الشيخ علي آل محسن
تمهيد
إن الأحاديث الصحيحة الدالة على لزوم التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) كثيرة مستفيضة، وقد رُويت بطرق صحيحة في كتب الحديث عند أهل السنة، وصحَّحها كثير من حفَّاظ الحديث في كتبهم.
بل إن تلكم الأحاديث تدل بما لا يقبل الشك على أن النجاة من الوقوع في الضلال لا تتحقق إلا باتباع أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) دون سواهم.
ومع ذلك فإن أهل السنّة تركوا التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) واتّبعوا غيرهم، ومالوا إلى سواهم، فتركوا اتّباع من أُمروا باتباعهم بمقتضى الروايات الصحيحة عندهم، واتّبعوا مَن لا دليل عندهم على صحَّة اتّباعه.
هذا ما سنكشف النقاب عنه في البحوث الآتية:
حديث الثقلين
إن الأحاديث الدالة على لزوم اتّباع أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، ومن أتمها دلالة وأصحَّها سنداً هو حديث الثقلين، المروي عن جمع من الصحابة، كجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدرى، وزيد بن ثابت، وغيرهم. وصحَّحه جمع من حفَّاظ الحديث من أهل السنة كما سيأتي بيانه مفصَّلاً إن شاء الله تعالى.
طرق حديث الثقلين
1 ـ أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم ـ في حديث طويل ـ أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيك ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسِكوا به. فحثَّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى. 1
2 ـ وأخرج الترمذي وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في حَجّته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتى أهل بيتى. 2
3 ـ وأخرج أيضاً عن زيد بن أرقم وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، ولن يتفرَّقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلِّفونّي فيهما. 3
4 ـ وأخرج أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهم عن زيد بن أرقم، قال:
لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقُمِمْن، 4 فقال: كأني دُعِيتُ فأجبـتُ، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتى، فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض.... 5
5 ـ وأخرج الحاكم في المستدرك أيضاً عن زيد بن أرقم، قال: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى، ثم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وذكَّر ووعظ ما شاء الله أن يقول، ثم قال: أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتَّبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتى عترتى.... 6
6 ـ وأخرج الحاكم في المستدرك، وابن أبي عاصم في كتاب السنة وغيرهما عن زيد بن أرقم أيضاً، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بيتى، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 7
7 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، والسيوطي في الجامع الصغير، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله وعترتى أهل بيتى، وإنهما لن يتفرّقا حتى يرِدا علي الحوض. 8
8 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، عن أبي سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 9
9 ـ وأخرج أحمد في المسند، وابن سعد في الطبقات، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عن أبي سعيد أيضاً، عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: إني أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض، فانظروني بم تخلّفونّي فيهما. 10
10 ـ وأخرج ابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة، والطحاوي في مشكل الآثار وغيرهم، عن علي (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ في حديث ـ قال: وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، سببه بيده، وسببه بأيديكم، وأهل بيتى. 11
11 ـ وأخرج البوصيري في مختصر الإتحاف عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك معكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله عز وجل وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. 12
وأخرج هذا الحديث بنحو ما تقدم وبألفاظ أخرى متقاربة: أحمد بن حنبل في المسند 13 وفي فضائل الصحابة،14 والهيثمي في مجمع الزوائد، 15 والسيوطي في تفسيره الدر المنثور، 16 وفي إحياء الميت. 17 والمتقي الهندي في كنز العمال، 18 وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، 19 والنسائي في خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام)، 20 والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب، 21 وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، 22 والدارمي في السنن،23 والبيهقي في السنن الكبرى، 24 وابن الأثير في جامع الأصول، 25 والطبراني في المعجم الكبير والصغير، 26 وغيرهم.
وذكره كثير من الأعلام في مصنَّفاتهم: كالسيوطي في الخصائص الكبرى، 27 وابن تيمية في منهاج السنة، 28 والنووي في رياض الصالحين، 29 والقاضي عياض في الشفا،30 والطبري في ذخائر العقبى،31 وابن الأثير في أسد الغابة، 32 والذهبي في سير أعلام النبلاء،33 وابن حجر في الصواعق المحرقة، 34 والدولابي في الذرية الطاهرة، 35 والتفتازاني في شرح المقاصد، 36 وابن حزم في الإحكام، 37 وابن المغازلي في المناقب 38 وغيرهم.
