما يقوم به إمامنا المنتظر (عجَّل الله فرجه)، حيث ينشر الإسلام فيعلو على كل الأديان، وهو ما وعد به الله تعالى في قوله: ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ﴾ (الصف: ٨ - ٩)، فإذا ظهر الدين الحق وتربع على عرش الأديان، بطلت كل البدع المخترعة، وانهارت صروح الضلالة والغواية، واندحر الكفر والنفاق، فيعيش الناس سعداء بنعمة الإسلام وبظل أهل البيت (عليهم السلام)، وهذا ما يشير إليه قولهم (عليهم السلام): «يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً».
فعندما تتوحد البشرية تحت راية الإسلام فإنّ ذلك يعني بطلان كل المسميات والتحزبات والتكتلات، فيكون المجتمع ﴿صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف: ٤)، ويكون أيضاً ﴿أَشِدَّاءُ عَلَى الكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ﴾ (الفتح: ٢٩)، فعندها يكونون هم حزب الله الغالبون(٩٦) والمفلحون(٩٧).
فإن الوحدة والإخاء وسيادة دين الإسلام وحكمه، هي من أهم أسباب نجاح الدولة وقوتها وثباتها وتفاني الناس فيها، ولكنه على العكس من التفرقة والتحزب، فإنّه يكون من أهم أسباب ضعف وانهيار الدولة، وتفرق الناس وتشتتهم عنها، فتبقى دولة فارغة المعنى، وفاقدة لأهم نواة وقاعدة تقوم عليها، ألا وهي الرعية والمجتمع الذي تحكمه.
وهذا ما يؤكده القرآن الكريم، حيث نجده يحث على الوحدة والألفة والمحبة والتلاحم والوقوف صفاً واحداً أمام الكفر وأهله، وينهى عن التفرق والتحزب، ويعد ذلك من أسباب الضلال والابتعاد عن الدين، لأن الدين واحد حيث ورد: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ (آل عمران: ١٩)، وأمّا التحزبات فهي من السبل التي سوف تتفرق بأهلها ولا توصلهم إلى شاطئ الأمان أبداً، ومن تلك الآيات:
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ (الأنعام: ١٥٣).
وقوله (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ﴾ (الأنعام: ١٥٩).
وقوله: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (المؤمنون: ٥٣).
وقوله: ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ﴾ (القصص: ٤).
قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا مِنَ المُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (الروم: ٣١ - ٣٢).
فإن هذه الآيات صريحة بأن الفرقة والتحزب هي عنصر فاعل في ضعف المجتمع والدولة القائمة عليه.
المنجز الخامس: هو قتل إبليس وانتهاء أمده في ظهور الإمام (عجَّل الله فرجه)، وهو اليوم المعلوم، فإنّ الله تعالى عندما أمر إبليس بالسجود وعصى، طرده من الجنة، فعندها طلب إبليس من الله (عزَّ وجلَّ) أن يعطيه مهلة وفرصة بأن لا يميته إلى يوم القيامة، فلم يوافق الله تعالى على هذا الأمد وإنما أعطاه فرصة إلى الوقت المعلوم، كما ورد في قوله تعالى: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ (الحجر: ٣٦-٣٨؛ ص: ٧٩-٨١).
وقد جاء بيان المراد من قوله: ﴿يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ في الروايات الشريفة:
منها: ما ورد عن وهب بن جميع مولى إسحاق بن عمار، قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن إبليس قوله: ﴿قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنْظَرِينَ * إِلى يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾ أي يوم هو؟ قال: «يا وهب، أتحسب أنه يوم يبعث الله تعالى الناس؟ لا، ولكن الله (عزَّ وجلَّ) أنظره إلى يوم يبعث الله (عزَّ وجلَّ) قائمنا، فإذا بعث الله (عزَّ وجلَّ) قائمنا فيأخذ بناصيته ويضرب عنقه، فذلك ﴿يَوْمِ الوَقْتِ المَعْلُومِ﴾»(٩٨).
وفي رواية أخرى(٩٩): «إن الذي يقتله رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، بعد ما تدور بينه وبين أمير المؤمنين (عليه السلام) حرب ضروس، فعندها يأتي رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ويطعنه بحربة من نور فيقتله».
وهذه الروايات وإن اختلف لسانها في صيغة قتل إبليس، ومن يقتله، وكيفية قتله، إلّا أنها متفقة على أن إبليس يقتل في زمن الظهور المبارك، وتنتهي حياة الملعون الغوي الرجيم.
ولكن لا يوجد في الروايات ما يدل على أنه بقتل إبليس سوف ينتهي الشر ويبطل تماماً، ولا يبقى في الدنيا إلّا الخير والصلاح، وذلك لأمور، منها:
١ - إن الإمام (عجَّل الله فرجه) إنما يحكم في الدنيا وهي دار بلاء واختبار، فإذا زال الشر مطلقاً صارت الدنيا ليست بدار اختبار أصلاً.
٢ - إن لإبليس جنوداً كثيرة وشياطين متعددة، فلو قتل رئيسهم بقى أعوانه من شياطين الجن والأنس أحياء، وقد يؤدون بعض أدوار كبيرهم ولو بنحو جزئي.
٣ - هذا مضافاً إلى وجود النفس الأمارة بالسوء عند الناس.
قد يقال: إذن ما هي فائدة قتل إبليس وهزيمته مع جيشه؟ فإذا كان الشر حتى بعد قتل إبليس موجوداً وباقياً فقتله وعدمه سيان؟
نقول: الأمر ليس كذلك، فإنّ الشر ليس مناطاً بشخص إبليس الكبير ذاته، حتى إذا قتل زال الشر، وإنما هو كان يرأس الشر وأهله، فإذا قتل الرئيس بقى أعوانه من الجن والإنس فهم يؤدون بعض أدواره كما ذكرناه سابقاً.
ثم إن إبليس طلب من الله تعالى المهلة في الأجل فأعطاه أجلاً طويلاً جداً يمتد إلى أيام دولة صاحب الزمان (عجَّل الله فرجه)، فهو أجل محتوم لا يمكن تغييره، فالفائدة هي إجراء وعد الله الحق.
يتبع
تعليق