إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الامام الحسين مصباح هدى و سفينة النجاة

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الامام الحسين مصباح هدى و سفينة النجاة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    قال الإمام الحسين بن عليعليهما‌السلام : « دخلتُ على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله وعنده أُبيّ بن كعب، فقال لي رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : مرحباً بك يا أبا عبد الله، يا زين السماوات والأرضين. فقال له اُبيّ: وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرضين أحد غيرك؟!

    فقال: يا اُبيّ، والّذي بعثني بالحقّ نبيّاً، إنّ الحسين بن عليّ في السماء أكبر منه في الأرض؛ فإنّه لَمكتوب عن يمين عرش الله: مصباح هدى، وسفينة نجاة، وإمام خير ويمن، وعزّ وفخر، وبحر علم وذخر. وإنّ الله عزّ وجلّ ركّب في صلبه نطفة طيّبة مباركة زكيّة».

    بحار الأنوار ٣٦ / ٢٠٤، الحديث ٨


    الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة


  • #2
    لقد اصطفى الله من عباده الصالحين أئمة هداة، وجعلهم حججاً بالغة على جميع خلقه، وقال وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ ) (١) ، وقال سبحانه أولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ) (٢) .

    أوَلم يكف البشرية رسول واحد يستضيء بنوره الناس على مر العصور؟ دعنا نعود إلى البداية لنعرف الإجابة. أو تدري متى تتوقف عقارب الزمن ويتكلس العصر، ويتجمد الإنسان ويسوده التخلف، ويحكم الإرهاب ويتسلط الظالمون؟

    الزيف غياب المسؤوليّة

    تماماً عندما ترين على الأفئدة طبقة سوداء من الأفكار التبريرية والمعاذير الخادعة، فيتحلل كل الناس عن مسؤولياتهم، كلّ باسم عذر وبتبرير كاذب؛ فيقول البسطاء والمستضعفون: إننا لا نعرف طريقاً لمقاومة الظالمين، إنما نحن بائسون محرومون نتبع كبراءنا وساداتنا، أو السابقين الأولين من آبائنا، كما يصف القرآن الكريم ذلك بقوله أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ ءَابَآؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِن بَعْدِهِمْ ) (٣) .

    ____________________

    (١) سورة السجدة / ٢٤.

    (٢) سورة الأنعام / ٩٠.

    (٣) سورة الأعراف / ١٧٣.

    ٥



    أمّا الأثرياء فهم الذين يخافون الفقر، ويخشون المساواة والمحرومين، ويقولون وَقَالُوا إِن نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أرْضِنَا ) (١) ، ويقولون قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الاَرْذَلُونَ ) (٢) .

    بينما تجد أنصاف المثقفين وأدعياء الدين يسكتون عن الباطل، ويداهنون الظالمين، ويرضون بفتات من خيرات السلطان، وكما يصفهم القرآن فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً ) (٣) ، ويقول عزّ مَن قائل يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَوَاضِعِهِ ) (٤) .

    وإنّ هؤلاء هم أخطر الفئات على المجتمع؛ لأنّهم يسرقون سلاح العلم والدين من أيدي المحرومين، ويضعونه بأيدي المستكبرين والطغاة لقاء دراهم معدودة. وليس لا يقاومون الظلم والاستكبار فقط، وإنما يحذّرون الناس ويشيعون بينهم أفكاراً سلبية وانهزاميّة، وما الأمثلة الجاهليّة الشائعة حتّى اليوم بين الطبقات المحرومة إلاّ من بقايا ثقافة وعّاظ السلاطين، وخول الطغاة من المتثقفين الخونة وأدعياء الدين السفلة.

    إنّهم أشاعوا بين الناس بأن السلطان ظل الله، وأنّ مَن تسلّط على الرقاب بالسيف فهو أحق الناس بالطاعة، وأنّ الحشر مع الناس عيد وإن كان إلى سعير جهنم، وأنّ معنى التقاة السكوت عن الطغاة، وأنّ اليد التي لا تقدر على قطعها استسلم لها وقبّلها، وأنّ مَن تزوّج اُمّي فقد أصبح أبي وعمي وعشرات من الأفكار الشيطانيّة الزائفة.

    إنّ هذه الطبقة من زيف المعاذير الشيطانيّة، والأفكار الانهزاميّة والسلبية التي غلقت أفئدة الناس بمختلف فئاتهم، كانت وراء فساد

    ____________________

    (١) سورة القصص / ٥٧.

    (٢) سورة الشعراء / ١١١.

    (٣) سورة البقرة / ٧٩.

    (٤) سورة المائدة / ١٣.

    ٦



    السلطة، وزيغ الثقافة، وسوء التربية والأخلاق، والفقر والظلم والحرمان، وما يستتبع ذلك من العصيان والشرك والكفر. فيا ترى أنّى لنا النجاة منها؟

    لقد أودع الله في ضمير البشر فطرة طاهرة، وعقلاً نيّراً، ونفساً لوّامة، وهو القائل وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا ) (١) . وأيّد ذلك الضمير برسالاته التي تواترت، وكتبه التي تواصلت.

    كلّما امتدت يد التحريف إلى رسالة، وفسّرها خدم السلاطين المترفين تفسيرات خاطئة، ابتعث الله رسولاً قائماً برسالات الله؛ لتكون حجة عليهم. ثم أكمل حجته بأوصياء هداة، وصدّيقين شهداء، تصدّوا للتأويلات الباطلة والتفسيرات التحريفيّة حتّى أبانوا الحق وأظهروه، ودحضوا الباطل وأسقطوه.

    إنّ أعظم محاور الرسالات وأعظم أهداف الرسل وخلفائهم، كان تبديد زيف التأويل الباطل عن الدين، ونفي الأعذار الشيطانيّة التي تخلّف الناس عن الدين بسببها.

    وقد خاض أنبياء الله وأولياؤه المؤمنون صراعاً مريراً من أجل نسف الأعذار والتأويلات الزائفة التي نشرها أدعياء الدين بين الناس، وسعوا جاهدين لكي يبقى مشعل الرسالة زكياً نقياً وضّاءً بعيداً عن زيف التبرير وزيغ التأويل؛ لكي لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.

