صغيرة كنتُ عندما تعرّضت إلى الضرب من قبل بعض المشاكسين من أبناء المحلة، فلقد استغلوا وجودي بمفردي والنهار في آخره، والشمس
تميل برأسها الثقيل معلنةً عن انتهاء وجودها في الأفق، عندها تعرّضوا لي وأنا في طريقي لجلب الدواء من الصيدلية لأخي المريض.
(علي) أخي الصغير الذي أُصيب بمرض الشلل الرعاشي منذ سنينه الأولى، فقد صار شبه عاجز ليس له القدرة على إتمام طلباته إلا بمساعدة
الآخرين، الأمر الذي صنع منه إنساناً مرهف الحس، وهو يتلمس نظرات التجريح وكلماته أو الشفقة من قبل المجتمع.
لم أهتم بضرب أولئك المشاكسين قدر اهتمامي برعاية أخي الذي يصغرني بأربع سنين، وتوفير كلّ احتياجاته ومتابعته كالظل، بخاصة عندما
يخرج ليلعب أو ليشارك أطفال الجيران اللعب والركض، وكنتُ أتابعه بخفاء، وأظهر فجأة لنجدته حالما يسقط أرضاً، فأسرع نحوه كالومض
الخاطف.
وكم كان يشعر بالخجل والإحباط عندما يضحك أو يستهزئ به الآخرون، وذات مرة وبينما كان يشاطر أقرانه اللعب خارج المنزل عاد باكياً
صارخاً مولولاً؛ لأن أحدهم عنّفه وطرده من اللعب، قائلاً له: اخرج فأنت لا تنفع للّعب.
حينها أُثيرت حميتي، فلبست حجابي وخرجت مسرعة لأقتصّ من ذلك القائل، فتوجهت مباشرة إلى بيتهم حيث طرقت الباب بشدة، ولمّا انبلج وطلّ
وجه ربّ العائلة ومن خلفه ولده الذي وبّخ أخي، قلت له بنبرة الحزن: لماذا ولدك يزعج أخي؛ لأنه خُلق عاجزاً؟! أيحق لابنكم طرده وإهانته
بسبب عوقه الذي يمنعه من اللعب والجري كغيره..؟!
ظل الرجل واجماً لحظات، وقد نزلت كلماتي كالغضب العارم على قمة رأسه، وقد بدا عليه الأسف والاعتذار من فعل ولده، بينما انسابت دموعي
وخانتني شجاعتي؛ لتعزف دموعي لحن الأخوة والدفاع عن أخي المريض.
بعد دقائق من تلك المواجهة جاء الأب بصحبة ابنه إلى بيتنا معتذراً لوالدي عمّا بدر منه، وهو يقول عبارة لم أفهم معناها آنذاك، لكني تذوقت
أسرارها الملكوتية عندما كبرت، حيث قال الرجل مخاطباً أبي: (إنّ ابنتك هذه مستلهمة شجاعتها من بطل العلقمي)
ظلت العبارة تسافر معي، تحيا في وجداني، تتناغم مع أفكاري، تدغدغ مشاعري، وعندما بلغت من العمر عتياً، فككت طلاسم تلك الأحجية
المأثورة، وألححت كثيراً في معنى تلك التسمية الفريدة؛ لأجد بعد ذلك كلّ مصاديق الحبّ والأخوة والفداء عند فحوى تلك التسمية.
فلقد جاد ذلك البطل بنفسه الزكية؛ ليكون قرباناً لأخيه الإمام الحسين عليه السلام، محامياً عنه بأعزّ ما عنده، فالجود بالنفس أسمى غاية الجود،
وكلما اشتدّ عودي صرت أتطلّع إلى ذلك البطل المغوار، وأتفحص قيم الإسلام النبيلة؛ لتترسخ في وجداني الصور السامية، وتعرش في ذاكرتي
الحكايا الرفيعة التي أستمدّ منها مبادئ الكرامة والسّؤدد، حين سطر الأبطال أسطورتهم الغَنَّاء، وسجّل كلٌّ منهم أطروحته بما لا تعفيه السنين ولا
تدثره الأعوام.
سدرة الموسوي
تم نشره في المجلة العدد88
تعليق