وذكره من أصحاب المعاجم اللغوية ابن منظور في لسان العرب، 39 والفيروز آبادي في القاموس المحيط،40 والزبيدي في تاج العروس، والزمخشري في الفائق في غريب الحديث،41 وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 42 وغيرهم.
صحة سند الحديث
صحَّح هذا الحديث جمع من أعلام أهل السنة، وقد ذكرنا تصحيح بعضهم فيما تقدم: منهم الحاكم النيسابوري في المستدرك، والذهبي في التلخيص، والسيوطي في الجامع الصغير، والهيثمي في مجمع الزوائد، والذهبي كما في البداية والنهاية، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وصحيح الجامع الصغير، وحسَّنه الترمذي في سننه، والبغوي في شرح السنة، وقد مرَّ ذلك كله.
مضافاً إلى ذلك فقد صحَّحه أيضاً ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة، وابن كثير في البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم، والمناوي في فيض القدير وغيرهم.
قال ابن حجر: ومن ثم صحَّ أنه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتى. 43
وقال: وفي رواية صحيحة: كأني دُعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما آكد من الآخر: (كتاب الله عز وجل وعترتى، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)... ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً، لا حاجة لنا ببسطها. 44
وقال المناوى: قال الهيثمى: (رجاله موثقون). ورواه أبو يعلى بسند لا بأس به... ووهم من زعم وضعه كابن الجوزى. 45
وقال ابن كثير بعد أن ساق رواية النسائي المتقدمة: قال شيخنا الذهبى: هذا حديث صحيح. 46
وقال في تفسيره: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال في خطبته بغدير خم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 47
وقد ذكر الألباني هذا الحديث ضمن أحاديث سلسلته الصحيحة، وخرَّج بعض طرقه وأسانيده الصحيحة والحسنة، وذكر بعض شواهده وحسَّنها، ووصف من ضعَّف هذا الحديث بأنه حديث عهد بصناعة الحديث، وأنه قصَّر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه، وأنه فاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة، فضلاً عن الشواهد والمتابعات، وأنه لم يلتفت إلى أقوال المصحِّحين للحديث من العلماء، إذ اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة دون غيرها، فوقع في هذا الخطأ الفادح في تضعيف الحديث الصحيح. 48
تأملات في حديث الثقلين
قوله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك) أو (إني مخلِّف): فيه إشعار بعِظم وأهمية ما سيخلَّفه أو سيتركه للأمّة من بعده، لأن ما يخلّفه النبي (صلى الله عليه وآله) للأمّة لا بد أن يكون نفيساً وخطيراً.
ثم إنه لا بد أن يكون منبعاً من منابع العلم، ومصدراً من مصادر الحكمة، لأن الأنبياء لا يورِّثون للأمَّة دراهم أو دنانير، وإنما يورِّثون لهم العلم والحكمة.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. 49
وقوله (صلى الله عليه وآله): (الثقلين): بيَّنهما فيما سيأتي من كلامه بأنهما الكتاب والعترة.
قال ابن حجر: سَمَّى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) القرآن وعترته ـ وهي الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية. ولذا حث (صلى الله عليه [وآله] وسلم) على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت. وقيل: سُمِّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما. 50
قلت: وهذا المعنى للثقلين ذكره أرباب المعاجم اللغوية، ومنهم ابن منظور في لسان العرب، وابن الأثير في النهاية، والهروي في غريب الحديث، وغيرهم.
