بسم الله الرحمن الرحيم
قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم لأبي ذر رحمه الله:
يا أبا ذر، الدرجة في الجنة فوق الدرجة كما بين السماء والأرض، وانّ العبد ليرفع بصره فيلمع له نور يكاد يخطف بصره فيفزع لذلك فيقول: ما هذا ؟ فيقال: هذا نور أخيك، فيقول: أخي فلان كنّا نعمل جميعاً في الدنيا وقد فضّل عليّ هكذا، فيقال له: انّه كان أفضل منك عملاً، ثم يجعل في قلبه الرضا حتى يرضى.
يا أبا ذر الدنيا سجن المؤمن وجنّه الكافر، وما أصبح فيها مؤمن إلا حزيناً، فكيف لا يحزن المؤمن وقد أوعده الله جلّ ثناؤه انّه وارد جهنّم ولم يعده انّه صادر عنها، وليلقينّ أمراضا ومصيبات وأموراً تغيظه، وليظلمنّ فلا ينتصر، يبتغي ثواباً من الله تعالى فلا يزال حزيناً حتى يفارقها، فإذا فارقها أفضى إلى الراحة والكرامة.
يا أبا ذر ما عبد الله عزّ وجلّ على مثل طول الحزن.
اعلم إنّ الله سبحانه وتعالى لم يخلق الدنيا لراحة المؤمن بل تصل إليهم الأحزان والبلايا بحسب مراتبهم وإيمانهم، ويكفي لتحقيق هذا الأمر النظر في أحوال الأنبياء والأوصياء، ومحن رسول الله وأهل بيته صلوات الله عليهم.
وقد ثبت بحسب التجربة أن ما من شيء أكثر إصلاحاً للنفس من البلايا والمصائب الموجبين في الزهد من الدنيا والتوجه نحو الله تعالى، كما قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم : انّ عظيم البلاء يكافأ به عظيم الجزاء، فإذا أحبّ الله عبداً ابتلاه بعظيم البلاء، فمن رضي فله عند الله الرضا، ومن سخط البلاء فله عند الله السخط.
وسأل عبد الله بن بكير أبا عبد الله عليه السّلام أيبتلي المؤمن بالجذام والبرص وأشباه هذا؟ قال: فقال: وهل كُتب البلاء إلاّ على المؤمن.
وقال عليه السّلام في حديث آخر: أخذ الله ميثاق المؤمن على أن لا تصدّق مقالته، ولا ينتصف من عدوّه، وما من مؤمن يشفي نفسه إلاّ بفضيحتها، لأنّ كلّ مؤمن ملجم.
وقال عليه السّلام في حديث آخر: ... لا ينفك المؤمن من خصال أربع : من جار يؤذيه، وشيطان يغويه، ومنافق يقفو أثره، ومؤمن يحسده، ثم قال : ... اما انّه أشدّهم عليه...انّه يقول فيه القول فيصدّق عليه.
وروي بسند معتبر عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم انّه قال: قال الله عزّ وجلّ : لولا انّي استحيي من عبدي المؤمن ما تركت عليه خرقة يتوارى بها، وإذا أكملت له الإيمان ابتليته بضعف في قوّته وقلّة في رزقه، فإن هو جزع أعدت عليه، وان صبر باهيت به ملائكتي....
وقال أبو عبد الله عليه السّلام: انّ في كتاب عليّ عليه السلام انّ أشدّ الناس بلاء النبيّون، ثمّ الوصيّون، ثمّ الأمثل فالأمثل، وإنّما يبتلي المؤمن على قدر أعماله الحسنة، فمن صحّ دينه وحسن عمله اشتدّ بلاؤه.
وذلك إنّ الله عزّ وجلّ لم يجعل الدنيا ثواباً لمؤمن ولا عقوبة لكافر، ومن سخف دينه وضعف عمله قلّ بلاؤه، وانّ البلاء أسرع إلى المؤمن التقي من المطر إلى قرار الأرض.
وروي بسند صحيح عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام انّه قال: انّ ملكين هبطا من السماء فالتقيا في الهواء، فقال أحدهما لصاحبه : فيما هبطت ؟ قال: بعثني الله عزّ وجلّ إلى بحر ايل أحشر سمكة إلى جبار من الجبابرة اشتهى عليه سمكة في ذلك البحر، فأمرني أن أحشر إلى الصيّاد سمك البحر، حتى يأخذها له ليبلغ الله عزّ وجلّ غاية مناه في كفره، ففيما بعثت أنت؟
قال: بعثني الله عزّ وجلّ في أعجب من الذي بعثك فيه، بعثني إلى عبده المؤمن الصائم القائم، المعروف دعاؤه وصوته في السماء، لاُكفىء قدره التي طبخها لإفطاره، ليبلغ الله في المؤمن الغاية في اختبار إيمانه.
وقال أبو عبد الله عليه السّلام: إنّ الله عزّ وجلّ جعل وليّه في الدنيا غرضا لعدوّه.
وروي عن سماعة انّه قال: كنت عند أبي عبد الله عليه السّلام فشكا إليه رجل الحاجة، فقال له: اصبر فإنّ الله سيجعل لك فرجاً.
قال: ثم سكت ساعة، ثم أقبل على الرجل فقال: أخبرني عن سجن الكوفة كيف هو؟ فقال: أصلحك الله ضيّق، منتن وأهله بأسوأ حال، قال: فإنّما أنت في السجن فتريد أن تكون فيه في سعة، أما علمت أنّ الدنيا سجن المؤمن.