    لقد رسموا بجهادهم وجهدهم، وكذلك بدمائهم الزكية، خط الرسالة التي تتحدى الطغاة المستكبرين في الأرض، المتسلطين على

    ____________________

    (١) سورة الشمس / ٧ - ٨.

    ٧



    الناس زوراً وعدواناً، والمترفين المستغلين لجهود المستضعفين والعلماء الفاسدين الخانعين اليائسين.

    وكانت نهضة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام علماً بارزاً في هذا الطريق الشائك؛ حيث كانت رسالة جدّه المصطفى (عليه وعلى آله صلوات الله) أعظم انتفاضة للضمير وتوهج العقل، وأسمى ابتعاث لدين الله الخالص من زيغ التأويل وزيف التبرير.

    لقد كانت المشكاة الصافية التي أضاء عبرها مصباح الوحي كل الآفاق، ولكنّ الشجرة الاُمويّة الملعونة في القرآن التي جسدت في الجزيرة العربية دور فراعنة السلطة والثروة، ودهاة المكر والتضليل، والتي صدّت عن سبيل الله والرسالة في بدر واُحد والأحزاب، لقد كانت هذه الشجرة لا تزال قائمة، وقد أوكلت مهمة اجتثاثها وتصفية الرواسب الجاهليّة التي تغذيها إلى خلفاء الرسولصلى‌الله‌عليه‌وآله .

    وها هم طفقوا يتسلّلون إلى المجتمع الناشئ ليزرعوا فيه بذور النفاق والشقاق؛ إنهم كما الخلايا السرطانيّة امتدوا إلى كل نفس طامعة، وقلب حاقد، ومستكبر يتوثّب للسلطة، ومترف يبحث عن مصالحه.

    وفي غفلة من الزمن تحققت رؤيا رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله الذي أخبر أصحابه عنها ذات يوم، أنه رأى قردة ينزوون على منبره.. فإذا بهذا الحزب الاستكباري يستغل الأوضاع المتوتّرة في عهد عثمان، ويقوم بما يشبه انقلاباً عسكرياً يقوده ابن أبي سفيان معاوية، ويخوض أصحاب النبي الميامين بقيادة أميرهم المقدام وإمامهم الهمام سيد الأوصياء علي بن أبي طالبعليه‌السلام ، يخوضون ضدهم حرباً ضروساً في صفّين لا تختلف عن حروب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ضد سلطة قريش.

    ٨



    وإذا سقط الإمام عليعليهم‌السلام شهيداً في محراب الكوفة بسيف غادر شحذه بنو اُميّة، وإذا مضى نجله الإمام الحسنعليهم‌السلام مسموماً ضمن مؤامرة اُمويّة، فإنّ للإمام الحسين دوراً متميّزاً في كربلاء؛ حيث يقتلع جذور الشجرة الخبيثة بإذن الله، وبالدم المظلوم الذي يهزم سيف البغي والعدوان، ولا يكون هنا غدر ابن ملجم وسم جعدة. كلا، لقد جاء دور المواجهة السافرة.

    كربلاء مشعل كشف الزيف

    تعليق


    • #3
      كربلاء مشعل كشف الزيف

      وهكذا أصبحت ملحمة كربلاء رمز المواجهة بين الحنفيّة البيضاء والشرك المتلصص، بين الحقّ الخالص الصريح والباطل المدنس المزخرف، بين الشجاعة والبطولة والتحدي وبين التذبذب والانطواء والتبرير.

      وأصبح الإمام الحسينعليهم‌السلام لواءً منشوراً لكل مَن يريد مقاومة الحكّام المتستّرين بالدين، وتحريف العلماء الخونة للدين، وسكوت المتظاهرين بالدين، وضد الدين المزيّف الذي أضحى سلاحاً فتّاكاً على الدين الحق، وضد المتظاهرين بالدين الذين تظاهروا ضد الخط الإيماني الصادق.

      وهكذا أضاء أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام على امتداد التاريخ درب المؤمنين المستضعفين الذي تآمر ضدهم ثالوث النفاق والدجل والجبن، هؤلاء المحرومين الذي تظاهر ضدهم المهووسون بالسلطة، ووعّاظ السلاطين، والمترفون مصاصو دماء الفقراء.

      وأية راية حق حاربت من أجل الله حملت شعار (يا لثارات الحسين)، وأي تجمع صالح قرر التحدي وضع نصب عينيه دروس

      ٩



      كربلاء، وأي رجل عقد العزم على أن يكون فداء لدينه كان مثاله الأسمى السبط الشهيد.

      وتبقى حاجتنا إلى مشعل سيد الشهداء ما دمنا نواجه نفاقاً اُمويّاً، ودجلاً شريحياً، وخيانة كالتي كانت عند أهل الكوفة.. وأنّى يكون لنا يوم نتخلّص من هذا الثالوث الخبيث؟! كلا، ما دامت الدنيا باقية فإنّ فتن الشيطان ووساوسه قائمة، وليس بالضرورة أن يكون المنافق اُمويّاً سافراً، أو شريحياً قاضياً عنده كما وعّاظ السلاطين، أو جبناء متظاهرين بالخيانة.

      كلا، ليس بالضرورة أن يكون كذلك؛ فقد يكون المنافق متظاهراً بحب السبط الشهيد، والدجّال متحدثاً باسمه، والجبان ينضوي تحت لوائه.. أو لم يرق أحدهم منبر الحسينعليهم‌السلام فقال: ما لنا والدخول بين السلاطين، ويحرم تعاطي السياسة. ولم يفكّر أن المنبر الذي اتخذه وسيلة معاشه لم يقم إلاّ على دماء السبط الشهيدعليه‌السلام ، وأنّ الإمام الحسين أعلن بكل صراحة أن مثله لا يبايع مثل يزيد.

