[1]
وبرز أبو الفضل العباس (عليه السلام) على مسرح التاريخ الإسلامي كأعظم قائد فذّ لم تعرف له الإنسانية نظيراً في بطولاته النادرة بل ولا في سائر مُثله الأخرى التي استوعبت ـ بفخر ـ جميع لغات الأرض.
لقد أبدى أبو الفضل يوم الطف من الصمود الهائل، والارادة الصلبة ما يفوق الوصف، فكان برباطة جأشه، وقوّة عزيمته جيشاً لا يقهر فقد أرعب عسكر ابن زياد، وهزمهم نفسيّاً، كما هزمهم في ميادين الحرب.
ان بطولات أبي الفضل كانت ولا تزال حديث الناس في مختلف العصور، فلم يشاهدوا رجلاً واحداً مثقلاً بالهموم والنكبات يحمل على جيش مكثّف مدعّم بجميع آلات الحرب قد ضمّ عشرات الآلاف من المشاة وغيرهم فيلحق بهم أفدح الخسائر من معداتهم وجنودهم، ويقول المؤرخون عن بسالته ـ يوم الطف ـ إنه كلما حمل على كتيبة تفرّ منهزمة من بين يديه يسحق بعضها بعضاً قد خيّم عليها الموت، واستولى عليها الفزع والذعر قد خلعت منها الأفئدة والقلوب، ولم تغن عنها كثرتها شيئاً.
انّ شجاعة أبي الفضل وسائر مواهبه ومزاياه مما تدعو إلى الاعتزاز والفخر ليس له وللمسلمين فحسب، وإنما لكل إنسان يدين لإنسانيته، ويخضع لقيمها الكريمة.
[2]
وبالإضافة إلى ما يتمتّع به أبو الفضل العباس (عليه السلام) من البطولات الرائعة فانّه كان مثالاً للصفات الشريفة، والنزعات العظيمة، فقد تجسّدت فيه الشهامة والنبل والوفاء والمواساة، فقد واسى أخاه أبا الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) في أيام محنته الكبرى، ففداه بنفسه ووقاه بمهجته، ومن المقطوع به أن تلك المواساة لا يقدر عليها إلاّ من امتحن الله قلبه للإيمان، وزاده هدى.
[3]
ومثَّل أبو الفضل العباس (عليه السلام) في سلوكه مع أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) حقيقة الأخوّة الإسلامية الصادقة، وأبرز جميع قيمها ومثلها، فلم يبق لون من ألوان الأدب، والبرّ والإحسان إلاّ قدّمه له، وكان من أروع ما قام به في ميادين المواساة له، انه حينما استولى على الماء يوم الطفّ تناول منه غرفة ليشرب، وكان قلبه الزاكي كصالية الغضا من شدّة الظمأ، فتذكّر في تلك اللحظات الرهيبة عطش أخيه الإمام الحسين وعطش الصبية من أهل البيت:، فدفعه شرف النفس، وسموّ الذات إلى رمي الماء من يده، ومواساتهم في هذه المحنة الحازبة، تصفّحوا في تاريخ الأمم والشعوب فهل تجدون مثل هذه الأخوّة الصادقة؟!! انظروا في سجلاّت نبلاء الدنيا فهل ترون مثل هذا النبل، ومثل هذا الإيثار؟!
الله أكبر أي رحمة مثل هذه الرحمة، وأيّة مودّة مثل هذه المودّة !!
إن الإنسانية بجميع قيمها ومثلها لتنحني إجلالاً وخضوعاً أمام أبي الفضل على ما أبداه من عظيم النبل لأخيه الإمام الحسين أبي الأحرار وسيّد الشهداء (عليه السلام).
[4]
والشيء الذي يدعو إلى الاعتزاز بتضحية أبي الفضل ونصرته لأخيه الإمام الحسين، أنّها لم تكن بدافع الأخوة والرحم الماسة وغير ذلك من الاعتبارت السائدة بين الناس، وانّما كانت بدافع الإيمان الخالص لله، ذلك الإيمان الذي تفاعل مع عواطف أبي الفضل، وصار عنصراً من عناصره، ومقوّماً من مقوّماته، وقد أدلى بذلك في رجزه حينما قطعت يمينه التي كانت تفيض برّاً وعطاءً للناس، قائلاً:
والله إن قطعتم يميني
إنّي أحامي أبداً عن ديني
وعن إمام صادق اليقين
ان الرجز في تلك العصور كان يمثّل الأهداف والمبادئ والقيم التي من أجلها يقاتل الشخص، ويستشهد في سبيلها، ورجز سيّدنا العباس (عليه السلام) صريح واضح في أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن الدين، ودفاعاً عن المبادئ الإسلامية الأصيلة التي تعرضت إلى الخطر أيام الحكم الأموي الأسود، كما أنّه انّما يقاتل دفاعاً عن إمام المسلمين سبط رسول الله وريحانته الإمام الحسين المدافع الأوّل عن كرامة الإسلام، فهذه هي العوامل التي دفعته إلى التضحية، وليس هناك أي دافع آخر وهذا هو السرّ في جلال تضحيته، وخلودها عبر القرون والأجيال.
