كان للخيال الخصب والعاطفة الجياشة عند العرب في الجاهلية أثراً كبيراً في خلق وإفراز سنن وعادات كثيرة أقرّ الإسلام ما هو صالح منها ورفض ما هو غير صالح. فمن تلك العادات والسنن التي تأثرت وأُثِر قسط كبير منها عن الأديان السالفة والحضارات الماضية، مسألة احترام الموتى، والارتباط بالقبور وتخليد مآثرهم.
إذ كانوا يعقرون عليها جِمالهم وينشدون عندها الأشعار ويعوجون عليها، إحساساً منهم بوجود المدفون معهم روحاً ومآثره وإنه يرتبط أو أنهم يرتبطون معه بنحو من أنحاء الارتباط، قال ابن كثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. (البداية النهاية، ج: 2 ص: 366) وزاد الزمخشري على هذا القول: وقيل ليطعمها السباع، فيدعى مضيافاً حياً أو ميتاً. (الفائق في غريب، الحديث ج: 2، ص: 178 ــ 179)، وقال مثل ذلك ابن منظور (لسان العرب، ج: 4، ص: 593).
فالعقر على القبر عند العرب يعبّر عن معنى الكرم والجود والعطاء، وفيه محاولة إدامة إطعام الميت للفقراء والأضياف والنازلين وهذا ما جعلهم يعدّون ذلك من المفاخر الحميدة والمآثر الفريدة.
وكان لاعتقادهم الخالص هذا أثراً في نسج القصص والأساطير حول كرامات الميت من ذلك ما رواه ابن قتيبة الدينوري: وقد ذكرت طيء إن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مرّ بقبر حاتم فنزل به وبات يناديه: يا أبا عدي أقرِ أضيافك. فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري يصيح: وارحلتاه فقال له أصحابه: ما شأنك ؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا قد والله قراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا فبينما هم كذلك في مسيرهم طلع عليهم عَدِي بن حاتم ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه وأنه قراك وأصحابك راحلتك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها وهي:
أبا الخيبريِّ وانت أمرؤٌ *** حسودُ العشيرة لوّامُها
فماذا أردت الى رمّةٍ *** بداويةٍ صخبٍ هامُها
أتبغي أذاها وأعسارها *** وحولك عوفٌ وأنعامُها
وأمرني بدفع جمل مكانها إليك فخذه، فأخذه ! (الشعر والشعراء، ص147 ـــ 148).
وقد نقل هذه القصة أيضاً الزبير بن بكار (الموفقيّات ص 408 ــ 410)، وأبو الفرج الأصفهاني (الأغاني، ج: 17، ص: 374 ــ 375) والبغدادي في خزانة الأدب (خزانة الأدب، ج: 1، ص: 494 ــ 495) وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم:
أبوك أبو سفّانة الخير لم يزلْ *** لدنْ شبَّ حتى مات في الخير راغبا
به تضربُ الامثالُ في الشعر ميّتاً *** وكان له إذ ذاك حيّاً مصاحبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به *** ولم يقرِ قبرٌ قبله الدهرَ راكبا
وسواء أكانت قصة حاتم من مختلقات طيء وورثة حاتم أم من الجن كما يقول الزبير بن بكّأر فإن مما لا ريب فيه هو أن العرب كانت تعقر عند القبور وترى لصاحب القبر حرمة وكرامة وتعدّ العقر والقرى عند قبر الكريم فخراً ما بعده فخر، فقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري عمرو بن الحارث الغساني والغساسنة فوصفهم مادحاً بأنهم يكرمون الأضياف عند قبر أبيهم فقال:
لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهُم *** يوماُ بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ
أولاد جفنةَ عند قبر أبيهِمُ *** قبر ابن مارية الكريم المُفضلِ