      وإنّ الشيطان الذي حرّف كتاب الله المبين، وفسّر سيرة سيد المرسلين، وحكم باسم كتاب الله، وتحت شعار خليفة رسول الله بالجور والعدوان، إنه قادر أيضاً على تحريف نهج الحسينعليهم‌السلام ، وتفسير واقعة كربلاء بما يخدم مصالحه ويتماشى وأهواءه النفسانية.

      من هنا كان على الذين وعوا حكمة النهضة الحسينيّة، وعقدوا العزم على أن يعيشوا نهج سيد الشهداء رغم الصعاب، والذين تساموا إلى حيث جوهر الإسلام وروح الإيمان وعصارة تاريخ الأنبياء.. إلى حيث الصراع ضد الجبت والطاغوت، على هؤلاء أن لا يدعوا راية

      ١٠



      السبط الشهيد تُسرق من قِبل الدجّالين والمنافقين والمترفين، فإذا بهم يحاربون نهج الحسين باسم الحسين كما حارب بنو اُميّة نهج رسول الله باسم رسول الله، ونهج كتاب الله باسم كتاب الله.

      فحرام أن نعيش دهراً على شاطئ الحسينعليه‌السلام محرومين من ماء الحياة، من العزم الحسيني، من الشجاعة الحسينيّة، من العطاء الحسيني، من الكرم والإيثار، من المواجهة والتحدي، من كل تلك المعطيات التي زخرت بها ملحمة كربلاء الثائرة.

      إنّ الحسينعليهم‌السلام - كما جاء في حديث جدهصلى‌الله‌عليه‌وآله -« مصباح الهدى وسفينة النجاة » (١) ، إنه من الرسول والرسول منه(٢) ، إنه إمام المسلمين وحجة الله، وهو أعظم من مجرد تراجيديا كما أن كربلاء أسمى من مجرد فلكلور، إنه وريث الأنبياء وترجمان الأوصياء وقدوة الأتقياء، إنه مدرسة التوحيد.

      أوَلم تقرأ دعاءه في يوم عرفة؟ إن هذا نهج السبط الشهيد، فهل يجوز اختصاره في بضعة كلمات تراجيديا؟ إنه يمثّل الإسلام، أوَليس هو إمام الأمة وحجة الله؟ ومن هنا يجدر بنا أن نتّخذه إماماً في كل مناهجه وشرائعه.

      عرفان الرب

      تعليق


      • #4
        عرفان الرب

        أوّلاً: يوم انصهر في بوتقة التوحيد، وعرفان الرب، وزكاة القلب، والتبتل في الليل، وكان حاله تأويلاً صادقاً لقوله سبحانه كَانُوا قَلِيلاً مِنَ الَّليْلِ مَا يَهْجَعُونَ ) (٣) .

        ____________________

        (١) عيون أخبار الرضاعليه‌السلام للصدوق ٢ / ٦٢.

        (٢) قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله ( حسين مني وأنا من حسين )) . كامل الزيارات لابن قولويه / ١١٦.

        (٣) سورة الذاريات / ١٧.

        ١١



        وما دعاؤه في يوم عرفة إلاّ قبساً من نور توحيده، ووهجاً من شوقه إلى رضوان ربه، وفيضاً من حكمته الإلهية.

        ألا تراه واقفاً في صحراء عرفات تحت شمس الظهيرة اللاهبة، وقد رفع كفيه الضارعتين إلى ربه، وجرت دموعه الدافئة على خدّه، وهو يخاطب ربه بكل عفوية وانسياب ويقول:« أنت كهفي حين تعييني المذاهب في سعتها، وتضيق بي الأرض برحبها، ولولا رحمتك لكنت من الهالكين. وأنت مقيل عثرتي، ولولا سترك إياي لكنت من المقبوحين. وأنت مؤيدي بالنصر على أعدائي، ولولا نصرك إياي لكنت من المغلوبين. يا مَن خصّ نفسه بالسمو والرفعة فأولياؤه بعزه يتعززون، يا مَن جعلت له الملوك نير المذلة على أعناقهم فهم من سطواته خائفون، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وغيب ما تأتي به الأزمنة والدهور، يا مَن لا يعلم كيف هو إلاّ هو، يا مَن لا يعلم ما هو إلاّ هو » (١) .

        هذا القلب الكبير الذي استقبل نفحات الرب في عرفات الحجاز، هو القلب الذي استقبل تحدّيات الموت في يوم عاشوراء بتلك النفحات عندما ازدلف عليه أكثر من ثلاثين ألفاً من أعدائه يريدون قتله؛ فتوجّه إلى ربه ضارعاً وقال: «اللّهمَّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلفت، قابل التوبة لمَن تاب إليك، قادر على ما أردت، ومدرك ما طلبت، وشكور إذا

        ____________________

        (١) مفاتيح الجنان - دعاء عرفة.

        ١٢



        شكرت، وذكور إذا ذكرت. أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي مكروباً، واستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً، احكم بيننا وبين قومنا »(١) .

        هذا هو الإمام الحسينعليه‌السلام ، علينا أن نسمو إلى درجة اتّباعه في زهده وتقواه، في تبتّله وعبادته، في سلوكه وخلقه.

        سلسبيل الحب

        ثانياً: ويوم نشأ بسلسبيل حب الله والرسول وعترته، فكانت نفسه طاهرة من أدران الشرك ووساوس الشك، وحوافز الشر، وغل الحسد والحقد والعصبيات المادية. وحين نقف على ضريحه المبارك نترنم:« أشهد أنك طهر طاهر من طهر طاهر، طهرتَ وطهرت بك البلاد، وطهرت أرض أنت بها، وطهر حرمُك » (٢) .

        الطاعة سبيل اليقين

        ثالثاً: ويوم وقف بعزم صادق ونية خالصة إلى جانب اُمّه الصدّيقة الزهراءعليها‌السلام في معركة فدك، وإلى جانب والده الإمام عليعليه‌السلام في يوم الجمل، وفي صفّين والنهروان، وإلى جانب أخيه الإمام الحسنعليه‌السلام في حربه وسلمه. وهكذا كانت طاعته لقيادته الإلهية خالصة من أية شائبة، ذاب فيها كما تذوب قطرة ماء زلال في بحر فرات.