[5]
لقد استشهد أبو الفضل العباس من أجل المبادئ العليا التي رفع شعارها أبو الأحرار أخوه الإمام الحسين (عليه السلام)، والتي كان من أهمّها أن يقيم في هذا الشرق حكم القرآن، وينشر العدل بين الناس ويوزّع عليهم خيرات الأرض، فليست هي لقوم دون آخرين.
لقد استشهد أبو الفضل من أجل أن يعيد للإنسان المسلم حرّيته وكرامته، وينشر بين الناس رحمة الإسلام، ونعمته الكبرى الهادفة لاستئصال الظلم والجور، وبناء مجتمع لا ظلّ فيه لأي لون من ألوان الفزع، والخوف.
لقد حمل أبو الفضل مشعل الحرية والكرامة، وقاد قوافل الشهداء إلى ساحات الشرف، وميادين العزّة، والنصر للشعوب الإسلامية التي كانت ترزح تحت وطأة الظلم والجور.
لقد انطلق أبو الفضل إلى ميادين الجهاد من أجل أن ترتفع كلمة الله تعالى عالية في الأرض، تلك الكلمة التي هي منهج كامل للحياة الكريمة بين الناس.
[6]
وفجّر الإمام أبو الأحرار ثورته الكبرى التي أوضح الله بها الكتاب وجعلها عبرة لأولي الألباب، فدكّ بها حصون الظلم، وقلاع الجور.
ولم يفجّر الإمام الحسين (عليه السلام) ثورته الرائدة العملاقة أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً، ولا مفسداً ـ حسب ما يقول ـ وإنّما أراد تغيير الواقع المرير الذي تعيشه الأمة من جرّاء الحكم الأموي المنحرف عن جميع الأعراف والقوانين، ذلك النظام الذي أحال حياة الناس إلى جحيم لا يطاق، فقد عجّت البلاد الإسلامية بجميع صنوف الجور والإرهاب، وكان من أعظمها محنة وأشدّها بلاءً البلاد الخاضعة لحكم زياد بن أبيه، والي معاوية على العراق، وأخيه اللاشرعي، الذي أجّج نار الفتنة، وحكم بين الناس بغير ما أنزل الله، فأخذ البريء بالسقيم، والمقبل بالمدبر، وقتل على الظنّة والتهمة، كما أعلن ذلك، وطبّقه بالفعل على الحياة العامة بين الناس.
[7]
وأن سبط الرسول (صلى الله عليه وآله)، وأمل الإسلام، والمسؤول الأوّل عن رعاية المسلمين، وصيانة حياتهم والواقع الاجتماعي الذي تعيشه الأمة، والذي ينذر بخطر عظيم على حياتها العقائدية، والفكرية والاجتماعية، فقد تحكّم في مصيرها جبابرة الأمويين، وطغاة الرأسمالية القرشية، التي حملت معول الهدم على جميع ما أسّسه الإسلام من مجد أصيل وخلق رفيع للأمة، بالإضافة إلى أنّها أخذت تستنزف الموارد الاقتصادية في العالم الإسلامي، وتنفقها على شهواتها، ورغباتها الخاصة، فهبّ أبو الأحرار لإنقاذ المسلمين، وإعادة الحياة الكريمة لهم، فما أعظم عائدته على الإسلام، وما أكثر ألطافه وأياديه على المسلمين.
[8]
ان ملحمة كربلاء من أهم الأحداث العالمية، بل ومن أهمّ ما حققته البشرية من إنجازات رائعة في ميادين الكفاح المسلّح ضدّ الظلم والطغيان، فقد غيّرت مجرى تاريخ الشعوب الإسلامية، وفتحت لها آفاقاً مشرقة للتمرّد على الظلم والطغيان.
لقد ألهبت هذه الملحمة الخالدة عواطف الأحرار، ودفعتهم إلى النضال المسلّح في سبيل تحرير المجتمع من نير العبودية والذلّ، وإنقاذه من الحكم اللاشرعي.
[9]
لقد انتصر سيّد الشهداء في ثورته الخالدة، وانتصرت أهدافه ومبادئه العظيمة، وظلّ مثلاً خالداً للكفاح المقدّس يطارد الظالمين والطغاة في كل عصر وزمان، ويمدّ الثوّار بروح التضحية والفداء.
ان من الانتصارات الرائعة التي حقّقها أبي الضيم في ثورته أنه جرّد الحكم الأموي من الشرعية، وأنّه لا يمثّل الإسلام، ولا المسلمين بأي حال من الأحوال، وإنّما هو حكم ديكتاتوري قائم على النطع والسيف لا على رضى الأمة واختيارها.