قال ابن منظور: قال ثعلب: سُمِّيا ثقلين لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل، قال: وأصل الثَّقَل أن العرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثَقَل. فسمَّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما. 51
وقريب من ذلك كلام ابن الأثير 52 والفيروزأبادي في القاموس. 53
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: سمَّى كتاب الله وأهل بيته بهما لِعِظم قدرهما، ولأن العمل بهما ثقيل على تابعهما. 54
وقال الزمخشري في الفائق: الثقل المتاع المحمول على الدابة، وإنما قيل للجن والإنس الثقلان، لأنهما ثقال الأرض، فكأنهما أثقلاها، وقد شبَّه بهما الكتاب والعترة في أن الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين. 55
قوله (صلى الله عليه وآله): وعترتي أهل بيتى
قال ابن منظور في لسان العرب: عِتْرَة الرجل: أقرباؤه من ولد وغيره... وقال أبو عبيد وغيره: عِتْرَة الرجل وأُسرَته وفصيلته: رهطه الأدنون. [وقال] ابن الأثير: عِتْرَة الرجل أخصّ أقاربه. وقال ابن الأعرابى: العِتْرة: ولد الرجل وذرّيّته وعَقِبه من صُلبه، قال: فعترة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ولد فاطمة البتول (عليها السلام). وروي عن أبي سعيد قال: العترة ساق الشجرة، قال: وعترة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) عبد المطلب وولده. وقيل: عترته أهل بيته الأقربون، وهم أولاده وعلي وأولاده. وقيل: عترته الأقربون والأبعدون منهم... إلى آخر ما قال. 56
وأقول: إن مسألة بيان مَن يكون التمسّك به منقذاً من الضلال لا تحتمل الإبهام من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلا لكان ذِكرها كإهمالها، ولا سيما مع علم النبي (صلى الله عليه وآله) أن الأمة ستختلف من بعده إلى فِرَق وطوائف كثيرة.
ولذا فسَّر النبي (صلى الله عليه وآله) المراد بعِتْرته في كل الأحاديث التي سقناها إليك وغيرها بأنهم أهل بيته، والأحاديث الأخرى الكثيرة أوضحت ببيان شافٍ أن أهل البيت هم علي وفاطمة وأبناؤهما (عليهم السلام)، ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) في غنى عن بيانهم هنا، لأنه (صلى الله عليه وآله) قد أحالهم في هذه الأحاديث على ما هو معلوم عندهم، وواضح لديهم.
ولوضوح المراد بالعترة عند القوم لا نرى في كل تلك الأحاديث سائلاً يسأل: مَن هم عترة النبي (صلى الله عليه وآله)؟ أو مَن هم أهل بيته (صلى الله عليه وآله)؟
وأما الأحاديث التي دلَّت على أن المراد بأهل بيته (صلى الله عليه وآله) هم علي وفاطمة وأبناؤهما (عليهم السلام)، فهي كثيرة جداً:
منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في سُننه مختصراً، وكذا الحاكم في المستدرك على الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في حديث طويل: ولمَّا نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم)[سورة آل عمران: الآية 61]، دعا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلى. 57
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة، قالت: خرج النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وعليه مِرْط مُرَحَّل 58 من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا). 59
ومنها: ما أخرجه الترمذي في سننه وحسَّنه، والحاكم في المستدرك وصحَّحه، والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم عن أنس بن مالك وغيره: أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا). 60
ومنها: ما أخرجه الحاكم عن عامر بن سعد، قال: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟ قال: فقال: لا أسُب ما ذكرت له ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. قال: ما هن يا أبا إسحاق؟ قال: لا أسبُّه ما ذكرت حين نزل عليه الوحي فأخذ عليّاً وابنيه وفاطمة، فأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: ربِّ إن هؤلاء أهل بيتى. 61
ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أم سلمة، قالت: في بيتي نزلت (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا)، قالت: فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتى. 62
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالّة على ما قلناه. 63
ثم إن المراد من العترة ههنا هم أئمة الدين من أهل البيت النبوى، لا كل من انتسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق فاطمة (عليها السلام)، وقد نصَّ غير واحد من أعلام أهل السنة على أن المراد بالعترة هم العلماء لا الجهّال:
قال المناوى: قال الحكيم: والمراد بعترته هنا العلماء العاملون، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي عن المقام. 64
وقال ابن حجر: ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق: (ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم)، وتميَّزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وشرَّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ بعضها. 65
أقول: وأوضح مصاديق هؤلاء العلماء من العترة النبوية الطاهرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم الذين اتفقت الأمَّة على حسن سيرتهم، وطيب سريرتهم، وأجمعوا على أنهم علماء يُقتدى بهم، وتُقتفى آثارهم، وقد سبق الإشارة إلى ذلك فيما تقدم.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (ما إن تمسَّكتم بهما) يدل على أن ترك التمسُّك بهما موقع في الضلال، لأن المشروط عدَمٌ عند عدم شرطِه.