يَسقون من ورَدَ البريصَ عليهم *** بَردَى يصفّق بالرَّحيقِ السلسلِ
يُغشون حتى ما تهِرّ كلابُهم *** لا يسألون عن السوادِ المقبلِ
وظلت هذه الفكرة مفخراً عند العرب حتى العهد الأموي فهذا قيس بن الملوح يعقر على قبر أبيه ناقته ويرثيه عند القبر قائلاً:
عقرتُ على قبرِ الملوَّحِ ناقتي *** بذي الرَّمثِ لا أن جفاه أقاربُه
فقلتُ لها كوني عقيراً فإنني *** غداةَ غدٍ ماشٍ وبالأمسِ راكبُه
فلا يُبعدنْكَ الله يا بن مزاحمٍ *** فكلُّ امرئٍ للموتِ لا بدَّ شاربُه
فقد كنت صلاعَ النجادِ ومعطي الـــــجيادِ وسيفاً لا تفلُّ مضاربُه
ويرثي زياد الأعجم المغيرة بن المهلّب بقصيدة يدعو فيها إلى العقر عند قبره وإن ينضح قبره بدماء العقائر لأنه كان أخا دَمِ وذبائحٍ فيقول:
قل للقوافلِ والغزيِّ إذا غَزَوا *** والباكرين وللمجدِّ الرائحِ
إن المروءة والسماحة ضُمّنا *** قبراً بمروَ على الطريقِ واضحِ
فإذا مررتَ بقبرهِ فأعقر به *** كُومَ الهجانِ وكلّ طِرفٍ سابحِ
وانضح جوانبَ قبرهِ بدمائها *** فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ
ومن الطرائف أن يزيد بن المهلَّب قال لزياد: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده ؟، قال: كنت على بنت الحمار.
فيبدو أن العقر كان مجرد موروث قد اضمحل أو قلّ بمجيء الإسلام فما بقي إلا شيء يسير منه على أرض الواقع، وإنما بقيت الفكرة في ذهن وخيال الشعراء يستفيدون منها في المراثي والمفاخرات حتى اخذ الشاعر أحمد بن محمد الخثعمي وهو من الشعراء العباسيين معنى أبيات زياد الأعجم وتصرّف في معانيها ما شاء أن يحسن له التصرف، فقال:
أيها الناعيانِ من تنعيان *** وعلى من أراكما تبكيانِ
أندبا الماجدَ الكريمَ أبا اسحـــاق ربُّ المعروف والاحسانِ
واذهبا بي أن لم يكن لكما عقرٌ إلى جنب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كان دمي من نداه لو تعلمانِ
ومن مظاهر الإنشداد إلى القبور وتكريم صاحب القبر أن الرئيس المقدم والسري من الناس ومن له بيت من العز والشرف كان يعيذ من يستعيذ بقبر أبيه ويعفو عن ذنبه الذي يتجاوز الظلم والإسراف أحياناً، احتراماً وتقديراً وتكريماً لصاحب القبر وقد كان هذا شائعاً معروفاً في الجاهلية والإسلام. ولقد عاذ كثير من الخائفين بقبور آباء الملوك والحكام كما لاذ المؤمنون بالأئمة الطاهرين : وتحرّموا بحرمتهم فرفع عنهم السوء، ومن أروع ما قيل في هذا الباب ما قيل في قبر الإمام الحسين 8 حيث لاذ بعضهم بقبره الشريف وأنشأ يقول:
حسينٌ إذا ما ضاق رحبٌ من الدنى *** وحلّ بنا للفادحاتِ نزولُ
بقبركَ لُذنا والقبور كثيرةٌ *** ولكن من يحمي الذمارَ قليلُ
كتبه - محمد طاهر الصفار
إذ كانوا يعقرون عليها جِمالهم وينشدون عندها الأشعار ويعوجون عليها، إحساساً منهم بوجود المدفون معهم روحاً ومآثره وإنه يرتبط أو أنهم يرتبطون معه بنحو من أنحاء الارتباط، قال ابن كثير: كانوا يعقرون الإبل على قبور الموتى، أي ينحرونها، ويقولون: إن صاحب القبر كان يعقر للأضياف أيام حياته، فنكافئه بمثل صنيعه بعد وفاته. (البداية النهاية، ج: 2 ص: 366) وزاد الزمخشري على هذا القول: وقيل ليطعمها السباع، فيدعى مضيافاً حياً أو ميتاً. (الفائق في غريب، الحديث ج: 2، ص: 178 ــ 179)، وقال مثل ذلك ابن منظور (لسان العرب، ج: 4، ص: 593).