        ____________________

        (١) مفاتيح الجنان - أعمال اليوم الثالث من شعبان.

        (٢) كامل الزيارات لابن قولويه / ٣٦٠ باب ٧٩، زيارات الحسين بن عليعليهما‌السلام .

        ١٣



        ونحن إن نتبعه نروّض هوى النفس في ذواتنا لنصبح جزءاً من تيار التحرك، لا نريد لأنفسنا جزاء ولا شكوراً. وهكذا نقرأ في زيارته:« وأطعت الله ورسوله حتّى أتاك اليقين » (١) .

        وهكذا الطاعة سبيل اليقين، ومَن يرفض الطاعة بمعاذير يلقيها إليه الشيطان يصبح ضحية الوساوس طوال حياته.

        نهج الحياة

        رابعاً: وأخيراً نتّبعه يوم توّج تلك الحياة الربّانية بشهادته لتكون نهج حياة، ويوم شهادته كان السبط مثلاً أعلى لكلِّ التضحيات، وحجة بالغة علينا فيها.

        لقد قدم في يوم واحد كلّما يمكن أن يقدمه إنسان في سبيل ربه، كما ضرب أنصاره الكرام أروع الأمثلة في الإخلاص والإيثار. وهكذا كان الإمام حجّة بالغة على كل متقاعس عن الجهاد، متخاذل خنوع.

        إنهم يتقاعسون عن الجهاد حفاظاً على أموالهم ودورهم وضياعهم كما خشي عمر بن سعد وخرج بذلك لقتال الإمام الحسينعليهم‌السلام بكربلاء؛ أوَلم يكن للإمام ضياع ودور وأموال فتركها لله عندما قرر القيام ضد طاغية زمانه؟!

        ويتقاعس البعض عن الجهاد خوفاً على سمعته أن تنالها أجهزة التضليل الحكومية؛

        ____________________

        (١) مفاتيح الجنان - زيارة الإمام الحسينعليهم‌السلام - الزيارة السابعة.

        ١٤



        أوَلم يكن سيد الشهداء قد تعرّض لذلك التشويه فقالوا عنه: إنه قُتل بسيف جدّه، ونشروا في عرض البلاد وطولها أنه خارجي؟! وكانت مئات الاُلوف من المنابر التي أقامها النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله للدعوة إلى الله تبثّ الزيغ والتبرير، والتحريض على المجاهدين الأوفياء لدين الله، وضد أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام بالذات، وينكفئ البعض عن واجبه الشرعي لأنّه يخشى على عائلته واُسرته أن تتضرّر في زحمة الصراع السياسي!

        بالله عليكم، أيّ اُسرة أشرف من اُسرة النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله ؟ وأيّ أهل بيت أعظم من أهل بيت الوحي وقد حملهم معه سيد الشهداء إلى كربلاء ليكونوا معه على تلك المجزرة الرهيبة، ثم دعاة إلى القيام ضد بني اُميّة، وقد تعرّضت لكل ألوان البلاء وأشدها إساءة حتّى قُتلوا واُسروا؛ طافوا بهم البلاد، يتصفّح وجوههم أهل المنازل والمناهل، وهم حرم رسول الله، ومهابط وحي الله، ومعادن حكمته؟

        وبعض الناس يزعمون أنّ القيادة ينبغي أن تكون محمية بعيدة عن الخطر.. وأي قائد أعظم من حجة الله وسبط الرسول وكهف المحرومين أبي عبد اللهعليه‌السلام ، وها هو يقدّم نفسه للفداء قرباناً إلى ربه ودفاعاً عن الرسالة؟!

        وهكذا كان ولا يزال السبط الشهيد شاهداً خالداً علينا - نحن المسلمين - ضد كل تبرير وعذر، وتقاعس وانكفاء.

        واليوم حيث يتعرّض خط الرسالة للتشويه من قبل أبواق الكفر والنفاق، ما أحوجنا إلى الإمام الحسينعليه‌السلام ونهجه وسيرته، وشهادته الدائمة على العصور.

        ١٥



        وبصراحة، إنّ مَن يريد العزة والكرامة، والاستقلال والرقي لا بد أن يعد نفسه ومجتمعه إعداداً مناسباً، والنهج الحسيني هو الإعداد المناسب لكل تلك التطلعات. علينا اليوم أن ننفتح على هذه النفحة السماوية التي تفيض بها ملحمة عاشوراء.

        تعالوا نفكّر جدّياً وجذرياً كيف نبدأ الانعطافة الكبرى في حياة اُمتنا؛ ألا يكفي الذل والصغار؟ ألا يكفي التشريد والتشرذم؟ ألا تكفي الهزائم والويلات؟ ألا يكفي هتك الأعراض، وقتل الأطفال و و ...؟

        تعالوا نبني ذلك التجمّع الناهض الذي يحتمي بظل الإسلام الحنيف، والنهج الحسيني الثائر ضد فتن الجاهليّة وبغي الاستكبار، وقيد الجبّارين ومكر الطامعين. أجل، إنّ الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة.. تعالوا نضيء جنبات حياتنا المظلمة بهذا المصباح الإلهي.

        ١٦



        الفصل الأول: آية الهدى

        تعليق


        • #5
          الفصل الاول اية الهدى


          الجانب الربّاني من شخصيّة الإمام الحسينعليه‌السلام

          من الملفت للنظر في حياة الإمام الحسينعليه‌السلام أنّ هناك خصّيصة بارزة في حياته علينا أن نكتشفها ونعتصم بها، ألا وهي ربانيته، وتجرده في ذات الله تعالى، وذوبانه في بوتقة التوحيد، وابتعاده عن أي غلٍّ أو شائبة مادية.

          ونحن لو تعرّفنا على هذه السمة في حياة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، فإننا سوف لا نستطيع فقط أن نتعرّف على جوانب شخصيته، بل سوف يكون بإمكاننا انتهاج نهجه، والاستنارة بسيرته، والرقي ولو بمقدار بسيط إلى تلك القمّة التي كانعليه‌السلام قد سما إليها.