قال المناوى في شرح الحديث: يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه، واهتديتم بهدي عترتى، واقتديتم بسيرتهم، فلن تضلوا. قال القرطبى: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها، هذا مع ما عُلِم من خصوصيتهم بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وبأنهم جزء منه، فإنهم أصوله التي نشأ عنها، وفروعه التي نشأوا عنه، كما قال: فاطمة بضعة منى. 66
وقال التفتازانى: لاتّصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النَّسَب، ألا يُرى أنه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قَرَنَهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقِذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا العترة. 67
وقال الدهلوى: إن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: (إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله وعترتى أهل بيتى)، وهذا الحديث ثابت عند الفريقين: أهل السنة والشيعة، وقد عُلم منه أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسّك بهذين العظيمي القدر، والرجوع إليهما في كل أمر، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال، ومذهبه باطل لا يُعبأ به، ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى. 68
أقول: والتعبير بالتمسُّك دون الإمساك يدل على قوة الاقتداء بهما وشدة اتَباعهما. وعليه فلا ينجو من الضلال من أخذ بشيء منهما، واتّبع غيرهما وتمذهب بأي مذهب سواهما.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (بهما) يدل على أن التمسّك بأحدهما غير منجٍ من الوقوع في الضلال. وبذلك يتّضح أن قول عمر: (حسْبنا كتاب الله) 69 يتنافى مع قول النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه الأحاديث.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (وإنهما لن يفترقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض).
قال المناوى في شرح ذلك: وفي هذا مع قوله أولاً: (إني تارك فيكم) تلويح بل تصريح بأنهما ـ أي الكتاب والعترة ـ كتوأمين خلَّفهم ووصَّى أمته بحسن معاملتهما، وإيثار حقّهما على أنفسهم، واستمساك بهما في الدين، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية والأسرار والحِكَم وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق. وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فّطِيبُ العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته. 70
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله): (وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) دالٌّ على أن العترة لا يفترقون عن كتاب الله العزيز مطلقاً، وعدم الافتراق يتحقق من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: أنهم لا يفارقون القرآن في أقوالهم وفتاواهم، فهي موافقة لمعاني القرآن الظاهرة والباطنة، وذلك لأنهم علموا محكَمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وخاصَّه وعامَّه، ومقيَّده ومطلقه، ومبيَّنه ومجمَله، فردّوا المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ، والعام إلى الخاص، والمطلق إلى المقيّد، والمجمل إلى المبيّن.
ولولا ذلك لوقعوا في مخالفة الكتاب العزيز من حيث لا يعلمون، فيقع بينهما الافتراق المنفي في هذا الحديث، ويتحقق التعارض بين علامتَي الحق المنصوبتين اللتين يجب أن تكونا متّفقتين، لأن كل واحدة منهما ينبغي أن تكون دالة على الحق، وهذا لا يتأتّى مع حصول التعارض بينهما.
الجهة الثانية: أنهم لا يفارقون القرآن في أفعالهم وسلوكهم، وذلك لأنهم لمَّا علموا بمعاني القرآن وفهموا مقاصده الشريفة عملوا بما فيه في جميع شؤونهم وأحوالهم، فلا يقع منهم ما يخالفه لا عن عمد ولا عن جهل ولا عن سهو ولا غفلة. ولولا ذلك لافترقوا عنه في بعض أحوالهم، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول عليهم بأنهم لا يفترقون عنه ولا يفترق عنهم.
الجهة الثالثة: أنهم لا يفارقون القرآن في الوجود، فلا بد من وجود مَن يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت (عليهم السلام) في كل زمن إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحث المذكور على التمسّك بهاتين العلامتين على ممر الدهور.
