الشيخ نزار آل سنبل القطيفي
مقدّمة:
من الأُمور التي قام بها الإمام صاحب الزمان عليه السلام في ضمن وظائفه وإنجازاته لاسيّما في عصر الغيبة الصغرى، ما عُرِفَ ب (التوقيعات).
وهي رسائل صدرت منه لسفرائه أو لوكلائه أو لشيعته، متعدِّدة الأنحاء والمضامين، وقد تعرَّض لذكرها ونقلها من كتب حول الإمام عليه السلام، ولكنَّهم اكتفوا بالنقل وذكر المناسبة، ولم أجد - حسب تتبّعي القاصر - من تناولها بالدراسة والتحقيق، وهي تستحقُّ من الباحثين والكتاب ذلك، ونحن في هذا البحث المختصر سوف نتناولها بصورة سريعة، ونلقي الضوء عليها بنحو من الإيجاز يتناسب مع المقال في هذا المقام، ونصبُّ جهدنا حول مضامين التوقيعات الصادرة منه عليه السلام، فلهذا أسمينا البحث: (قراءة في توقيعات الناحية المقدَّسة)، ومن الطبيعي أنَّ ضرورة البحث تقتضي تناول نقاط تمهيدية للبحث:
النقطة الأولى: التوقيع لغةً:
التوقيعات جمع توقيع، وهو في اللغة مشتقٌّ من التوقيع بمعنى التأثير، يقال: وقَّع الدَّبَر ظهر البعير، إذا أثَّر فيه.
وقيل: إنَّ التوقيع مشتقٌّ من الوقوع؛ لأنَّه سبب في وقوع الأمر الذي تضمَّنه، أو لأنَّه إيقاع الشيء المكتوب في الخطاب أو الطلب.
قال الخليل: (التوقيع في الكتاب إلحاق فيه بعد الفراغ منه، واشتقاقه من قولهم: وقَّعت الحديدة بالميقعة، وهي المطرقة، إذا ضربتها، وحمار موقَّع الظهر، إذا أصابته في ظهره دَبَرَة، والوقيعة نُقْرَة في صخرة، يجتمع فيها الماء، وجمعها وقائع.
فكأنَّه سُمّي توقيعاً؛ لأنَّه تأثير في الكتاب، أو لأنَّه سبب وقوع الأمر وإنفاذه، من قولهم: أوقعت الأمر فوقع)(١).
التوقيع في المصطلح الأدبي:
هي الكلمات القصار التي يكتبها الخليفة أو الأمير أو الوالي في آخر الكتاب المرفوع له، ويكون لفظاً موجزاً بليغاً، يحمل معنىً وافياً بالمراد، ومن أمثلته:
١ - ما في العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي عليه السلام في كتاب سلمان الفارسي وسأله كيف يحاسب الناس يوم القيامة.
(يُحاسَبون كما يُرزَقون)(٢).
٢ - وأيضاً في العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي عليه السلام في كتاب جاءه من الحسن بن علي عليه السلام:
(رأيُ الشيخ خيرٌ من جَلَد الغلام)(٣).
٣ - وفي العقد الفريد لابن عبد ربِّه: ووقَّع علي عليه السلام في كتاب الحصين بن المنذر إليه بذكر أنَّ السيف قد أكثر في ربيعة:
(بقيَّة السيف أنمى عدداً)(٤).
٤ - العقد الفريد لابن عبد ربِّه: وفي كتاب جاءه (إلى علي عليه السلام) من الأشتر النخعي فيه بعض ما يكره:
(من لك بأخيك كلّه)(٥).
واشتهر هذا النوع من التوقيعات في العصر العبّاسي حتَّى جُعِلَ له كاتب خاصٌّ، يكتب للأُمراء والولاة والحُكّام، وصار يتنافس عليه المتنافسون، ويتسابق المتسابقون، من أصحاب القلم والأدب، ولا يهمّنا التوسّع في ذلك.
مواصفات التوقيع الأدبي:
يشترط في التوقيع الأدبي:
- الإيجاز: ألفاظه قليلة ذات معنى غزير.
- البلاغة: أن يكون التوقيع مطابقاً لمقتضى الحال، من الحالة أو القضيَّة التي قيل فيها.
