اللهم صل على محمد وآل محمد
رُوِيَ عن الإمام علِيَّ (ع) أنه قال: "بَرُّوا آبائَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْناؤكُمْ"
هذه معادلة يكشف عنها الإمام أمير المؤمنين (ع): إن أردتَ أن يبرك أبناؤك فكن باراً بأبويك، وهي تقوم على أصل من أصول الجزاء مُهِمٍّ للغاية وهو: أن الجزاء يكون من جنس العمل، فالبِرُّ يُجازى بالبِرِّ، والعُقوق يجازى بالعُقوق، والرَّحمة تُجازى بالرَّحمة، والقَسوَة تجازى بالقَسوَة، والصِّلَة تُجازى بالصِّلَة، والقَطيعة تُجازى بالقَطيعة، وهكذا في سائر موارد الجزاء.
وهي معادلة موحية، موقظة، مربية، يستلهم المرء منها ما يجب أن يعامل به غيره، بالنظر إلى ما يحب أن يعامله الغير، وتوقظه إذا ما غفل عن ذلك، فتربيه على التوسِّع في البر لأبويه كي يتوسع أبناؤه في بره، إذ إنه يحب ذلك بلا شك، بل يحتاج إلى برهم ومودتهم وحنانهم وعطفهم، خصوصاً حين يبلغ من العمر عِتياً ويحتاج إلى يَدٍ رحيمة ترعاه وتقوم على خدمته، وقلبٍ عطوف رؤوف يهتَمُّ له، بعد أن يذهب من كان حوله إلى شأنه الخاص، وأسرته الخاصة، وذلك يتطلب منه أن يربي أبناءه على البر والرحمة والاحترام والتقدير والتوقير والإجلال، ولا يكفي القول في ذلك بل يجب أن يقترن بالسيرة الحَسَنَة والبر العملي لأبويه، لأن الأبناء يقتدون به في ذلك، ومعلوم أن التربية بالاقتداء أسهل وأكثر تأثيراً من التربية بالقول.
إن التربية بالقدوة أرقى أنواع التربية، وبدونها تصبح التربية ناقصة ومبتورة، هذا إذا اكتفى المرءُ بالأقوال، أما إذا خالفت أفعالُه أقوالَه فذلك أسوأ ما يكون، فلا بُدَّ للشخص المتلقي أن يرى أقوال مًرَبِّيه ومُؤدبه سلوكاً متجسِّداً في الحياة، ولذلك وُصِفَ النبي الأعظم محمد (ص) بأنه كان خُلُقُه القرآن، إذْ تجسَّدَت تعاليم القرآن وقِيَمُه خُلُقاً وسُلوكاً له، وبذلك تمَكَّن (ص) من أن ينتشل المُجتمع الجاهلي من جاهليته، وأن يؤثِّرَ في أفراده فينقلهم من ضَفَّة إلى أُخرى.
وقد أكَّد القرآن الكريم على هذا المنهج التربوي الأكثر تأثيراً في صناعة الإنسان، فأكَّد على مفهوم الأُسْوَة الحَسَنة، في سياقَين، أحدهما يتحدَّث عن النبي الأكرم (ص) في قوله تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا"﴿21/ الأحزاب﴾. والثاني في سياق الحديث عن النبي إبراهيم (ع) في قوله تعالى: "قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ..."﴿4/ الممتحَنَة﴾ فالقدوة حاجة إنسانية من جهة، وضرورة تربوية من جهة أخرى، وهي التي تعطي للكلام معناه، وتنفخ الروح في المواعظ فتجعلها حَيَّة، وغياب القدوة في عملية التربية يجعل التربية في أزمة، كما أن وجود قدوة يخالف قولها فعلها يُعَدُّ أزمة أشدُّ في عملية التربية.
وإذاً فقول الإمام أمير المؤمنين (ع): "بَرُّوا آبائَكُمْ يَبَرَّكُمْ أَبْناؤكُمْ" يكشف عن معادلة لا تتخلف: من بَرَّ أبوَيه برَّه أبناؤه، ومن أراد أن يبرُّه أبناؤه فعليه أن يبرَّ أبويه، فإذا رأى أبناؤه منه ذلك نشأوا عليه وصار البِرُّ قيمة من قِيَمِهم لا يتنازلون عنها بحال من الأحوال، ولا يُقَصِّرون فيها مهما تبدَّلت الظروف.
--------------------
منقول عن - السيد بلال وهبي
تعليق