إنَّ كسرَ ضلعِ مولاتِنا فاطمةَ الزّهراء (عليها السلام) تعدُّ منَ الحوادثِ المؤلمةِ والمريرة، التي يتأسّفُ لها كلُّ مُسلمٍ يحبُّ أهلَ بيتِ نبيّه، أو يحملُ ذرّةً منَ الإنسانيّةِ في باطنِه.
وقد رويَت حادثةُ الكسرِ في الكثيرِ منَ المصادرِ الشيعيّة، ورواها بعضُ عُلماءِ السنّةِ أيضاً.
وهذه الحادثةُ منَ الحوادثِ المشهورةِ المعروفة، والمُستفيضةِ على مُستوى الروايةِ عندَ الشيعة، ولم يحصُل فيها خلافٌ بينَ العلماءِ والمُحقّقينَ وأهلِ التقوى والورعِ مِنهم، نعَم لعلّكَ تسمعُ في الأعصارِ المُتأخّرةِ وسوسةَ بعضِ مُدّعي العلمِ والثقافة، وليسَ ذلكَ إلّا إرضاءً للمُخالفين، ومحاولةً للتقرّبِ مِنهم، وذلكَ بالتنازلِ عن بعضِ الحقائقِ التاريخيّةِ والثوابتِ المذهبيّة، واللهُ يقول: { وَلَن تَرضى عَنكَ اليَهودُ وَلَا النَّصارى حَتّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم قُل إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعتَ أَهواءَهُم بَعدَ الَّذي جاءَكَ مِنَ العِلمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلا نَصيرٍ } [البقرةُ: ١٢٠]
ونحنُ مأمورونَ بإحياءِ ظُلامتِهم (عليهم السلام) وإبرازِها وتذكيرِ الأجيالِ بها، وتثقيفِ شبابِنا عليها، وتلقينِ أطفالِنا بها، كلُّ ذلكَ بالطريقةِ المُناسبةِ في كلِّ زمانٍ ومكان، لا أن نطمسَها ونُنكرَها لأجلِ الوحدةِ والإتّحاد، أو لأغراضٍ أخرى، فإنكارُها جريمةٌ أخرى بحقِّ أهلِ البيت (عليهم السلام) لا تقلُّ عَن جريمةِ ظُلمِهم. فالجريمةُ الأولى هيَ ظلمُهم، والجريمةُ الأخرى إنكارُ مُفردةٍ مِن مُفرداتِ مظلوميّتِهم.
فتلاوةُ المظلوميّةِ وتذاكرُها سيرةٌ مارسَها العقلاءُ في حياتِهم، ومشَت عليها الأممُ والحضارات، وقد جرى عليها القرآنُ الكريم، فإنَّ اللهَ تعالى قد سردَ مقتلَ وظُلامةَ بعضِ أنبيائهِ وحُججِه وخلفائهِ في القرآنِ الكريم، كسردِ ظلامةِ هابيل: { وَاتلُ عَلَيهِم نَبَأَ ابنَي آَدَمَ بِالحَقِّ إِذ قَرَّبَا قُربَانًا فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَم يُتَقَبَّل مِنَ الآَخَرِ قَالَ لَأَقتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ، لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيكَ لِأَقتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ، إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثمِي وَإِثمِكَ فَتَكُونَ مِن أَصحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ، فَطَوَّعَت لَهُ نَفسُهُ قَتلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ } [المائدة: 27 – 30]
حيثُ نلاحظُ أنَّ اللهَ أمرَ نبيَّهُ بتلاوةِ وذكرِ قصّةِ هابيل وقابيل، وبيانِ مظلوميّةِ هابيل ومقتلِه، وجريمةِ فعلِ قابيل وإدانتِه، حيثُ إنّه ظلمَ أخاهُ وقتلَهُ، قالَ تعالى: { وَاتلُ }، والأمرُ للوجوبِ، معَ أنّه مضى آلافُ السّنين على قصّةِ هابيل وقابيل.