          والطريق إلى تحقيق هذا الهدف واضح؛ فمن أراد الله تعالى فعليه أن يبدأ بأبوابه، وأبو عبد اللهعليه‌السلام هو من أوسع هذه الأبواب. ومَن أراد معرفة الحسينعليه‌السلام فلا بدّ أن يبدأ بمعرفة ربه خالق السماوات والأرض.

          والإمام الحسينعليه‌السلام لم يكن رجل حرب وبطل مواقف جهادية فحسب، وإنما كان يكمل مسيرته الجهادية بمسيرة عبادية.

          وفي هذا

          ١٩



          المجال يروى أنه قيل لعلي بن الحسينعليه‌السلام : ما أقل ولد أبيك! فقال:« العجب كيف ولدتُ! كان أبي يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة » (١) .

          إنّ هذا الرجل العظيم الذي كان يتفرّغ إلى الله ويبكي ويتهجد ليلاً، هو نفسه الذي حمل السيف في يوم عاشوراء وصرخ بذلك الدويّ الذي ما زال هتافه يحرك الملايين:« هيهات منا الذلة » . فالإيمان هو الذي يحدد مسار الإنسان، وهو الذي يوجب عليه أن يسلم تسليماً مطلقاً، ويكيّف مواقفه بحسب ما يأمره به الله تعالى.

          التسليم المطلق

          إنّ هذه الحالة (حالة التسليم المطلق) هي التي تفسّر لنا جميع أبعاد شخصية الحسينعليه‌السلام ، ونحن نجد تجلّياً لهذا الإيمان في الدعاء الذي قرأهعليه‌السلام في يوم عاشوراء، وهو:« اللّهمَّ أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال، غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دُعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شُكرت، ذكور إذا ذُكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً.

          اللّهمَّ احكم بيننا وبين قومنا بالحق؛ فإنهم غرّونا وخذلونا، وغدروا بنا وقتلونا، ونحن عترة

          ____________________

          (١) بحار الأنوار ٤٤ / ١٩٦.

          ٢٠



          ولد نبيك وولد حبيبك محمّد الذي اصطفيته بالرسالة، وأتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين »(١) .

          لقد قرأ أبو عبد اللهعليه‌السلام هذا الدعاء عندما أحاط به ثلاثون ألفاً، وربما يكونعليه‌السلام قد قرأه بعد أن وقع أصحابه وأهله صرعى مضرّجين بدمائهم على أرض كربلاء، ومع ذلك فقد كانت بصائر الإيمان تتلألأ وتتجلّى في ملامحه، فكان كلما ازدادت المصاعب عليه ازدادت طلعته بهاءً وانشراحاً؛ لأنه كان يعلم أنه قد نجح في أكبر تجربة، وأعظم بلاء فشل فيه الآخرون.

          إن هذا الدعاء هو الذي جعل أبا عبد اللهعليه‌السلام مقياساً وإماماً لنا، وقدوة إلى الأبد، فمثل هذه الروح الإيمانية، والسمو المعنوي جعلا سيدنا أبا عبد اللهعليه‌السلام شعلة وقّادة في نفوس الملايين؛ بحيث إننا نجد اليوم ما نجده من بطولات وشجاعة المجاهدين المتّبعين لنهج الحسينعليه‌السلام .

          ولسوف تمتلئ الأرض عدلاً وحقاً بسيف حفيد أبي عبد الله الإمام الحجة المنتظر عجّل الله فرجه الشريف؛ حيث سيخرج هذا الإمام حاملاً سيفه وهو يهتف:« يا لثارات الحسين » .

          لا بدّ من صبغة ربّانية

          تعليق


          • #6
            لا بدّ من صبغة ربّانية

            ولذلك فإن نصرة الله تعالى للحسينعليه‌السلام سوف تتجلّى في هذا اليوم؛ لأنّه أعطى لله كل شيء، فهو تعالى الحبل الذي اعتصم به أبو عبد الله، ولا بدّ أن نعتصم به.

            وإنّ أهم وصية أوصى بها أنبياء الله

            ____________________

            (١) مقتل الإمام الحسينعليهم‌السلام للسيد المقرم / ٢٨٢.

            ٢١



            وأوصياؤهم هي التقوى والتجرّد من الذات، وهذه الوصية هي أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا، وبالذات لمن يعمل في الساحة السياسية؛ فالإنسان الذي دخل ساحة السياسة لا بدّ أن يدخل في لجج من الفساد الاجتماعي والمشاكل والقضايا المعقدة، فلا بدّ للإنسان الرسالي من أن يزداد اتّصالاً بالوحي والتعاليم الإلهية والرجال الربانيين.

            ومن جهة اُخرى، إنّ الإنسان الرسالي الذي يخوض المعترك السياسي يواجه ضغوطاً كبيرة؛ فالمستكبرون يوجّهون إليه الضغوط من كل جانب، ومثل هذا الإنسان يختلف عن الإنسان العادي، إنه يحتاج إلى تقوى تحجزه من السقوط في مطبات كثيرة؛ ولذلك فإنّ الرساليين مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى أن يجعلوا صبغتهم العامة صبغة ربانية من خلال اُسلوبين:

            ١ - الاتصال بالقرآن الكريم

            ٢ - البحث في سيرة أهل البيتعليهم‌السلام

            فنحن كلما بحثنا في سيرتهمعليه‌السلام وازددنا اتصالاً بهم، وازداد تمسّكنا بنهجهم، بذلك يعصمنا الله من المشاكل والأزمات التي تحيط بنا.

            هذه هي الوصية الاُولى، أمّا الوصية الثانية تتمثل في أننا - نحن المسلمين - ما نزال متخلّفين في الاستنارة بالشعلة الحسينيّة الوقّادة بالرغم من أن خطباءنا وكتّابنا الأماجد قد فعلوا الكثير في سبيل بث الروح الحسينيّة في نفوسنا، ولو أننا استفدنا من كل جوانب حياتهعليه‌السلام وجعلناه قدوة واُسوة لنا لاستطعنا أن نصل إلى أهدافنا بسرعة أكبر؛ لذلك فإننا مطالبون بإلحاح لدراسة حياة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وحياة الطيبين من أبنائه، والسائرين على دربه.

