ترانيم السماء
عضو ذهبي
- تاريخ التسجيل: 11-12-2014
- المشاركات: 1342
#1
تأمّلات عرفانيّة في دعاء يوم عرفة
17-10-2015, 04:04 AM
إنّ معارف الدعاء الشريف للمولى أبي عبد الحسين (عليه السّلام) في يوم عرفة تكاد لا تنحصر في موضوع واحد ، لكنّه يبدأ بالحمد والتمجيد لله تعالى ، ثمّ ينتقل إلى العلوم الدقيقة للإنسان من عالم الأصلاب إلى الأرحام وظلماتها ، ثمّ إلى الدنيا وتطوّراتها وأطوارها المختلفة . وهكذا ينتقل الإمام من آيات النفس البشريّة ، إلى آيات الكون الآفاقيّة برحابتها وعظمتها ، والدَّارس للدعاء الشريف يشعر وكأنّه في بحر خضم من المعارف النورانيّة الرفيعة ، والعميقة والبليغة ، بحيث وردت بهذا الترتيب البديع أو السهل السريع ؛
1 ـ التمجيد : وهو التقديس والتنزيه ، والتعظيم للمولى تعالى ، وهذا مطلوب في بداية كلّ دعاء كما في الرواية الشريفة أنّ : (( مَنْ أرادَ الدعاء فليبدأ بالتَّمجيدِ لله تعالى )) . والإمام الحسين (عليه السّلام) يبدأ حامداً وممجّداً بقوله : (( الحمدُ لله الذي ليس لقضائهِ دافعٌ ، ولا لعطائه مانعٌ ، ولا كصنعه صُنع صانعٍ ، وهو الجواد الواسع ، فطر أجناس البدائع ، وأتقن بحكمته الصّنائع ، لا تخفى عليه الطلايعُ ، ولا تضيعُ عنده الودائعُ ، جاري كلِّ صانعٍ ، ورائشُ كلّ قانع ، وراحم كلِّ ضارعٍ ، ومنزّلُ المنافع ، والكتاب
الجامع بالنّور الساطع ، وهو للدّعوات سامعٌ ، وللدّرجات رافعٌ ، وللكربات دافعٌ ، وللجبابرة قامعٌ ، فلا إله غيره ، ولا شيء يعدله ، وليس كمثله شيء وهو السميع العليم ، البصيرُ اللطيف الخبيرُ ، وهو على كلّ شيءٍ قدير ... ))(1) . فلنتامل هذه الكلمات ونعدها؛ حتّى نتذوق ما فيها من حلاوة ، ونرى ما عليها من طلاوة ، فسوف نجد أنّ في كلّ جملة قصّة أو حكمة ، أو نظريّة علميّة ؟
فنرى أنّ جملة (( ليسَ لقضائهِ دافعٌ ، ولا لعطائه مانعٌ )) تلخّص مسألة كلاميّة في غاية الدقّة ( القضاء والقدر ) ، وبحوثه الكلاميّة التي طال الحديث فيها بين أقطاب الأُمّة ، وافترقت على أساسها إلى ثلاث فرق أساسية ؟
أمّا الجملة الثانية : (( ليسَ كصُنعهِ صُنعُ صانع )) فإنّها تحكي قصّة الخلق كلّه من الذّرة إلى المجرّة ؛ فإنّها كلّها مخلوقة له سبحانه ، وإذا أضفنا إليها الجملة التي بعدها فإنّها تزداد ألقاً ونوراً ، أعني قوله (عليه السّلام) : (( فَطَرَ أجناس البدائِع ، وأتقنَ بحكمتهِ الصنائعُ )) . نعم ، إنّه إبداع أوّل الخلق ؛ لأنّه جاء لا عن مثال سبقه . والفطر : الخلق الإبداعي الأوّل . فطرة الله : خلقته الأولى وإيجاده الأوّل الذي لا يمكن أن يكون إلاّ بحكمة بالغة ودقّة متناهية ، وإلاّ كان الخلق عبثاً والخالق لاعباً ـ والعياذ بالله ـ وهو الحكيم العليم القادر . ـــــــــــــــــــــ
فَنِعَمُ الخالق على المخلوقات لا تُحصى ولا تُعدّ ؛ ولذا يتعذّر الشكر عليها وتأدية واجب ذلك للمنعم بها علينا . يقول الإمام (عليه السّلام) بعد الالتفات إلى عجيب خلق الإنسان : (( فسُبحانك سُبحانك من مُبدئ مُعيدٍ ، حميدٍ مجيدٍ ، وتقدّستْ أسماؤك ، وعظمت آلاؤك ، فأيّ أنعمك يا إلهي أُحصي عدداً أو ذكراً ، أم أيّ عطاياك أقومُ بها شكراً ، وهي يا ربِّ أكثرُ من أن يُحصيها العادّون ، أو يبلغُ عِلمها الحافظون ))(1) . وربّنا سبحانه وتعالى قال وهو أصدق القائلين : ( إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا )(2) ، فكيف يشكر ما لا يُحصى .