بل أشارَ تعالى إلى قصّةِ صالحٍ وثمود، وأنّهم كذّبوا صالحاً وعقروا الناقةَ، فأنزلَ اللهُ عليهم العذاب، قالَ تعالى: { كَذَّبَت ثَمُودُ بِطَغوَاهَا، إِذِ انبَعَثَ أَشقَاهَا، فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقيَاهَا، فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمدَمَ عَلَيهِم رَبُّهُم بِذَنبِهِم فَسَوَّاهَا، وَلَا يَخَافُ عُقبَاهَا } [الشمسُ: 11 - 15] وقالَ تعالى: { وَيَا قَومِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُم آَيَةً فَذَرُوهَا تَأكُل فِي أَرضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأخُذَكُم عَذَابٌ قَرِيبٌ، فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُم ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعدٌ غَيرُ مَكذُوبٍ } [هود: 64 - 65]
فاللهُ تعالى يتعرّضُ إلى مقتلِ الناقةِ التي جعلَها لهُم آيةً، فأنزلَ عليهم العذابَ لعقرهم إيّاها.
ومنَ المعلومِ أنَّ فاطمةَ الزّهراء وأهلَ البيت عليهم السلام، أفضلُ مِن هابيل وصالحٍ والناقة، بلا شك.
والغرضُ مِن ذكرِ قصصِ هؤلاءِ كما بيّنَه القرآنُ الكريم أنّه هدايةٌ ورحمةٌ للمؤمنين، قالَ تعالى: { لَقَد كَانَ فِي قَصَصِهِم عِبرَةٌ لِأُولِي الأَلبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفتَرَى وَلَكِن تَصدِيقَ الَّذِي بَينَ يَدَيهِ وَتَفصِيلَ كُلِّ شَيءٍ وَهُدًى وَرَحمَةً لِقَومٍ يُؤمِنُونَ } [يوسف: 111] حيثُ إنَّ تلاوةَ قصصِهم التي مِن جُملتِها مظالمُهم وما وقعَ عليهم، يعدُّ مِن طُرقِ الهدايةِ الإلهيّةِ للبشر، فهيَ عبرةٌ، ورحمةٌ، وهدايةٌ للمؤمنين، وعليهِ: فهيَ مانعةٌ مِنَ الضلالِ لهم، فإنّها تورثُ البصيرةَ والمعرفةَ بأولياءِ الله، وأعداءِ الله، فيتولّى وليَّه، ويتبرّأُ مِن عدوِّه.
وعليهِ: فالمآتمُ والمجالسُ التي يقيمُها الشيعةُ الإماميّة على الأئمّةِ الطاهرين تكونُ سبباً لمعرفةِ أولياءِ اللهِ وحُججِه، فنتولّاهُم ونزدادُ تمسُّكاً بهم وبطريقتِهم وعقيدتِهم وفقهِهم وأخلاقِهم، وتكونُ سبباً للتعرّفِ على أعداءِ الله، فنتبرّأُ مِنهم، ونبتعد عَن خطِّهم وسلوكِهم وطريقتِهم ومنهجِهم وعقيدتِهم وفقهِهم وأخلاقِهم، فهيَ سببٌ لبقاءِ الحقِّ وحياتِه.
والدّعوةُ إلى عدمِ ذكرِ الظلامةِ الفاطميّةِ لأجلِ الوحدةِ الإسلاميّة، يعدُّ لوناً مِن ألوانِ الضعفِ النفسي، والاهتزازِ العقائديّ، والانهزاميّةِ، والشعورِ بالنّقصِ والدونيّةِ أمامَ المُخالفينَ والأعداء، وهذهِ صِفةٌ خطيرةٌ في القائِد، فمَن جعلَ نفسَه في هذا المقامِ لابدَّ أن يكونَ قويّاً ثابِتاً، يطيرُ بجناحيّ الولايةِ والبراءة، وعدمُ التنازلِ عَن أيّ مُفردةٍ مِن مُفرداتِ المظلوميّة، معَ مُراعاةِ الحكمةِ والمُداراةِ في البيانِ والدّفاع، واختيارِ الزمانِ والمكانِ المُناسب، قالَ تعالى: { ادعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ } [النّحل: 125] فمنهجُ القرآنِ قائمٌ على بيانِ الحقائق، ولكن بالحكمةِ والموعظةِ الحسنةِ والجدالِ بالتي هيَ أحسن، وليسَ مِن منهجِه الإنكارُ لأجلِ التقرّبِ منَ الظالمينَ والمُنافقين.