فالعقر على القبر عند العرب يعبّر عن معنى الكرم والجود والعطاء، وفيه محاولة إدامة إطعام الميت للفقراء والأضياف والنازلين وهذا ما جعلهم يعدّون ذلك من المفاخر الحميدة والمآثر الفريدة.
وكان لاعتقادهم الخالص هذا أثراً في نسج القصص والأساطير حول كرامات الميت من ذلك ما رواه ابن قتيبة الدينوري: وقد ذكرت طيء إن رجلاً يعرف بأبي الخيبري مرّ بقبر حاتم فنزل به وبات يناديه: يا أبا عدي أقرِ أضيافك. فلما كان في السحر وثب أبو الخيبري يصيح: وارحلتاه فقال له أصحابه: ما شأنك ؟ فقال: خرج والله حاتم بالسيف حتى عقر ناقتي وأنا أنظر إليه، فنظروا إلى راحلته فإذا هي لا تنبعث. فقالوا قد والله قراك. فنحروها وظلوا يأكلون من لحمها ثم أردفوه وانطلقوا فبينما هم كذلك في مسيرهم طلع عليهم عَدِي بن حاتم ومعه جمل أسود قد قرنه ببعيره فقال: إن حاتماً جاءني في المنام فذكر لي شتمك إياه وأنه قراك وأصحابك راحلتك وقد قال في ذلك أبياتاً ورددها علي حتى حفظتها وهي:
أبا الخيبريِّ وانت أمرؤٌ *** حسودُ العشيرة لوّامُها
فماذا أردت الى رمّةٍ *** بداويةٍ صخبٍ هامُها
أتبغي أذاها وأعسارها *** وحولك عوفٌ وأنعامُها
وأمرني بدفع جمل مكانها إليك فخذه، فأخذه ! (الشعر والشعراء، ص147 ـــ 148).
وقد نقل هذه القصة أيضاً الزبير بن بكار (الموفقيّات ص 408 ــ 410)، وأبو الفرج الأصفهاني (الأغاني، ج: 17، ص: 374 ــ 375) والبغدادي في خزانة الأدب (خزانة الأدب، ج: 1، ص: 494 ــ 495) وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن حاتم:
أبوك أبو سفّانة الخير لم يزلْ *** لدنْ شبَّ حتى مات في الخير راغبا
به تضربُ الامثالُ في الشعر ميّتاً *** وكان له إذ ذاك حيّاً مصاحبا
قرى قبره الأضياف إذ نزلوا به *** ولم يقرِ قبرٌ قبله الدهرَ راكبا
وسواء أكانت قصة حاتم من مختلقات طيء وورثة حاتم أم من الجن كما يقول الزبير بن بكّأر فإن مما لا ريب فيه هو أن العرب كانت تعقر عند القبور وترى لصاحب القبر حرمة وكرامة وتعدّ العقر والقرى عند قبر الكريم فخراً ما بعده فخر، فقد مدح حسان بن ثابت الأنصاري عمرو بن الحارث الغساني والغساسنة فوصفهم مادحاً بأنهم يكرمون الأضياف عند قبر أبيهم فقال:
لله دَرُّ عصابةٍ نادمتهُم *** يوماُ بجُلَّقَ في الزمانِ الأولِ
أولاد جفنةَ عند قبر أبيهِمُ *** قبر ابن مارية الكريم المُفضلِ
يَسقون من ورَدَ البريصَ عليهم *** بَردَى يصفّق بالرَّحيقِ السلسلِ
يُغشون حتى ما تهِرّ كلابُهم *** لا يسألون عن السوادِ المقبلِ
