اللهم صل على محمد وآل محمد
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "بِقَدْرِ الْهِمَمِ تَكُونُ الْهُمُومُ"
الهِمَمُ، هي عبارة عن الأهداف الكبرى والغايات السامية والطموحات البعيدة التي يرغب المرء في بلوغها وتحقيقها، مع عدم الرِضا بالدّون منها. وكثيراً ما يرد في الروايات الشريفة مصطلح عُلُوِّ الهمة، وهو عبارة عن العزم الأكيد والنية الصادقة في لتحقيق تلك وبلوغ تلك الغايات الكبرى، مع عدم السكون لصغار الأمور وحقيرها، والانصراف عن التافه منها، كي لا تشغله عن العظيم الجليل.
ولا تختلف معي قارئي الكريم في أن المرء كلما عظُمَت أهدافه وبعُدَت غاياته فرضت عليه الكثير من الهموم والمتاعب والمشاق والمصاعب، وتطلبت منه الكثير من الصبر والثبات والتَّحَمُّل والتَّحدي والإصرار، وهذه هموم كبيرة لا يتحملها إلا صاحب العزم الأكيد والإرادة الجادة والنية الصادقة.
إن شخصاً همُّه أن يتعلَّم القراءة والكتابة وحسب، تكون همومه بقَدْرِ هِمَّته، وتتطلب منه القليل من الجهد حتى يبلغ غايته، أما الشخص الذي يريد أن يبلغ درجة عالية من العلم والمعرفة، والقدرة على البحث والتحقيق، والإبداع والاختراع، فلا شك أن همومه تتضاعف وتكبر بقَدْر هِمَّته وأهدافه وغاياته، وذلك يتطلب منه الكثير من الجهود والصبر والروية والاستمرار وتحمُّل الصعاب، وتخطي العوائق والموانع.
وإن شخصاً هَمُّه أن يبلغ سفح الجبل، يختلف حاله عن شخص همه أن يبلغ قمته، وشخصاً همُّه أن يُزَحزَحَ عن النار، يختلف حاله عن شخص همُّه أن يكون في مقعد صدق عند مليك مقتدر، الأول يكتفي بالقليل، والثاني لا يكفيه الكثير، الأول يكفيه جهد أقل والثاني يلزمه جهد أكثر.
"بِقَدْرِ الْهِمَمِ تَكُونُ الْهُمُومُ" فهمومك بِقَدرِ هِمَّتِكَ، والهموم هي التي تشغل بال الإنسان وتقلقه، من أحزان، ومتاعب، وجهود، ومعاناة، ومواجهات، وخصومات، وعداوات وعليك أن تكون مستعداً لتحمُّلها والصبر عليها، والثبات أمامها. وأكلاف، وأثمان، وتضحيات، وعليك أن تكون مستعداً لدفعها، وبهذا تكون جديراً بتحقيق أهدافك وبلوغ غاياتك.
لقد ضرب لنا الإمام أمير المؤمنين (ع) مثلاً عملياً بسيرته الشريفة، فقد كانت هِمَّته من العُلُوَّ والسُّمُوِّ ما جعله يُضَيِّق على نفسه مكتفياً من دُنياه بثوبين واحد للشتاء وآخر للصيف، ومن طعامه بقرصين من الشعير. وقد كشف عن ذلك في رسالته التي أرسل بها إلى عامله على البصرة عثمان بن حُنَيف الأنصاري: "أَلَا وَإِنَّ إِمَامَكُمْ قَدِ اكْتَفَى مِنْ دُنْيَاهُ بِطِمْرَيْهِ وَمِنْ طُعْمِهِ بِقُرْصَيْهِ... فَوَاللَّهِ مَا كَنَزْتُ مِنْ دُنْيَاكُمْ تِبْراً وَلَا ادَّخَرْتُ مِنْ غَنَائِمِهَا وَفْراً وَلَا أَعْدَدْتُ لِبَالِي ثَوْبِي طِمْراً وَلَا حُزْتُ مِنْ أَرْضِهَا شِبْراً وَلَا أَخَذْتُ مِنْهُ إِلَّا كَقُوتِ أَتَانٍ دَبِرَةٍ وَلَهِيَ فِي عَيْنِي أَوْهَى وَأَوْهَنُ مِنْ عَفْصَةٍ مَقِرَةٍ... وَإِنَّمَا هِيَ نَفْسِي أَرُوضُهَا بِالتَّقْوَى لِتَأْتِيَ آمِنَةً يَوْمَ الْخَوْفِ الْأَكْبَرِ وَتَثْبُتَ عَلَى جَوَانِبِ الْمَزْلَقِ وَلَوْ شِئْتُ لَاهْتَدَيْتُ الطَّرِيقَ إِلَى مُصَفَّى هَذَا الْعَسَلِ وَلُبَابِ هَذَا الْقَمْحِ وَنَسَائِجِ هَذَا الْقَزِّ وَلَكِنْ هَيْهَاتَ أَنْ يَغْلِبَنِي هَوَايَ وَيَقُودَنِي جَشَعِي إِلَى تَخَيُّرِ الْأَطْعِمَةِ وَلَعَلَّ بِالْحِجَازِ أَوْ الْيَمَامَةِ مَنْ لَا طَمَعَ لَهُ فِي الْقُرْصِ وَلَا عَهْدَ لَهُ بِالشِّبَعِ أَوْ أَبِيتَ مِبْطَاناً وَحَوْلِي بُطُونٌ غَرْثَى وَأَكْبَادٌ حَرَّى"
---------------------
منقول
تعليق