وأمّا محاولةُ إنكارِ الظُّلامةِ الفاطميّةِ وتبرئةِ الظالمينَ والمُنافقينَ، بإنكارِ ضربِهم لها، وكسرِ ضلعِها، وإسقاطِ جنينِها، وصفعِ خدّها، وشهادتِها ومقتلِها، والقولِ بأنّها توفّيَت بشكلٍ طبيعيّ، ولم يكُن سببُ وفاتِها اعتداءُ الظالمينَ عليها، فهذهِ المقولةُ مِن أعظمِ الجرائمِ بحقِّ أهلِ البيت (عليهم السلام)، فهيَ دعوةٌ إلى طمسِ ظُلامةِ فاطمة الزهراء (عليها السلام)، الثابتةِ بالتواتر، الذي يفيدُ العلمَ بالصّدور، كالقرآنِ الكريم.
وإنكارُ ظُلامتِها على وزنِ إنكارِ ظُلامةِ هابيل، وناقةِ الله، وبقيّةِ الأنبياءِ والحُججِ الإلهيّينَ الذين تعرّضَ القرآنُ الكريم لبيانِ وتلاوةِ ظُلامتِهم، وجاءَت الكثيرُ مِن تفاصيلِها في كلامِ النبيّ وأهلِ بيتِه الطاهرين.
فكُن على حذرٍ أيُّها الموالي، فالذي ينكرُ كسرَ الضِّلع، ينكرُ إسقاطَ المُحسن، ينكرُ ضربَها، ينكرُ شهادتَها ومقتلَها، ويقولُ بأنّها توفّيَت بشكلٍ طبيعيّ، لا بظُلمِ ظالمٍ!! بحُجّةِ أنَّ هذهِ الظّلامات غيرُ ثابتةٍ في كتبِ أبناءِ العامّةِ!! ونأخذُ بالمُشتركاتِ فقَط !!
ومنَ المعلومِ أنَّ الأخذَ بالمُشتركاتِ، وإلغاءَ الخصوصيّات، يعدُّ إلغاءً لهويّةِ المذهبِ، وإختراعاً لدينٍ جديد ! فإنَّ المذاهبَ بينَهم مُشتركاتٌ كثيرةٌ، ويختصُّ كلُّ مذهبٍ بخصوصيّاتٍ يتميّزُ بها عَن غيرِه، بل إنَّ تعدّدَ المذاهبِ قائمٌ على التباينِ بالمُختصّات.
والدعوةُ إلى إلغاءِ الخصوصيّاتِ والتمسّكِ بالمُشتركات، دعوةٌ إلى طمسِ هويّةِ كلِّ المذاهب، ومِن جُملتِها مذهبُ أهلِ البيت (عليهم السلام)، ومِن ثمَّ اختراع مذهبٍ جديد والتمسّك به !!
فكُن على حذرٍ مِنَ الصّيحاتِ التي نسمعُها هُنا وهُناك، فإنّها مبنيّةٌ على خلفيّاتٍ وأسسٍ خطيرةٍ تجرُّ الإنسانَ إلى التبرّي مِن مذهبِه والخروجِ مِنه بشكلٍ تدريجيّ.
وأمّا المصادرُ التي تعرّضَت لكسرِ ضلعِ الزهراءِ (عليها السلام) فهيَ كثيرةٌ وعديدةٌ، وهذهِ الحادثةُ منَ المُستفيضاتِ في كُتبِنا وعندَ عُلمائِنا.
مصادرُ ورواياتُ كسرِ ضلعِ الزّهراء (عليها السلام):
الروايةُ الأولى: روى الشيخُ الصّدوقُ عن عليٍّ بنِ أحمدَ بنِ موسى الدقّاق. والجوينيُّ الشافعيّ بسندِه عن الدقّاقِ أيضاً. وعمادُ الدينِ الطبريّ عن الشيخِ حسن، عن أبيهِ الشيخِ الطوسي، عن أبي مُحمّد ابنِ الفحّام، كلاهُما (الدقّاقُ وابنُ الفحّام) عن محمّدِ ابنِ أبي عبدِ الله الكوفي ، قالَ : حدّثنا موسى بنُ عمران النخعي ، عن عمّه الحُسينِ بنِ يزيد النوفلي ، عن الحسنِ بنِ عليٍّ بنِ أبي حمزة ، عن أبيهِ ، عن سعيدِ بنِ جبير ، عن ابنِ عبّاس ، قالَ : إنَّ رسولَ الله ( صلّى اللهُ عليهِ وآله ) كانَ جالِساً ذاتَ يومٍ إذ أقبلَ الحسنُ ( عليهِ السلام )، فلمّا رآهُ بكى ، ثمَّ قال : إليَّ يا بُني ، فما زالَ يُدنيهِ حتّى أجلسَهُ على فخذِه اليُمنى ، ثمَّ أقبلَ الحُسين ( عليهِ السلام ) ، فلمّا رآهُ بكى ، ثمَّ قالَ : إليَّ يا بُني ، فما زالَ يُدنيهِ حتّى أجلسَهُ على فخذِه اليُسرى ، ثمَّ أقبلَت فاطمةُ ( عليها السلام ) ، فلمّا رآها بكى ، ثمَّ قال : إليَّ يا بُنيّة ، فأجلسَها بينَ يديه ، ثمَّ أقبلَ أميرُ المؤمنينَ ( عليهِ السلام ) ، فلمّا رآهُ بكى ، ثمَّ قالَ : إليَّ يا أخي ، فما زالَ يُدنيهِ حتّى أجلسَه إلى جنبِه الأيمنَ ، فقالَ لهُ أصحابُه : يا رسولَ الله ، ما ترى واحداً مِن هؤلاءِ إلّا بكيَت ، أوَما فيهم مَن تُسرُّ برؤيتِه !
فقالَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): والذي بعثَني بالنبوّةِ ، واصطفاني على جميعِ البريّةِ ، إنّي وإيّاهُم لأكرمُ الخلقِ على اللهِ عزَّ وجل ، وما على وجهِ الأرضِ نسمةٌ أحبُّ إليَّ مِنهم .
أمّا عليٌّ بنُ أبي طالب فإنّه أخي ... (وذكرَ ظُلامتَهُ وما يجري عليهِ)
وأمّا ابنتي فاطمة ، فإنّها سيّدةُ نساءِ العالمينَ منَ الأوّلينَ والآخرين ، وهيَ بضعةٌ مِنّي ، وهوَ نورُ عيني ، وهيَ ثمرةُ فؤادي ، وهيَ روحي التي بينَ جَنبي ، وهيَ الحوراءُ الإنسيّة ، متى قامَت في محرابِها بينَ يدي ربّها جلَّ جلالهُ زهرَ نورُها لملائكةِ السّماءِ كما يزهرُ نورُ الكواكبِ لأهلِ الأرض ، ويقولُ اللهُ عزَّ وجل لملائكتِه : يا ملائكتي ، انظروا إلى أمَتي فاطمة سيّدةِ إمائي، قائمةً بينَ يدي ترتعدُ فرائصُها مِن خِيفتي ، وقد أقبلَت بقلبِها على عِبادتي ، أشهدُكم أنّي قد أمّنتُ شيعتَها منَ النار .
وإنّي لمّا رأيتُها ذكرتُ ما يُصنَعُ بها بعدي ، كأنّي بها وقد دخلَ الذلُّ بيتَها، وانتُهكَت حرمتُها ، وغُصبَت حقّها ، ومُنعَت إرثَها ، وكُسرَ جنبُها، وأسقطَت جنينَها ، وهيَ تُنادي : يا مُحمّداه ، فلا تجابُ ، وتستغيثُ فلا تُغاث ، فلا تزالُ بعدي محزونةً مكروبةً باكية ، تتذكّرُ انقطاعَ الوحي عن بيتِها مرّةً ، وتتذكّرُ فِراقي أخرى ، وتستوحشُ إذا جنّها الليلُ لفقدِ صوتي الذي كانَت تستمعُ إليه إذا تهجّدَت بالقرآن ، ثمَّ ترى نفسَها ذليلةً بعدَ أن كانَت في أيّامِ أبيها عزيزة ، فعندَ ذلكَ يؤنسُها اللهُ تعالى ذكرُه بالملائكةِ ، فنادَتها بما نادَت به مريمَ بنتَ عمران ، فتقولُ : يا فاطمة ( إنَّ اللهَ اصطفاكِ وطهّركِ واصطفاكِ على نساءِ العالمين ) ، يا فاطمة ( اقنُتي لربِّك واسجُدي واركَعي معَ الرّاكعين ). ثمَّ يبتدئُ بها الوجعُ فتمرضُ ، فيبعثُ اللهُ عزَّ وجل إليها مريمَ بنتِ عمران ، تمرّضُها وتؤنسُها في علّتِها ، فتقولُ عندَ ذلك : يا ربِّ ، إنّي قد سئمتُ الحياةَ ، وتبرّمتُ بأهلِ الدّنيا ، فألحِقني بأبي . فيلحقُها اللهُ عزَّ وجل بي ، فتكونُ أوّلَ مَن يلحقُني مِن أهلِ بيتي ، فتقدِمُ عليَّ محزونةً مكروبةً مغمومةً مغصوبةً مقتولةً ، فأقولُ عندَ ذلكَ : اللهمَّ العَن مَن ظلمَها ، وعاقِب مَن غصبَها ، وأذلَّ مَن أذلّها ، وخلِّد في نارِك مَن ضربَ جنبَها حتّى ألقَت ولدَها ، فتقولُ الملائكةُ عندَ ذلك : آمين .