قال ابن حجر: والحاصل أن الحث على التمسّك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأُمور الثلاثة إلى قيام الساعة. 71
وقال: وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر السابق: (في كل خَلَف من أُمتي عدول من أهل بيتى... ) إلى آخره. 72
وقال المناوى: قال الشريف: هذا الخبر يُفهم وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك بهم كما أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض. 73
وقوله (صلى الله عليه وآله): (فانظروا كيف تخلّفونّي فيهما)
معناه: فانظروا لأنفسكم ماذا تختارون: هل تسلكون سبيل الهدى باتباع الكتاب والعترة، أم سبيل الضلال باتباع غيرهما، والعاقل مَن يسلك ما ينجيه، ويبتعد عما يُرديه. وفيه إشارة إلى قوله تعالى (قل هل من شُركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحَقُّ أن يُتَّبَع أمَّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهْدَى فما لكم كيف تحكمون )[سورة يونس: الآية 35].
ولو نظرنا إلى أئمة المذاهب وغيرهم من علماء أهل السنة لوجدنا بعضهم يلجأ في أمور الدين إلى بعض، وكل واحد منهم يعترف بالقصور، فتأمل في سِيَرهم وأحوالهم وأخبارهم لترى أنهم علموا شيئاً وغابت عنهم في أمور الدين أشياء وأشياء.
وفي قوله (صلى الله عليه وآله): ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما) إشارة إلى أن كثيراً من هذه الأمة لن يتّبع الكتاب والعترة، كما حدث في قوم موسى فيما أخبر به الله جل وعلا، حيث قال: (ولما رَجَعَ موسى إلى قومه غضبان أَسِفًا قال بئسما خَلَفْتُمُوني من بعدي أَعَجِلتُم أَمْرَ ربِّكم وأَلقى الأَلواح وأَخَذَ بِرأس أَخيه يَجُرُّه إليه قال ابنَ أُمَّ إنَّ القوم استضعَفُوني وكادوا يَقتُلُونني فلا تُشْمِتْ بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظَّالمين)[سورة الأعراف: الآية 150].
وهذا ما حدث في هذه الأمة، فإن أكثر الناس جحدوا فضل العترة النبوية الطاهرة، حتى لا يذكرهم ذاكر بما هم أهله من الذِّكْر الحسن والثناء الجميل.
قال المناوى بعد أن ذكر أن التمسّك بالعترة واجب على الأمة وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في تركها: ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسَبَوا نساءهم، وأسَروا صغارهم، وخرَّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبَّهم ولعنهم، فخالفوا المصطفى (صلى الله عليه وآله) في وصيّته، وقابلوه بنقيض أمنيّته، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه، ويا فضيحتهم يوم يُعرَضون عليه. 74
أقول: إن بني أمية وبني العباس صنعوا الأفاعيل بأهل البيت (عليهم السلام) فماذا فعل أهل السنة لنصرة أهل البيت؟
تاالله إن كانت أميّةُ قد أتَتْ * قتلَ ابنِ بنتِ نبيها مظلومــا
فلقد أتتْه بنو أبِيه بمثلــــِــه * هذا لعمْرُك قبرُه مهدومــــا
أسِفُوا على ألا يكونُوا شــا * ركوا في قتْلِه فتتبَّعوه رميما
ثم إن أهل السنة مضافاً إلى أنهم مالوا عن أهل البيت إلى سواهم، فاتّبعوا غيرهم وقلدوهم، فإنهم أنكروا فضل أهل البيت وجحدوهم حقوقهم، واتّفقوا على مخالفة الأحاديث الصحيحة الدالة على فضلهم (عليهم السلام) التي رووها في كتبهم وصحَّحوها، وهذا الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه (حديث الثقلين) مثال واضح بيَّن يُلزَمون به، والله المستعان.
تمهيد
إن الأحاديث الصحيحة الدالة على لزوم التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) كثيرة مستفيضة، وقد رُويت بطرق صحيحة في كتب الحديث عند أهل السنة، وصحَّحها كثير من حفَّاظ الحديث في كتبهم.
بل إن تلكم الأحاديث تدل بما لا يقبل الشك على أن النجاة من الوقوع في الضلال لا تتحقق إلا باتباع أئمة الهدى من أهل البيت (عليهم السلام) دون سواهم.