            ٢٢



            امتحان الاختيار في ثورة الحسين عليه‌السلام

            تعليق


            • #7
              امتحان الاختيار في ثورة الحسينعليه‌السلام

              ليست بطويلة تلك المسافة الزمنية التي تفصل بين ولادتين مباركتين كان فيهما مجد الأمة الإسلاميّة وعزّتها وحياتها الخالدة بخلود رسالتها الإلهية وامتدادها؛ إنهما ولادتان لإنسان واحد جسّد الكمال الذي تصبو إليه الإنسانيّة، ذلك هو السبط الشهيد الحسينعليه‌السلام . وتلكما الولادتان هما الولادة الحقيقية يوم خرج ابن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله من رحم الرحمة المرضي، رحم الطهارة والنور فأنار الدنيا ومَن عليها بإطلالته، ثمّ الولادة المعنوية التي كتبت له الخلد في كل ضمير حيٍّ ينشد الصلاح والخير.

              إنها لقصيرة تلك المسافة إذا ما قورنت بذلك الدور التاريخي العظيم الذي ينبغي أن يؤدّي في مثل هذا العمر الزمني. لقد ولد أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وفتح عينيه الشريفتين على نور الرسالة المباركة الذي ولد هو الآخر مع ولادته، فشاء الله تعالى أن يندمج نور الرسالة البهي بدم ولحم وروح هذا الوليد الطاهر، وأن يجعل بقاءها وخلودها في عمق الزمان رهن هذا الدم الزكي، وتلك الروح الطاهرة التي

              ٢٣



              تجسدت بولادته وحياته الأبدية في يوم ذروة العطاء والتضحية، يوم كربلاء والشهادة.

              سر عظمة وشموخ الحسينعليه‌السلام

              تعليق


              • #8
                سر عظمة وشموخ الحسينعليه‌السلام

                وهنا يتبادر إلى أذهاننا السؤال المحوري التالي الذي يتضمّن عدّة تساؤلات: ما الذي جعل الإمام الحسين حسين الحق الشامخ الأبي؟ وما السر الذي جعل أئمة العصمة الهداة أئمة وقادة لنا نحن المسلمين؟ ثمّ ما السر في وقوع الاختيار الإلهي على هذه العصبة الطيّبة من الرجال الأفذاذ فأكرمهم بأنوار الرسالة بأن جعل منهم أئمة بعد أن اختار من اُصولهم الأنبياء والرُّسل؟

                هناك تفسير غيبي لا اُريد تناوله؛ لما فيه من عمق واتساع وبحث طويل لا يتّسع له بحثنا هذا. فعلينا أن لا ننسى تلك الحقيقة الغيبيّة، وهي أن لله سبحانه وتعالى في خلقه شؤوناً نحن قاصرون وعاجزون عن الوصول إليها إلاّ بمقدار معرفتها ظاهرياً، والتسليم المطلق لها؛ ولذلك فإن السؤال المحوري الذي طرحناه سيدور جوابه حول ما نفهمه ونعيه ونستفيد منه عملياً.

                وأود أن اُقدّم لجواب هذا السؤال مقدمة هي عبارة عن ملاحظة استوحيتها واستلهمتها من مجمل آيات الذكر الحكيم، وآثار العترة الطاهرة التي هي عِدل القرآن؛ هذه الملاحظة تتمثّل في أن الله تعالى خلق الأشياء يوم فطر السماوات والأرض خلقاً واحداً، في حين أنه خلق الإنسان خلقين، فبأمره سبحانه خُلقت الأشياء وصارت وجوداً بتلك القوة الأزلية كما عبّر عن ذلك (جلّت قدرته) بقوله إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ) (يس / ٨٢).

                ٢٤



                فهذا الكون الذي نحسه ونبصره إنما كان رهن (كاف) و(نون) إلهية، ثمّ كانت التطورات والأشياء الاُخرى من صنع الله القدير بأسباب وعوامل وسنن خارجة عن الأشياء. فتحولات الكون وتطوراته ومستجدّاته إنما وجدت بفعل تلك القوانين والسنن الكونيّة التي أودعها الله تعالى في الوجود، هذا في حين أنه تعالى عندما خلق الإنسان وفطره فإنّ إرادته شاءت أن يكون هذا الخلق الواعي والناطق مرّة بيد قدرته وبصورة مباشرة؛ حيث قال جلّ وعلا إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِن طِينٍ ) (ص / ٧١)، ومرة اُخرى بيد الإنسان نفسه بعد أن منحه تعالى ميزة الاختيار وسمة الحرية.

                ومنذ ذلك الوقت الذي أمضى فيه الصورة الثانية من الخلق كانت هذه الميزة والسمة الجليلة مشتقّة من اسمه المبارك، بل من أسمائه الحسنى، وهي: الحرية والاختيار والقدرة.

                ولقد بلغت هذه القدرة درجة وعظمة مكّنته من أن يسمو ويرتفع إلى مقام ومنزلة من السمو والكمال تبلغ به قاب قوسين أو أدنى من الكمال إن شاء السمو والارتفاع وبلوغ الدرجات العُلا. أمّا إذا شاء هذا الإنسان - والعياذ بالله - أن ينحدر ويهوي إلى أسفل سافلين، والدرك الذي لا يمكن لنا أن نتصوره، فإن هذا بإمكانه أيضاً؛ لأنّ هذا يعود إلى حرية الاختيار والإرادة الممنوحة لهذا الإنسان بالفطرة.

                تعليق


                • #9
                  إرادة الإنسان فوق كلّ قوة

                  إنني وحسب معرفتي ومعلوماتي لم أعثر على قوة ما يمكن أن تسيطر على ذات الإنسان الإرادية وتفرض وجودها عليها، وبمعنى آخر ليست هناك قوة تجبر الإنسان على تغيير سلوكه وتصرفاته

                  ٢٥



                  من خارج ذاته، بل إنّ هذا التغيير لا يحصل إلاّ من ذات الإنسان؛ فالقوى الخارجيّة إنما تؤثّر في الإنسان بصورة غير مباشرة، فهي تقصد التأثير على الذات أوّلاً، وعندها تقرر الذات هذا التغيير فيخرج إلى الفعل بقوّتها، أي قوة الذات العقلية عند الإنسان.

