من المسلمات الأولية أن أخْذ المسيء باساءته حق وعدل، وقد يرحم الله ويغفر لمن خلط صالحاً بطالح أو لمن ندم واستغفر أو لأية حكمة هو سبحانه أدرى بها وأعلم، ويستحيل في حقه أن يعاقب بلا جرم وسبب (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) ولكن من اتقى الله حق تقاته هل يستحق منه الثواب كعوض على الطاعة والتقوى، أو لا يستحق شيئاً لأن العلاقة بين الخالق والمخلوق ليست من باب المعاملة وتبديل شيء بشيء، فالمخلوق مدين للخالق في كل شيء، وعليه فإن أثابه المولى ففضل على فضل، وإن منعه فحق وعدل؟. وقد ذهب إلى كلٍ فريقٌ من أهل المعقول، وأطالوا الكلام ولكن بلا طائل من حيث العمل لأن الكل على وفاق أن الله ـ تقدست أسماؤه ـ يجزي الذين أحسنوا بالحسنى، وأيضاً قال: (وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار).. وكذلك (أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار) ومعنى هذا أن ثواب الله لمن عمل له كائن لا محالة، وعلينا أن نوقن، بذلك ونؤمن، ولا يجب بحال أن نسأل ونبحث: هل هذا الثواب مجرد منحة منه تعالى أم استحقاق وعوض؟. والأنسب أن نقول: هو من فضل الله وإحسانه أسوة بالنبي وآله (ص). قال إمام المتقين وسيد الساجدين عليه السلام في مناجاته: (ليس عندي ما يوجب لي مغفرتك، ولا في عملي ما أستحق به عفوك، وما لي بعد ان حكمت على نفسي إلا فضلك.. لا يجب أن تغفر لأحد باستحقاقه، ولا أن ترضى عنه باستجابته، فمن غفرت له فبطولك، ومن رضيت عنه فبفضلك، سنتك الافضال، وعادتك الإحسان، وسبيلك العفو). وقد عاش الإمام السجاد (ع) مع الله سبحانه في كل لحظة من حياته، وعرف الكثير من سننه وآياته، وسبله وعادته، ومن هنا جمعت مناجاته بين قوة الحجة والمنطق في قوله: (سنتك.. عادتك.. سبيلك) وبين التذلل والتوسل (بالإفضال والإحسان والعفو). وبهذين الجناحين سما الإمام (ع) إلى الأفق الأعلى، ورأى من آيات ربه ما رأى، وناجاه بما جاء في الصحيفة السجادية. ومؤداها أن ثواب الله سبحانه يصل إلى من اتقى معاصيه على كل حال، إما لأن هذا الثواب ثابت بذاته، وأما لأن الله هو الذي أثبته وكتبه على نفسه.
لكل مجرم ما يستحقأعدَّ الله سبحانه لكل مذنب ما يستحقه من العقوبة ولا يزيده مثقال ذرة لأنه رؤوف بالعباد، وقد ينقص أو يغفر تفضلاً منه وكرماً، وهو وحده جلَّ وعلا يحدد في يوم الحساب نوع الذنب وأسبابه وجزاءه كماً وكيفاً. هذا ما يجب علينا أن نوقن به ونؤمن، وما عداه لا يجب البحث عنه ولا الأيمان به إلا مع النص القاطع. وهنا سؤال يطرح نفسه، وهو أن الله سبحانه ذكر في كتابه العزيز صوراً من عذاب المجرمين تنهار الأعصاب بمجرد تصورها، فكيف بمن يذوق ويختبر؟ من ذلك حشر بعض المجرمين مكبلاً بالقيود، وعليه ثياب من مادة شديدة الالتهاب، وعلى وجهه غطاء من نار، أما طعامه فمن زقوم وشرابه من صديد الخ! ألا يتنافى هذا النوع من العذاب مع حلم الله ورحمته وجوده ورأفته؟ ألا يكفي لجزاء هذا الإنسان الضعيف بعض هذا الجحيم؟. والجواب: ان في الناس مجرمين يستحقون هذا النوع من العذاب وأكثر منه.. ومن هؤلاء الذين يحاربون الحق أو يكتمونه وهم يعلمون.. وأعظم منهم جرماً تجار الحروب ومن يستغل الشعوب، ويعد لها أسلحة جهنمية تقتل الملايين في دقائق معدودات إذا هي حاولت أن تخرج من ذل الطاعة والعبودية إلى الحرية.. ثم هذه الوسائل الإعلامية والدعائية والفلسفات الالحادية والمادية التي تضلل العقول وتفسد القلوب ويستمر أثرها إلى يوم يبعثون.. أليست هذه الجريمة تفوق كل الجرائم مجتمعة؟ وإذن يجب أن تفوق عقوبتها كل العقوبات.
تعليق