ومع ذلك فإن أهل السنّة تركوا التمسك بأهل البيت (عليهم السلام) واتّبعوا غيرهم، ومالوا إلى سواهم، فتركوا اتّباع من أُمروا باتباعهم بمقتضى الروايات الصحيحة عندهم، واتّبعوا مَن لا دليل عندهم على صحَّة اتّباعه.
هذا ما سنكشف النقاب عنه في البحوث الآتية:
حديث الثقلين
إن الأحاديث الدالة على لزوم اتّباع أهل البيت (عليهم السلام) كثيرة، ومن أتمها دلالة وأصحَّها سنداً هو حديث الثقلين، المروي عن جمع من الصحابة، كجابر بن عبد الله، وزيد بن أرقم، وأبي سعيد الخدرى، وزيد بن ثابت، وغيرهم. وصحَّحه جمع من حفَّاظ الحديث من أهل السنة كما سيأتي بيانه مفصَّلاً إن شاء الله تعالى.
طرق حديث الثقلين
1 ـ أخرج مسلم في صحيحه بسنده عن زيد بن أرقم ـ في حديث طويل ـ أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيك ثقلين: أوّلهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسِكوا به. فحثَّ على كتاب الله ورغّب فيه، ثم قال: وأهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى، أذكّركم الله في أهل بيتى. 1
2 ـ وأخرج الترمذي وغيره عن جابر بن عبد الله، قال: رأيت رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في حَجّته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله وعترتى أهل بيتى. 2
3 ـ وأخرج أيضاً عن زيد بن أرقم وأبي سعيد، قالا: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، ولن يتفرَّقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض، فانظروا كيف تخلِّفونّي فيهما. 3
4 ـ وأخرج أحمد في المسند، والحاكم في المستدرك، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، وابن كثير في البداية والنهاية وغيرهم عن زيد بن أرقم، قال:
لما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله) من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقُمِمْن، 4 فقال: كأني دُعِيتُ فأجبـتُ، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله وعترتى، فانظروا كيف تخلِّفوني فيهما، فإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض.... 5
5 ـ وأخرج الحاكم في المستدرك أيضاً عن زيد بن أرقم، قال: نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله) بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله (صلى الله عليه وآله) عشية فصلى، ثم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وذكَّر ووعظ ما شاء الله أن يقول، ثم قال: أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلّوا إن اتَّبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتى عترتى.... 6
6 ـ وأخرج الحاكم في المستدرك، وابن أبي عاصم في كتاب السنة وغيرهما عن زيد بن أرقم أيضاً، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى أهل بيتى، وإنهما لن يتفرَّقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 7
7 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند، والهيثمي في مجمع الزوائد، والسيوطي في الجامع الصغير، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك فيكم خليفتين: كتاب الله وعترتى أهل بيتى، وإنهما لن يتفرّقا حتى يرِدا علي الحوض. 8
8 ـ وأخرج أحمد بن حنبل في المسند، وابن أبي عاصم في كتاب السنة، والبغوي في شرح السنة وغيرهم، عن أبي سعيد الخدرى، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا بعدي الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 9
9 ـ وأخرج أحمد في المسند، وابن سعد في الطبقات، والمتقي الهندي في كنز العمال وغيرهم، عن أبي سعيد أيضاً، عن النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: إني أوشك أن أُدعى فأجيب، وإني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله عز وجل وعترتى، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتى، وإن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض، فانظروني بم تخلّفونّي فيهما. 10
10 ـ وأخرج ابن حجر في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة، والطحاوي في مشكل الآثار وغيرهم، عن علي (عليه السلام)، عن النبي (صلى الله عليه وآله) ـ في حديث ـ قال: وقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلّوا: كتاب الله، سببه بيده، وسببه بأيديكم، وأهل بيتى. 11
11 ـ وأخرج البوصيري في مختصر الإتحاف عن زيد بن ثابت، قال: قال رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم): إني تارك معكم ما إن تمسَّكتم به لن تضلّوا: كتاب الله عز وجل وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض. 12
وأخرج هذا الحديث بنحو ما تقدم وبألفاظ أخرى متقاربة: أحمد بن حنبل في المسند 13 وفي فضائل الصحابة،14 والهيثمي في مجمع الزوائد، 15 والسيوطي في تفسيره الدر المنثور، 16 وفي إحياء الميت. 17 والمتقي الهندي في كنز العمال، 18 وأبو نعيم الأصفهاني في حلية الأولياء، 19 والنسائي في خصائص أمير المؤمنين (عليه السلام)، 20 والديلمي في الفردوس بمأثور الخطاب، 21 وأبو بكر بن أبي شيبة في مسنده، 22 والدارمي في السنن،23 والبيهقي في السنن الكبرى، 24 وابن الأثير في جامع الأصول، 25 والطبراني في المعجم الكبير والصغير، 26 وغيرهم.