فالله سبحانه لا يُعرَف بالكيف ، ولا بالماهية الحقيقيّة ، ولا يعلم سرّه إلاّ هو ، فعلم ذلك لم يخرج منه إلى أحد من خلقه ؛ لأنّه لا يُحتمل ، ويتعذَّر على الإنسان الإحاطة أو المعرفة بالله تعالى ؛ ولذا جاء في الحديث الشريف : (( تفكّروا في خلقِ الله ، ولا تتفكّروا في ذات الله فتضلّوا )) .
كما يقول المولى أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام) : (( يا مولاي ، أنتَ الذي أنعمتَ ، أنتَ الذي أحسنتَ ، أنتَ الذي أجملتَ ، أنتَ الذي أفضلتَ ، أنت الذي مننتَ ، أنتَ الذي أكملتَ ، أنتَ الذي رزقتَ ، أنتَ الذي أعطيتَ ، أنتَ الذي أغنيتَ ، أنتَ الذي أقنيتَ ، أنتَ الذي آويتَ ، أنتَ الذي كفيتَ ، أنتَ الذي هديتَ ، أنتَ الذي عصمتَ ، أنتَ الذي سترتَ ، أنتَ الذي غفرتَ ، أنتَ الذي أقلتَ ، أنتَ الذي مكّنتَ ، أنتَ الذي أعززتَ ، أنتَ الذي أعنتَ ، أنتَ
الذي عضدتَ ، أنتَ الذي أيّدتَ ، أنتَ الذي نصرتَ ، أنتَ الذي شفيتَ ، أنتَ الذي عافيتَ ، أنتَ الذي أكرمتَ ، تبارَكتَ ربِّي وتَعَاَليتَ فلك الحمدُ دائماً ، ولك الشُّكر واصباً أبداً ))
3 ـ معرفة النفس والاعتراف بالذنب :
إنّ المعرفة الإنسانيّة عامّة وشاملة مهما كانت واسعة أو عميقة ، إلاّ الأولياء الكمّل من عباد الله المخلصين ، كمحمد وآله الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين) ، فإنَّ علمهم لَدُنّيٌّ بتعليم المولى لهم كلّ العلوم التي تحتاجها البشرية ، ولم يَخْفَ عنهم إلاّ علم السّاعة كما في الروايات . أمّا الإنسان العادي فإنّ معرفته بنفسه يجب أن تكون أفضل المعارف لديه ، وربّنا سبحانه وتعالى يقول : ( بَلِ الإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ )(1)
. إنّ أخبر الناس وأعلمهم بأنفسهم هم المؤمنون الذين أنار الله بصائرهم فكانوا على يقين من أمورهم كلّها ، وتراهم ينظرون بنور الله ، ويهتدون بآياته وكتابه الكريم ، ولكنّ الإمام الحسين (عليه السّلام) يعلّمنا كيف ندعو ونعترف بالتقصير ؛ لأنّه لا أحد يعبد الله حقّ عبادته مهما جاهد فيه ؛ لذلك ــــــــــــــــــــ
يقول (عليه السّلام) في دعاء عرفة أيضاً : (( أنا يا إلهي المعترِفُ بِذُنوبي فاغفرها لي ، أنا الذي أخطأتُ ، أنا الذي هممتُ ، أنا الذي جَهِلتُ ، أنا الذي غفلتُ ، أنا الذي سَهوتُ ، أنا الذي اعْتمدتُ ، أنا الذي تعمَّدتُ ، أنا الذي وَعَدتُ ، أنا الذي أخلفتُ ، أنا الذي نَكثتُ ، أنا الذي أقررتُ ، أنا الذي أعترفُ بنعمتك عندي وأبوء