وقال عليه السّلام في حديث آخر: إنّ لله عزّ وجلّ عباداً في الأرض من خالص عباده ما ينزل من السماء تحفة إلى الأرض إلاّ صرفها عنهم إلى غيرهم، ولا بليّة إلاّ صرفها إليهم.
وقال عليه السّلام ـ وعنده سدير ـ : إنّ الله إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتاً، وأنّا وإيّاكم يا سدير لنصبح به ونمسي.
وقال أبو جعفر عليه السّلام: إنّ الله تبارك وتعالى إذا أحبّ عبداً غتّه بالبلاء غتّاً وثجّه بالبلاء ثجّاً، فإذا دعاه قال: لبيك عبدي لئن عجلت لك ما سألت إنّي على ذلك لقادر، ولئن ادّخرت لك فما ادخرت لك فهو خير لك.
وقال أبو عبد الله عليه السّلام: المؤمن لا يمضي عليه أربعون ليلة إلا عرض له أمر يحزنه يُذكّر به.
وقال عليه السّلام في حديث آخر: دُعي النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إلى طعام، فلمّا دخل منزل الرجل نظر إلى دجاجة فوق حائط قد باضت، فتقع البيضة على وتد في حائط فتثبت عليه ولم تسقط ولم تنكسر، فتعجّب النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم منها، فقال له الرجل: أعجبت من هذه البيضة فوالذي بعثك بالحق ما رزئت شيئاً قطّ.
قال: فنهض رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ولم يأكل من طعامه شيئاً، وقال: من لم يُرزأ فما لله فيه من حاجة.
ومع قطع النظر عن هذه البلايا والمحن لو كان المؤمن في الرفاه والنعمة فانّ الدنيا سجنه لأنّه بالنسبة إلى نعم الآخرة والمنازل التي أعدّها الله له في الآخرة لو اُعطي جميع الدنيا لكانت سجناً بالنسبة له، وانّ الكافر لو ابتلى في الدنيا بأنواع البلايا لكانت الدنيا جنّه له بالنسبة إلى عذاب الآخرة.
كما روي إنّ الإمام الحسن بن عليّ عليه السلام خرج في جمع من أصحابه وقرابته وعليه حلّة فاخرة وسلك طريقاً فلقيه شيخ يهودي يحمل الحطب، فقال له: يا ابن رسول الله جدّك يقول: الدنيا سجن المؤمن وجنّة الكافر، وأنت مؤمن وأنا كافر، فما أرى الدنيا إلاّ جنّة تتنعّم بها وتستلذّ بها، وما أراها إلا سجناً لي قد أهلكني ضرّها وأتلفني فقرها.
فقال له الإمام : يا شيخ لو نظرت إلى ما اعدّ الله لي في الآخرة مما لا عين رأت ولا اُذن سمعت لعلمت إنّي قبل انتقالي إليه في هذه الدنيا في سجن ضنك، ولو نظرت إلى ما اعدّ الله لك في الدار الآخرة من سعير نار الجحيم، ونكال العذاب المقيم لرأيت انّك قبل مصيرك إليه الآن في جنة واسعة، ونعمة جامعة.
وأما ما قاله صلّى الله عليه وآله وسلّم من إنّ الله تعالى أوعد المؤمن انّه وارد جهنّم، فهو يشير إلى قوله تعالى : (وان منكم الا واردها كان على ربّك حتماً مقضيّاً * ثمّ ننجّي الّذين اتّقوا ونذر الظّالمين فيها جثياً).
ووقع الخلاف في إنّ الورود بمعنى الدخول أو الحضور عند جهنّم أو العبور من فوقها، فاعتقد البعض إنّ الورود بمعنى الدخول سواء فيه المؤمن والكافر، ولكنّها تكون على المؤمن برداً وسلاماً ولا تضرّه، كما روى المفسرون عن جابر بن عبد الله انّ رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: الورود الدخول، لا يبقى برّ ولا فاجر حتى يدخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم...ثم ينجّي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثيّاً.
وقال البعض إنّ الورود هو الحضور عند جهنّم: وورد في هذا المضمون حديث بسند معتبر عن أبي عبد الله عليه السّلام انّه قال: أما تسمع الرجل يقول: وردنا بني فلان ، فهو الورود ولم يدخله.
وقال البعض انّ الورود هو العبور على الصراط فوق جهنّم، فيكون معنى قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم : «ولم يعده انّه صادر عنها» انّ الآية وعدت المتقين بالنجاة ولا يمكن أن يجزم كلّ مؤمن انّه من المتقين، وفسّر أكثر المفسّرين المتقي بالمتقي عن الشرك والكفر والله أعلم.
والحمد لله رب العالمين
الكافي 2 : 253
الكافي 2 : 258
الكافي 2 : 249
الخصال : 229
أمالي الطوسي : 305
الكافي 2 : 259
البحار 67 : 229
الكافي 2 : 250
الكافي 2 : 253
الكافي 2 : 254
الكافي 2 : 256
سورة مريم : 71 و72
الكافي 2 : 258
الكافي 2 : 249
الخصال : 229
أمالي الطوسي : 305
الكافي 2 : 259
البحار 67 : 229
الكافي 2 : 250
الكافي 2 : 253
الكافي 2 : 254
الكافي 2 : 256
سورة مريم : 71 و72
تعليق