- (إلهي, لا تؤدّبني بعقوبتك, ولا تمكر بي في حيلتك. من أينَ لي الخيرُ يا ربّ ولا يوجدُ إلّا من عندك؟! ومنْ أينَ ليَ النجاة ولا تُستطاعُ إلاّ بك؟! لا الذي أَحسنَ استغنى عن عَونك ورحمتك, ولا الذي أَساءَ واجترأَ عليك ولمْ يُرضك خرجَ عن قدرتك).
- بيان قوله : إلهي لا تؤدبني بعقوبتك
- (إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك) أي: يا إلهي, لا تقُم بتأديبي من خلال العقوبة, ولا تجعل العقوبة أُسلوباً لتأديبي!
- (ولا تمكر بي في حيلتك) أي: لا تمكر بي ولا تخدعني بما لديك من حذاقة رقابة وإشراف على أموري.
- ويستفاد من ذلك أنّ من الممكن أنْ يؤدّب الله العليّ الأعلى الإنسانَ عن طريق العقوبة, كما يمكن أنْ يقوم بحيلة تجاه الإنسان, وأنْ يمكرَ به في حيلته.
- وعلينا الآن أنْ نتوضّح ما هو المراد من المكر؟ وما هي هذه العقوبة الإلهيّة التي يؤدّب الإنسان بها؟
- (إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك) لم يقلْ: لا تؤدّبني مطلقاً, بل قال: إلهي لا تؤدّبني بعقوبتك! فيتبيّن أنّ لله أسلوبين في التأديب: أحدهما بالعقوبة والآخر بلا عقوبة, ولذلك يدعو الإمام الله أنْ يؤدّبه بلا عقوبة.
- وهذه الجملة عجيبة, بل جملة عجيبة جدّاً؛ فهي جملة تفيض بالمعاني, وذلك من أيّ ناحية؟
- من ناحية أنّه هل يمكن لله أنْ يؤدّب الإنسان من خلال العقوبة؟!
- المراد من الأدب في الدعاء
- العقوبة تعني: العقاب والتقريع والتنبيه, والأدب مفاده: الدخول في الصراط المستقيم, اعتدال عمل الإنسان, ومراعاة الفهم والنباهة, وذلك بخلاف الأفراد الذين لا يتمتّعون بالأدب . نعم كلّ مورد يقتضي أدباً خاصّاً به . والغرض: أنّ الأفراد الذين لا يراعون الأدب لا يكونون على الصراط المستقيم, أو أنّهم واقعون في طرف الإفراط, أو طرف التفريط, أو أنّهم لديهم تسرّع في حركتهم أو بطء, أو أنّهم لا يراعون شرائط المحلّ أو المجلس الذي يكونون فيه, أو أنّهم غافلون وجاهلون عن شأن المولى وغير متنبّهين ولا ملتفتين,وعليه فهم لا يراعون شروط العبوديّة, ويهملون حقّ المولويّة.
- وأمّا الشخص الذي يراعي الأدب فهو المدرك لهذه الجهات, ويراعي هذه النكات, وسيكون ـ بالطبع ـ على الصراط المستقيم؛ إذ لا بدّ وأنْ يكون العبد متأدّباً, بل لا يُسمح بالدخول في حرم الله لمن لا أدب لديه.
- وحينئذٍ فإنّ الله العليّ الأعلى ينظر إلى العباد بنظر الرحمة, فيمنّ على أولئك الذين يودّ أنْ يدخلهم في حرمه ويريد أنْ يفتح لهم الطريق للوصول إلى النشأة الأخرى بفضل صفته الرحيميّة, ويريد أنْ يطلق لسانهم في مناجاته.. فمن المسلّم أنّه سوف يمنّ على هؤلاء بالأدب, ويجعلهم مؤدّبين, حتّى تستحكم الروابط القائمة بين العبد والمولى ـ وذلك من خلال كونهم مؤدّبين ـ وتشيّد على أساس العبوديّة والربوبيّة, ويبلغ العبد مرحلة الاستعداد كي يثبت على صراط المناجاة مع الله, والتعامل والتبادل مع الله, وهذا لا يكون إلا من حظّ العبد الحائز على الأدب.
- وعليه فالأفراد الذين لا أدب لديهم بعيدون عن رحمة الله.و على كلّ حال ليس هذا محلّ بحثنا, ولكن من الواضح أنّ الأدب أمرٌ مهمّ جدّا, وهو ما جعل الإمام السجّاد عليه السلام يقول: لا بدّ وأن تؤدّبني, ولكن لا تؤدّبني بعقوبتك, فالأدب ضروريّ, وعدم الأدب أمرٌ سيّئ للغاية, وأسوء شيء في طريق السير والسلوك هو سوء الأدب؛ لأنّ العبد الذي يتعدّى ويخرج عن جادّة الأدب, فإنّ غيرة المولى ولمعان شرارة الغيرة والحميّة الإلهيّة تستوجب إسقاط العبد وإزهاقه عن درجاته وادّعاءاته بشكل كلّي.
- فالأدب يعني: الاستقامة في كلّ مقام ومنزلة, فلا يكثر الإنسان من الكلام ولا ينقص, ولا يصف مولاه وإلهه بأوصاف لم يصف هو نفسه بها ولا تليق به, وإنّما يصف الله بما هو معتقد ومتيقّن به دون أنْ يتعدّى, فحتّى لو كان الله أكثر من ذلك, إلاّ أنّه لا يصفه إلاّ بحدود ذلك. لا تقل: أنا فداء لله! حسناً أنتَ تدّعي ذلك, هيّا تعال نفّذ!! من هو الشخص المستعدّ للفداء؟ فقولك لمولاك: (أنا فداءٌ لك) قولٌ دون جدوى, نعم. لا مانع أنْ يجامل الإنسان رفيقه ويقول له: أنا فداؤك؛ فذلك ليس مهمّاً؛ لأنّه لا يأتي وقتٌ ويقول لك: هيّا افعل! فلو كانَ عالَم الدنيا كسائر العوالم الأخرى, أي: لكلّ كلمة حساب وكتاب وأثر خاصّ, لانكشف أنّ هؤلاء الذين يقولون للآخرين (أنا فداء لك) أنّ بينهم وبين مخاطبيهم ما بين المشرق والمغرب وأنّهم ينفصلون عنهم, هذا لو قدّر لهذه الكلمات أنْ تظهر في عالم العيان وأنْ تنبّئ عن حقيقتها بالعالم الخارجيّ.
- ثمّ يشرع بالدّعاء: إلهي أنت كذا وكذا.. أنت كذا.. إلهنا عذّبنا!! ولكن أعطنا ما نريد.. ألقِ بنا في جهنّم, ولكن لا تبعدنا عن رحمة لقاء ذاتك وزيارتك! أنزل بنا أيّ نوع من العذاب والفقر ونحن راضون, ولكن أوصلنا إلى مقام الفناء, وابلغ بنا مقام الوصال, وأنلنا جمال ذاتك.
- فيقول الله: ما الذي تدّعيه أنت؟! أُعذّبك: أيّ عذابٍ تريد!! وأحلل عليك أيّ نوع من البلاء!! حسناً استعد؛ إذ لا مجاملة في ذلك.
تاليف -
العلامة آیة الله السيد محمد الحسين الحسيني
يتبع ان شا الله بقية الفقرات تباعا
تعليق