- الإقناع: وذلك بأن يتضمَّن من وضوح الحجَّة وسلامتها ما يحمل الخصم على التسليم، ومن قوَّة المنطق وبراعته ما يقطع على صاحب الطلب عودة المراجعة.
أنواع التوقيعات الأدبية:
١ - آية قرآنية تناسب الموضوع الذي تضمَّنه الطلب، أو اشتملت عليه القضيَّة.
٢ - بيت من الشعر.
٣ - مثل سائر.
٤ - حكمة معروفة.
٥ - غير ذلك ممَّا يُبدِعه القائل، وربَّما يذهب مثلاً أو حكمةً بعد ذلك.
التوقيع في المصطلح الروائي والرجالي:
التوقيع عبارة عن جواب مكتوب يُجيب به الإمام عليه السلام على سؤال أو أسئلة ترد عليه، وربَّما يصدر ابتداءً من دون أن يسبق السؤال، كما سنلاحظ فيما يأتي من موارد.
وربَّما اختصَّ هذا المصطلح بما صدر عن الإمام صاحب الزمان عليه السلام، وإن أُطلق هذا اللفظ أيضاً على بعض ما صدر من الإمام العسكري عليه السلام، وإن كانت عبارة المكاتبة هي الأشهر بالنسبة للأجوبة المكتوبة الصادرة من الأئمَّة عليهم السلام، كما أنَّ لفظ المكاتبة أُطلق أيضاً على بعض أجوبة الإمام صاحب الزمان عليه السلام كما في (كتاب الاحتجاج)(٦):
(في جواب مكاتبة محمّد بن عبد الله بن جعفر الحميري إلى صاحب الزمان عليه السلام...).
تأريخ المكاتبة:
والذي يظهر بالاستقراء الناقص أنَّ المكاتبة وُجِدَت منذ عصر زمان الإمام الكاظم عليه السلام؛ حيث سُجِنَ وأُبعد عن الاتِّصال المباشر بشيعته، فلا يستطيع أن يُحدِّثهم ويُحدِّثونه، فاضطرَّ الشيعة إلى مكاتبته عليه السلام لأخذ أحكامهم الشرعية، بطرقهم الخاصَّة.
وأصبحت الحاجة إليها ضرورية في زمان الإمامين الهاديين العسكريين؛ لإبعاد الدولة لهما عن قواعدهما الإيمانية، ولاعتقالهم في محلِّ سكناهم، في السجن الصغير أو الكبير، ولتفرّق شيعتهم في البلدان البعيدة عن حاضرة الإمام ومحلِّ إقامته.
وأمَّا الأئمَّة قبل الإمام الكاظم عليه السلام فقد كانوا مع الرواة يُحدِّثون عنهم بالمباشرة أو بواسطة راوٍ آخر، فكانت الروايات تأتي بعبارة: (قلت له)، أو (سمعت عنه)، ولا يعني هذا أنَّهم عليهم السلام كانوا في سعة من العيش، وفسحة من العمل، غير مشدَّد عليهم، يعيشون بحرّيتهم، بل كانت الحال معهم بين مدٍّ من بحر الظلم وجزر، فيضيق عليهم تارةً بحيث لا يتمكَّن الرواة من الذهاب إليهم والأخذ عنهم، ويُفسَح لهم المجال تارةً أُخرى، وكأنَّ ذلك تبع للظروف المحيطة بالدولة، وإلَّا فالقاعدة الأوَّلية عند حُكّام بني أُميَّة وبني العبّاس بالنسبة لهم، هي التضييق والتشديد وإبعاد الناس عنهم، إلَّا أنَّ الظروف تتحكَّم في خطِّ السير كرهاً على الحُكّام.
نوع خطّ التوقيعات:
كانت التواقيع تصدر بخطِّ الإمام المهدي عليه السلام، وهو نفس الخطّ الذي كان يكتب به والده الإمام العسكري عليه السلام، ومن الواضح أنَّ استعماله لنفس الخطّ ليطمئنَّ من يعرفون خطَّ الإمام العسكري عليه السلام - وهم الحلقة الأُولى في عصر الغيبة الصغرى من أصحاب الإمام الحسن العسكري عليه السلام - بأنَّ التواقيع صدرت من نفس تلك المشكاة، وليقطع الطريق على المغرضين والمستغلّين.
ومن شواهد ما قلناه:
يتبع
تعليق