بدأ موسم الحج وذهب الناس للقاء بارئهم مجرّدين من كلّ ما يتعلق بأمور الدنيا آخذين ذنوبهم لغسلها في بحر
جود الله وكرمه، راجين من الله غفرانها وكنتُ في ذلك الوقت أبلغ من العمر الخامسة والعشرين سنة لكن لهفتي
واستعدادي للحج كانت تفوق عمري، وبدأت رحلتي إلى الله واستمرت أيام الحج حتى رحلت قافلتها وبدأت
مناسك الحج إلى حين جاء عصر يوم الثامن من ذي الحجة فبدأ الحجيج بالإحرام استعداداً للتوجه إلى عرفات
وسمي هذا اليوم بيوم التروية، فقد سُئل الإمام الصادق عليه السلام عن سبب تسمية يوم عرفات بيوم التروية
فقال: "لأنه لم يكن بعرفات ماء وكانوا يستقون من مكة من الماء ريهم وكان يقول بعضهم لبعض: ترويتم ؟ ترويتم ؟ فسمي يوم التروية لذلك".
كانت قافلتنا آخر قافلة وكان ما شاهدته منظراً مدهشاً ففي الصباح كانت مكة مليئة بالحجاج وفجأة ترى الجميع
يستقلون الحافلات وفي هذه المدة يسود مكة هدوء موحش وكأن المدينة في حالة منع التجول بينما كانت بالأمس
تعجّ بالحجيج الذين يملؤون الأسواق والمساجد ومن شدة الزحام لن تجد مكاناً لقدمك، والآن كلّنا نرحل إلى
عرفات نضجّ بالتلبية والدعاء، وعند وصولنا إلى تلك البقعة المباركة رأيتُ مشهداً رهيباً لم أرَ في حياتي مثله
أبداً ولا يحصل إلّا في هذا المكان وفي هذا الموسم، فخُيل إليّ أن الناس قد خرجوا من أجداثهم دفعة واحدة
بأكفانهم ليوم الحساب وكلّهم مجموعون من كلّ صوب وحدب ومن كلّ فج عميق، وكأن روحي انسلخت عن
جسدي لترتمي وسط الجموع السائرة، وكأن الله قد جمع الأولين والآخرين وكلّهم في حالة ذهول تام، فكلّ واحد
شُغل بنفسه عن الآخر وجاء بذنوبه ليكفر الله عنها، وعبرت روحي بوابة الزمن وكأني تخطّيت حدوده وأنا أسأل
نفسي هل نحن في يوم القيامة وهؤلاء الناس ذاهبون وآتون مضطربون والشمس تلفح وجوههم هل هو يوم
الحساب؟ وفي هذه اللحظات أصحو على ضجيج الحجّاج تعجّ بالتلبية (لبيك اللهم لبيك... إلخ) أجواء روحانية
محاطة بألطاف إلهية فالكلّ يذرف الدموع حسرة على ما جنته يداه من المعاصي وبدأت نفسي تطمئن شيئاً فشيئاً
بأن الله يرى دموعي ويرحم استكانتي وبعد الانتهاء من هذا اليوم ومناسكه انتابني شعور بأن أثقال الدنيا قد
حُطّت عن كاهلي ولفتني سعادة عارمة تبشّرني بأن الله قد غفر ذنبي وتقبّل توبتي، وها أنا أسير على درب الله
ثابت الخُطى أتحمد لله الذي رزقني الحج وأنا في هذا العمر.
بشرى عبد الجبار
تم نشره في المجلة العدد 63
تعليق