بذنوبي فاغفْر لي ، يا مَنْ لا تضرُّهُ ذُنوبُ عباده وهوَ الغنيُّ عَنْ طاعَتِهمْ ، والموفِّقُ مَنْ عمَل منهم صالحاً بمعونَتهِ ورحمتهِ ، فلك الحمد إلهي وسيدي )) . والاعتراف بالذنب فضيلة ، والاعتراف بالتقصير يجبره ، والاعتراف بالخطأ اعتذار ، وعليك أن تعترف بذنبك أمام سيدك وتطلب منه الغفران ، وتقف بين يديه لتقرّ على نفسك بكلّ ما عملت ، وتطلب منه العفو عنك وإخلاءك من التبعات . (( إلهي ، أنا الفقيرُ في غناي ، فكيف لا أكونُ فقيراً في فقري . إلهي ،
أنا الجاهلُ في علمي فكيف لا أكونُ جهولاً في جهلي . إلهي ، إنَّ اختلافَ تدبيركَ وسُرعةَ طواء مقاديرك منعا عبادكَ العارفين بك عن السُّكون إلى عطاء واليأس منك في بلاءٍ . إلهي ، منّي ما يليقُ بلؤمي ، ومنكَ ما يليقُ بكرمكَ . إلهي ، وصفتَ نفسكَ باللُّطفِ والرّأفةِ لي قبلَ وجود ضعفي ، أفتمنعني منهما بعد وجود ضعفي ؟! إلهي ، إنْ ظهرتِ المحاسنُ منّي فبفضلكَ ولك المنَّةُ عليَّ ، وإنْ ظهرتِ المساوي منَّي فبعدلك ، ولكَ الحُجّةُ عليَّ )) . 4 ـ لطائف ومعارف : إنّ العرفان هو لطائف نورانيّة تُقذف في القلوب المؤمنة ، فتلوح إشارات غامضة ، وتنطلق كلمات مبهمة لا يمكن شرحها أو تفسيرها ، أو ربما يصعب فهمها على غير أصحاب القلوب الرقيقة ، والعقول العميقة ، والأفكار الدقيقة . ومن هذه اللفتات الرفيقة في دعاء الإمام الحسين (عليه السّلام) الذي نحن في رحابه قوله (عليه السّلام) : (( إلهي ، هذا ذُلّي ظاهرٌ بينَ يديكَ ، وهذا حالي لا يخفى عليكَ ، منكَ أطلُبُ الوصولَ إليك ، وبكَ أستدلُّ عليك ، فاهْدني بنوركَ إليكَ ، وأقمني بصدق العبوديَّة بين يديك . إلهي ، عَلَّمني من علمك المخزون ، وصُنّي بستركَ المصون . إلهي ، حقّقني بحقائق أهل القُربِ واسلُك بي مسلك أهلِ الجّذب . إلهي ، أغنني بتدبيرك عنْ تدبيري ، وباختياركَ عن اختياري ، وأوقفني على مراكز اضطراري . إلهي ، أخرجني من ذُلِّ نفسي ، وطهِّرني من شكّي وشركي قبلَ حلول رمسي .
*******************************************
***********************************
*******************
اللّهم صل على محمّد وال محمّد
نعود والعود مبارك ميمون موعدُ بالخيرات والعطايا والهبات
كيف لا ونحن في عرفة
يوم من عظيم ايام الله جل وعلا موسومٌ بالتوبة والعودة والدعاء والمغفرة
فنسالكم الدعاء وكونوا معنا ...
كرار الغاضري
مشرف قسم مركز الكفيل للانتاج الفني
أعمال يوم عرفة من بين الحرمين الشريفين
11-08-2019, 03:11 PM
تعليق