وظلت هذه الفكرة مفخراً عند العرب حتى العهد الأموي فهذا قيس بن الملوح يعقر على قبر أبيه ناقته ويرثيه عند القبر قائلاً:
عقرتُ على قبرِ الملوَّحِ ناقتي *** بذي الرَّمثِ لا أن جفاه أقاربُه
فقلتُ لها كوني عقيراً فإنني *** غداةَ غدٍ ماشٍ وبالأمسِ راكبُه
فلا يُبعدنْكَ الله يا بن مزاحمٍ *** فكلُّ امرئٍ للموتِ لا بدَّ شاربُه
فقد كنت صلاعَ النجادِ ومعطي الـــــجيادِ وسيفاً لا تفلُّ مضاربُه
ويرثي زياد الأعجم المغيرة بن المهلّب بقصيدة يدعو فيها إلى العقر عند قبره وإن ينضح قبره بدماء العقائر لأنه كان أخا دَمِ وذبائحٍ فيقول:
قل للقوافلِ والغزيِّ إذا غَزَوا *** والباكرين وللمجدِّ الرائحِ
إن المروءة والسماحة ضُمّنا *** قبراً بمروَ على الطريقِ واضحِ
فإذا مررتَ بقبرهِ فأعقر به *** كُومَ الهجانِ وكلّ طِرفٍ سابحِ
وانضح جوانبَ قبرهِ بدمائها *** فلقد يكون أخا دمٍ وذبائحِ
ومن الطرائف أن يزيد بن المهلَّب قال لزياد: يا أبا أمامة، أفعقرت أنت عنده ؟، قال: كنت على بنت الحمار.
فيبدو أن العقر كان مجرد موروث قد اضمحل أو قلّ بمجيء الإسلام فما بقي إلا شيء يسير منه على أرض الواقع، وإنما بقيت الفكرة في ذهن وخيال الشعراء يستفيدون منها في المراثي والمفاخرات حتى اخذ الشاعر أحمد بن محمد الخثعمي وهو من الشعراء العباسيين معنى أبيات زياد الأعجم وتصرّف في معانيها ما شاء أن يحسن له التصرف، فقال:
أيها الناعيانِ من تنعيان *** وعلى من أراكما تبكيانِ
أندبا الماجدَ الكريمَ أبا اسحـــاق ربُّ المعروف والاحسانِ
واذهبا بي أن لم يكن لكما عقرٌ إلى جنب قبره فاعقراني
وانضحا من دمي عليه فقد كان دمي من نداه لو تعلمانِ
ومن مظاهر الإنشداد إلى القبور وتكريم صاحب القبر أن الرئيس المقدم والسري من الناس ومن له بيت من العز والشرف كان يعيذ من يستعيذ بقبر أبيه ويعفو عن ذنبه الذي يتجاوز الظلم والإسراف أحياناً، احتراماً وتقديراً وتكريماً لصاحب القبر وقد كان هذا شائعاً معروفاً في الجاهلية والإسلام. ولقد عاذ كثير من الخائفين بقبور آباء الملوك والحكام كما لاذ المؤمنون بالأئمة الطاهرين : وتحرّموا بحرمتهم فرفع عنهم السوء، ومن أروع ما قيل في هذا الباب ما قيل في قبر الإمام الحسين 8 حيث لاذ بعضهم بقبره الشريف وأنشأ يقول:
حسينٌ إذا ما ضاق رحبٌ من الدنى *** وحلّ بنا للفادحاتِ نزولُ
بقبركَ لُذنا والقبور كثيرةٌ *** ولكن من يحمي الذمارَ قليلُ
كتبه - محمد طاهر الصفار
تعليق