لقد وضع أبو الأحرار العبوات الناسفة في أروقة الحكم الأموي ففجّرتها، ونسفت معالم زهوهم وفجورهم وطغيانهم، وظلّوا مثلاً أسوداً لكل حكم منحرف عن سنن الحق والعدل.
[10]
لقد أيقظت ثورة أبي الأحرار الشعوب الإسلامية من تخديرها وسباتها، فانطلقت كالمارد الجبّار في ثورات متلاحقة، وهي ترفع شعار التحرير، وشعار الاستقلال، وشعار الكرامة من أجل التخلّص من ذلك الحكم الأسود.
لقد قامت الشعوب الإسلامية في ثورات متلاحقة كانت امتداداً لثورة الحسين (عليه السلام)، حتى أطاحت بالحكم الأموي، وأزالته من دنيا الوجود.
[11]
ومن الجدير بالذكر أن كارثة كربلاء، وما لحق بالإمام الحسين (عليه السلام) من التنكيل، والاعتداء الصارخ، لم يأتِ ذلك عفواً، وإنّما كان من النتائج المباشرة للانحرافات، والسلوك في المنعطفات السياسية من جانب الحكام والمسؤولين الذين كانوا ينظرون إلى السلطة بأنّها مغنم، ووسيلة للظفر بالثراء العريض، ولم يعوا أن الإسلام اعتبر السلطة أداة لخدمة المجتمع، وتطوير حياته الفكرية والاقتصادية، وانّها مسؤولة أمام الله عن اقتصاد الأمة فيجب عليها الاحتياط فيه كأشدّ ما يكون الاحتياط فليس لرئيس الدولة، ولا لغيره من أجهزة الحكم أن يصطفوا لأنفسهم وذويهم أي شيء من أموال الدولة.
وكان على رأس الحكّام المنحرفين ملوك بني أمية الذين اتخذوا مال الله دولاً وعباد الله خولاً، وبالإضافة إلى ما اقترفوه من ظلم الأمة والاعتداء على كرامتها، فانّهم عمدوا إلى ظلم العلويين، والإجهاز على شيعتهم، وقد شاهد أبو الفضل (عليه السلام) المحن الشاقة والعسيرة التي حلّت بأهل بيته ومحبّيهم، ومما لا ريب فيه انّها تركت في أعماق نفسه أقسى ألوان المحن، والآلام.
[12]
أمّا دور سيّدنا العباس (عليه السلام) في ملحمة كربلاء فانّه يأتي في الأهمية بعد أخيه أبي الأحرار الإمام الحسين (عليه السلام) صانع هذه الملحمة الخالدة في دنيا الحقّ والعدل، وقد فاق جميع أصحاب الإمام الحسين (عليه السلام)، وأهل بيته المكرمين، وذلك بما قدّمه من عظيم الخدمات لأخيه، بالإضافة إلى مواقفه البطولية الرائعة، وصموده الهائل أمام معسكر ابن زياد، وقد أبدى من البسالة ما يذهل الأفكار ويحيّر الألباب، وكان يشيع في نفوس أصحاب أخيه وأهل بيته العزم والتصميم على التضحية والجهاد بين يديه، فقد استهان بالموت وسخر من الحياة، وقد انطبعت هذه الظاهرة في نفوسهم فاعتنقوا الشهادة، وانطلقوا إلى ميادين الجهاد ليرفعوا كلمة الله في الأرض.
[13]
وكان العبّاس (عليه السلام) أيّام المحنة الكبرى التي حلّت بأخيه ملازماً له لم يفارقه، وقدّم له جميع ألوان البرّ والإحسان، فكان يقيه بنفسه ويفيديه بمهجته، فهو صاحب لوائه، ومدير شؤونه، والمتصدّي لخدماته، ويقول الرواة: انّه قد استوعب حبّه والإخلاص له قلب أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) حتى فداه بنفسه، وكان عليه ضيفاً، فلم يسمح له بالحرب حتى بعد مقتل أصحابه وأهل بيته، لأنّه كان يشعر بالقوة والمنعة، ما دام حيّاً إلى جانبه، ولما استشهد العباس شعر الإمام الحسين بالوحدة والغربة والضياع بعده وفقد كلّ أمل له في الحياة، وراح يبكي عليه أمرّ البكاء، ويندبه بذوب روحه، وسارع إلى ساحة الحرب ليلتقي به في جنان الخلد.
سلام الله عليك يا أبا الفضل ففي حياتك وشهادتك ملتقى أمين لجميع القيم الإنسانية، وحسبك أنّك وحدك كنت انموذجاً رائعاً لشهداء الطفّ الذين احتلّوا قمّة الشرف والمجد في دنيا العرب والإسلام.
* مقتبس من مقدمة كتاب (العباس بن علي (ع) رائد الكرامة والفداء في الإسلام)، لمؤلفه الشيخ باقر شريف القرشي
تعليق