                  لقد خُلق الإنسان حين خُلق من مزيج الطين والنور، ومن قبضة التراب التي تغلغلت بين ذرّاته نفحة الروح فكان خلقاً من جنّة في جانب منه، ومن نار في جانب آخر. ويبقى مصيره حينئذ رهن اختياره وسلوكه؛ فإمّا أن يحوّل ذاته إلى السلب والنار، بأن يدس نفسه ويوغل ذاته في تراب الشهوات وأوحال الأهواء الضالة، فيضيع في ركام التيه والخرافة، فتصبح ذاته نارية بكل ما في الكلمة من معنى، فتُحشر مع أهل جهنم وأصحاب السعير.

                  أمّا عندما تسلك الذات الطريق الموجب؛ طريق الارتفاع والعلوّ والتزكية والسمو نحو الكامل المطلق، فإنها ستغدو حينئذ نوراً بإذن الله، فتنطلق مع أصحاب النور إلى المستقر الخالد والنعيم الأبدي في جنّات عدن تجري من تحتها الأنهار.

                  طريقان لا ثالث لهما

                  فلتنظر الذات الإنسانيّة ولتبصر؛ فالطريق طريقان لا ثالث لهما؛ فإمّا إلى الأعلى مع العلي الأعلى، وإمّا إلى الأسفل مع الشيطان الأدنى. ولينظر الإنسان حينئذ في حياته وكدحه، وفي الطريق التي يسلكها يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ ) (الانشقاق / ٦).

                  إنّ كل ما في القرآن وآثار العترة الطاهرة، بل إنّ جميع الرسالات التي حملها رُسل الله وأنبياؤه وأوصياؤه إنما تدور حول هذا المحور،

                  ٢٦



                  فهي كلّها تؤكّد وتشير إشارات واضحة: أن يا أيها الإنسان، كن على يقظة وحذر، اصحَ من غفلتك، ابتعد عن مسالك الشيطان الكامنة في النفس الأمّارة.

                  إنّ جميع الرسالات السماوية تصرخ بالإنسان أن عد إلى ذاتك؛ فإنك وحدك القادر على أن تصنع تلك النفس وتخرجها من حالة الأمر بالسوء إلى الأمر بالخير والكمال، فالحركة إنما تنطلق بالإرادة الكامنة في الذات الإنسانيّة.

                  وهذه الحقيقة هي التي تؤكّدها المدرسة الحسينيّة، وتبثّها من عمق الزمان منذ يوم مصرعه الداميعليه‌السلام وحتى قيام الدولة الفاضلة المثلى على يد حفيده المهدي الموعودعليه‌السلام .

                  الإمام الحسينعليه‌السلام وامتحان الاختيار

                  والإمام الحسينعليه‌السلام بطبيعة تكوينه كأي مخلوق إنساني فُطر في خلقه الاختيار كأي إنسان، وقد امتحنعليه‌السلام بالتخيير في أوج حياته الرساليّة، ويا له من تخيير! إنه التخيير بين أمرين، حتّى إنهعليه‌السلام أكّد بنفسه هذه الحقيقة وأشار إليها بقوله:« ألا وإنّ الدعي ابن الدعي قد تركني بين السلة والذلة، وهيهات له ذلك! هيهات مني الذلة؛ أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون، وجدود طهرت، وحجور طابت » (١) .

                  فالحسينعليه‌السلام قد تمّ تخييره هنا، وكان بإمكانه أن يختار ويسلك المسلك الذي يرتئيه، وهذا الواقع لا يمكن أن يفر منه إنسان؛ فكل واحد لا بدّ أن يمرّ بامتحان الاختيار هذا في حياته ويُعرّض لابتلاءاته وفتنه؛ بدءً من الرسل والأنبياء، وانتهاءً بمَن هم دونهم ودون

                  ____________________

                  (١) بحار الأنوار٤٥ / ٨٣.

                  ٢٧



                  دونهم، فجميعهم مروا بامتحان التخيير وعانوا فتنه ومصائبه، فكان عليهم في ذلك الخضم أن يختاروا ويقرّروا الاتجاه والمسلك.

                  وقد اجتاز الإمام الحسينعليه‌السلام هذا الامتحان بأعلى درجات التفوق عندما ابتلي بالاختيار، فأطلق ذلك الهتاف الخالد الذي دوّى في عمق التاريخ أن:« هيهات مني الذلة » . فهذه هي خيرة أبي عبد الله الحسينعليه‌السلام ، وهذا هو قراره التاريخي الذي بيّنه لكلِّ مَن أراد أن يعيش في الحياة حراً. ونحن الذين ندّعي حبَّ الحسينعليهم‌السلام وموالاته لا بدّ لنا من الاقتداء به؛ ليكون هذا الاقتداء مصداقاً للحب والموالاة هذين.

                  والاقتداء هو قرار ذلك الامتحان، امتحان الخيرة الذي لا مفرّ من التعرض له، فأنا أرى أنّ من المستحيل أن يولد الإنسان في هذا الدنيا وينمو وينضج من دون أن يتعرّض لفتن تقرر وترسم مصيره، فكل إنسان من ذكر واُنثى لا بدّ أن يمر بمواقف وساعات الاختيار.

                  كيف نختار، وما هي عوامل الاختيار؟

                  تعليق


                  • #10
                    كيف نختار، وما هي عوامل الاختيار؟

                    وهنا يبرز سؤال مهم في هذا الصدد، وهو: كيف لنا أن نختار؟ وما هي العوامل التي تكون في عوننا ساعة الاختيار، ولحظات اتخاذ القرار التي هي لحظات خطيرة ومصيرية، وتمتاز بكونها محدودة وخاطفة؟

                    من هذه العوامل عاملا التربية والوراثة اللذان تؤكّدهما تلك الصرخة الثوريّة التي أطلقها أبو عبد الله الحسينعليه‌السلام في وجه الاستكبار والانحراف والاستبداد الاُموي.