وأمّا الحسنُ فإنّه ابني .. (وذكرَ ظُلامتَه وما يجري عليه)
وأمّا الحُسينُ فإنّه مِنّي ، وهوَ ابني وولدي ... (وذكرَ ظُلامتَه وما يجري عليه)
ثمَّ بكى رسولُ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وبكى مَن حولهُ ، وارتفعَت أصواتُهم بالضجيجِ ، ثمَّ قامَ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): وهوَ يقول : اللهمَّ إنّي أشكو إليكَ ما يلقى أهلُ بيتي بعدي ، ثمَّ دخلَ منزلَه. (الأماليّ للشيخِ الصّدوق، ص174، مجلس 24، رقم 2، بشارةُ المُصطفى لشيعةِ المُرتضى، للطبري، ص 305 رقم 6، فرائدُ السّمطين، للجوينيّ الشافعي: 2 / 34، ورواهُ شاذانُ ابنُ جبرئيل القُمّي في الفضائلِ، ص8، مُرسَلاً عن ابنِ عبّاس، والحِلّيُّ في المُحتضِر، ص 196، إرشادُ القلوبِ للديلمي: 2 / 295، بحارُ الأنوارِ، للعلّامةِ المجلسي: 43 / 172).
قالَ السيّدُ عبدُ الله شُبّر: وروى الصدوقُ في الأماليّ بإسنادٍ مُعتبَر عن ابنِ عبّاس، وذكرَ الرواية. (جلاءُ العيون: 1 / 186).
الروايةُ الثانية: قالَ سُليمُ بنُ قيس الهلالي: سمعتُ سلمانَ الفارسي فقالَ: - ونقلَ كلاماً طويلاً عنه إلى أن قال –
وقد كانَ قنفذُ لعنَه الله ضربَ فاطمةَ عليها السلام بالسّوطِ - حينَ حالَت بينَه وبينَ زوجِها وأرسلَ إليهِ عُمر: ( إن حالَت بينَك وبينَه فاطمةُ فاضرِبها ) - فألجأها قنفذُ لعنَه اللهُ إلى عضادةِ بابِ بيتِها ودفعَها، فكسرَ ضلعَها مِن جنبِها، فألقَت جنيناً مِن بطنِها، فلم تزَل صاحبةَ فراشٍ حتّى ماتَت صلّى اللهُ عليها مِن ذلكَ شهيدةً . (كتابُ سُليمِ بنِ قيس، تحقيقُ مُحمّد باقِر الأنصاري، ص 153).
الروايةُ الثالثة: روى سليمُ بنُ قيس عن ابنِ عبّاس أنَّ النبيَّ (ص) قالَ لعليٍّ (ع) في كلامٍ طويل :
ثمَّ أقبلَ على عليٍّ عليهِ السلام فقالَ : يا أخي : إنَّ قُريشاً ستظاهرُ عليكم وتجتمعُ كلمتُهم على ظُلمِك وقهرِك . فإن وجدتَ أعواناً فجاهِدهم وإن لم تجِد أعواناً فكُفَّ يدَك واحقُن دمَك . أما إنَّ الشهادةَ مِن ورائك ، لعنَ اللهُ قاتلَك .
ثمَّ أقبلَ على ابنتِه فقالَ : إنّكِ أوّلُ مَن يلحقُني مِن أهلِ بيتي ، وأنتِ سيّدَةُ نساءِ أهلِ الجنّة . وسترينَ بَعدي ظُلماً وغيظاً حتّى تُضرَبي ويُكسَرُ ضلعٌ مِن أضلاعِك . لعنَ اللهُ قاتلَكِ ولعنَ الآمرَ والرّاضي والمُعينَ والمُظاهرَ عليكَ وظالمَ بعلِك وابنيك . )) ( كتابُ سُليمِ بنِ قيس، تحقيقُ مُحمّد باقر الأنصاري، ص 427).
قالَ الشيخُ النّعماني (ت380هـ): وليسَ بينَ جميعِ الشيعةِ ممَّن حملَ العلمَ ورواهُ عن الأئمّةِ (عليهم السلام) خلافٌ في أنَّ كتابَ سُليمِ بن قيس الهلالي أصلٌ مِن أكبرِ كُتبِ الأصولِ التي رواها أهلُ العلمِ ومِن حملةِ حديثِ أهلِ البيت (عليهم السلام) وأقدمِها ، لأنَّ جميعَ ما اشتملَ عليه هذا الأصلُ إنّما هوَ عن رسولِ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأميرِ المؤمنينَ والمقدادِ وسلمانَ الفارسيّ وأبي ذرٍّ ومَن جرى مجراهم ممَّن شهدَ رسولَ الله (صلّى اللهُ عليهِ وآله) وأميرَ المؤمنين (عليهِ السلام) وسمعَ مِنهما ، وهوَ منَ الأصولِ التي ترجعُ الشيعةُ إليها ويعوّلُ عليها. (الغيبةُ للنّعماني، ص103).
الروايةُ الرّابعة: روى ابنُ جريرٍ الطبريّ الشيعيّ في دلائلِ الإمامة، بسندٍ صحيحٍ، رجالُه ثقاتٌ مِن شيوخِ الطائفةِ وعيونِها، قالَ: حدّثني أبو الحُسينِ محمّدُ بنُ هارونَ بنِ موسى التلعكبري، قالَ: حدّثني أبي، قالَ: حدّثني أبو عليٍّ محمّدُ بنُ همام بنِ سهيل (رضيَ اللهُ عنه)، قالَ: روى أحمدُ ابنُ محمّدِ بنِ البُرقي، عن أحمدَ بنِ مُحمّدٍ الأشعريّ القُمّي، عن عبدِ الرّحمن بنِ أبي نجران، عن عبدِ الله بنِ سنان، عن ابنِ مسكان، عن أبي بصيرٍ، عن أبي عبدِ الله جعفرِ بنِ مُحمّد (عليهِ السلام)، قالَ: ولدَت فاطمةُ (عليها السلام) في جُمادى الآخرة، يومَ العشرينَ منه، سنةَ خمسٍ وأربعينَ مِن مولدِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله). وأقامَت بمكّةَ ثمان سنين، وبالمدينةِ عشرَ سنين، وبعدَ وفاةِ أبيها خمسةً وسبعينَ يوماً. وقُبضَت في جُمادى الآخرة يومَ الثلاثاء لثلاثٍ خلونَ مِنه، سنةَ إحدى عشرةَ منَ الهجرة.
وكانَ سببُ وفاتِها أنَّ قُنفذاً مولى عُمر لكزَها بنعلِ السيفِ بأمرِه، فأسقطَت مُحسِناً ومرضَت مِن ذلكَ مرضاً شديداً، ولم تدَع أحداً ممَّن آذاها يدخلُ عليها.
وكانَ الرّجلانِ مِن أصحابِ النبيّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) سألا أميرَ المؤمنين أن يشفعَ لهُما إليها، فسألَها أميرُ المؤمنين (عليهِ السلام) فأجابَت، فلمّا دخلا عليها قالا لها: كيفَ أنتِ يا بنتَ رسولِ الله؟ قالَت: بخيرٍ بحمدِ الله. ثمَّ قالت لهُما: ما سمعتُما النبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يقولُ: فاطمةُ بضعةٌ مِنّي، فمَن آذاها فقَد آذاني، ومَن آذاني فقد آذى الله؟ قالا: بلى.
قالَت: فواللهِ، لقد آذيتُماني. قالَ: فخرجا مِن عندِها وهيَ ساخطةٌ عليهما. (دلائلُ الإمامةِ، للطبريّ (الشيعي)، ص 134 – 135)
أقولُ: وهذهِ الروايةُ نصَّ على صحّتِها جملةٌ مِن عُلماءِ الإماميّة، قالَ المامقانيّ بأنَّ سندَها قويٌّ. (مرآةُ الكمال: 3 / 267) وحكمَ الميرزا التبريزيّ والشيخُ عبّاسُ القُمّيُّ باعتبارِ سندِها. (صِراطُ النجاة: 3 / 441، بيتُ الأحزان، ص189)، وغيرُهم.
تعليق