                    وهناك عوامل اُخرى يمكن للإنسان الإمساك بزمامها والتحكم بها؛ منها عامل الثقافة، وعامل تاريخ الإنسان وماضيه؛ فالإنسان المنقاد إلى ربه بمواظبته على أداء الفرائض العبادية، والمنشغل ليله ونهاره بذكر الله العظيم، هذا

                    ٢٨



                    الإنسان متوجّه بدمه ولحمه، وروحه ونفسه وعقله إلى الله سبحانه، لاهج لسانه بترديد الدعاء الشريف:« ربّي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبداً » (١) .

                    ولذلك فإنّ يد الرحمة الغيبيّة ستكون في عونه لإنقاذه في لحظة الاختيار، فتثبت قدمه، وتطمئن قلبه، لا تدعه يتزلزل وينهار، ولا تهجره ليصبح عرضة لفتن وابتلاءات الزمان.

                    ولا عجب من أن تمتد يد الرحمة الإلهية لعون هذا العبد؛ ذلك لأنه قد ذكر ربه في السرّاء من العيش فأجابه ربه، وذكره حين الضراء والشدة. قال الله تعالى فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ) (البقرة / ١٥٢).

                    وعندما نقرأ تاريخ الإمام الحسينعليه‌السلام قراءة واعية وموضوعية، نجد أنهعليه‌السلام ولد ثانية في كربلاء ساعة نيله تلك المنزلة الرفيعة التي لم ينلها أحد من قبل، وهي منزلة ربّانية اختارها الله تعالى له ليخلد مثالاً وضّاءً في قلب التاريخ لا ينقطع شعاعه، ولا يخمد وهجه رغم كل محاولات الاُمويّين على امتداد هذا التاريخ.

                    الإمام الحسينعليه‌السلام مجمع الكرامات والفضائل

                    ترى لِمَ هذا الاختيار الإلهي؟ ربما كان هناك مَن سبق الإمام الحسينعليه‌السلام من الأنبياء في الشهادة، وتلت قافلته مئات القوافل من المؤمنين الشهداء على طريقه، لكن شهادة الحسينعليه‌السلام تتجلى بنور خاص بها، إنها وسام ربّاني قلّ مَن نال شرفه.

                    ____________________

                    (١) مصباح المتهجد للشيخ الطوسي / ١٦.

                    ٢٩



                    ولعلّ أقدس المكرمات التي اُعطيها الحسينعليه‌السلام أن جعل الله سبحانه منه استمرار ذرّيّة الهداية والعصمة الطاهرة، ومنهعليه‌السلام أيضاً ينحدر أصل الإمام الحجة القائم المهدي (عجّل الله فرجه الشريف) الذي يملأ الله به الأرض قسطاً وعدلاً بعد ما مُلئت ظلماً وجوراً، فهذه هي أعلى المكرمات بعد الشهادة.

                    ثم إنّ من تلك الكرامات أيضاً أن جعل سبحانه في تربته الشفاء من الآلام والأسقام، ولعلنا كلّنا قد لمسنا وجرّبنا هذه الحقيقة؛ فالكثير منا يروي خلاصه من أخطار جمّة؛ لأنه كان يحمل معه حبّات من تلك التربة الطاهرة التي امتزجت بقطرات دم سيد الشهداء ودم أصحابه الأوفياء.

                    وأنا هنا لا اُريد أن أزجّ نفسي والقارئ في مخاض غيبي؛ ذلك لأنّ للغيب مقدماته واُصوله وحديثه المسهب. ثمّ إنّ كل امرئ ليس قادراً على استيعاب وتحمّل معاني الغيب وآفاقه الواسعة إلاّ ذلك الذي رُزق الحكمة، واُوتي البصيرة والتدبير والوعي، ولكني اُريد البحث هنا في المعاني البسيطة الظاهرة للأذهان، والمستلهمة من الظاهرة التاريخيّة.

                    وبعد أن انتهت فصول تلك الملحمة العظيمة في التاريخ البشري باستشهاد الإمام الحسينعليه‌السلام وصحبه الأوفياء، همّ نجل الإمام الحسين الشهيد الإمام زين العابدينعليه‌السلام بحمل جثمان أبيه سيد الشهداء، فوجد على ظهره آثار جرح ليس كبقية الجراح، فقد كان يبدو عليه القدم، فقال الإمامعليه‌السلام :« حاشا لله أن يكون والدي قد جُرح من ظهره! » .

                    وقد صدق زين العابدينعليه‌السلام ؛ فالحسين ما ولّى ولم يولِّ ظهراً لعدوٍ طلبه

                    ٣٠



                    حتّى يُصاب في ظهره، فهذا هو شأن الأئمةعليهم‌السلام ؛ لأنّ معنى الانهزام وتولية الأدبار لم يك يوجد في قاموس شجاعتهم وفروسيتهم، فمن أين مصدر الجرح هذا إذاً؟

                    إنه وكما تقول الروايات آثار ذلك الجُراب (الكيس) الذي كان يحمله في تلك الليالي المظلمة؛ فقد كانعليه‌السلام يحمل على ظهره تلك الجراب الملأى بالمساعدات، فيؤدّي خدمة للعباد ابتغاء مرضاة الله. فهذه الخدمات التي قد يستنكف بعضنا عن أدائها قد أدّاها أئمتنا المعصومونعليهم‌السلام ومنهم الإمام الحسينعليهم‌السلام .

                    إنّ هذه الأعمال الصالحة والخدمات الإسلاميّة العظيمة لا تضيع عند الله سبحانه، وحاشا له ذلك، إنها لا بدّ أن تتحول في يوم من الأيام إلى خدمة كبيرة، ومنزلة عظيمة، ودرجات علوية في الآخرة كما هي في الدنيا، فهذه هي مسيرة الكمال والرفعة؛ درجة بعد درجة حتّى بلوغ القمة.

                    ماذا نستلهم من شهادة الحسينعليه‌السلام
                    ؟

                    تعليق

                    المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
                    حفظ-تلقائي
                    Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
                    x
                    يعمل...
                    X