وذكره كثير من الأعلام في مصنَّفاتهم: كالسيوطي في الخصائص الكبرى، 27 وابن تيمية في منهاج السنة، 28 والنووي في رياض الصالحين، 29 والقاضي عياض في الشفا،30 والطبري في ذخائر العقبى،31 وابن الأثير في أسد الغابة، 32 والذهبي في سير أعلام النبلاء،33 وابن حجر في الصواعق المحرقة، 34 والدولابي في الذرية الطاهرة، 35 والتفتازاني في شرح المقاصد، 36 وابن حزم في الإحكام، 37 وابن المغازلي في المناقب 38 وغيرهم.
وذكره من أصحاب المعاجم اللغوية ابن منظور في لسان العرب، 39 والفيروز آبادي في القاموس المحيط،40 والزبيدي في تاج العروس، والزمخشري في الفائق في غريب الحديث،41 وابن الأثير في النهاية في غريب الحديث 42 وغيرهم.
صحة سند الحديث
صحَّح هذا الحديث جمع من أعلام أهل السنة، وقد ذكرنا تصحيح بعضهم فيما تقدم: منهم الحاكم النيسابوري في المستدرك، والذهبي في التلخيص، والسيوطي في الجامع الصغير، والهيثمي في مجمع الزوائد، والذهبي كما في البداية والنهاية، وابن حجر العسقلاني في المطالب العالية، والبوصيري في مختصر إتحاف السادة المهرة، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة وصحيح الجامع الصغير، وحسَّنه الترمذي في سننه، والبغوي في شرح السنة، وقد مرَّ ذلك كله.
مضافاً إلى ذلك فقد صحَّحه أيضاً ابن حجر الهيتمي في الصواعق المحرقة، وابن كثير في البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم، والمناوي في فيض القدير وغيرهم.
قال ابن حجر: ومن ثم صحَّ أنه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتى. 43
وقال: وفي رواية صحيحة: كأني دُعيت فأجبت، إني قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما آكد من الآخر: (كتاب الله عز وجل وعترتى، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)... ولهذا الحديث طرق كثيرة عن بضع وعشرين صحابياً، لا حاجة لنا ببسطها. 44
وقال المناوى: قال الهيثمى: (رجاله موثقون). ورواه أبو يعلى بسند لا بأس به... ووهم من زعم وضعه كابن الجوزى. 45
وقال ابن كثير بعد أن ساق رواية النسائي المتقدمة: قال شيخنا الذهبى: هذا حديث صحيح. 46
وقال في تفسيره: وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال في خطبته بغدير خم: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتى، وإنهما لن يفترقا حتى يرِدا عليَّ الحوض. 47
وقد ذكر الألباني هذا الحديث ضمن أحاديث سلسلته الصحيحة، وخرَّج بعض طرقه وأسانيده الصحيحة والحسنة، وذكر بعض شواهده وحسَّنها، ووصف من ضعَّف هذا الحديث بأنه حديث عهد بصناعة الحديث، وأنه قصَّر تقصيراً فاحشاً في تحقيق الكلام عليه، وأنه فاته كثير من الطرق والأسانيد التي هي بذاتها صحيحة أو حسنة، فضلاً عن الشواهد والمتابعات، وأنه لم يلتفت إلى أقوال المصحِّحين للحديث من العلماء، إذ اقتصر في تخريجه على بعض المصادر المطبوعة المتداولة دون غيرها، فوقع في هذا الخطأ الفادح في تضعيف الحديث الصحيح. 48
تأملات في حديث الثقلين
قوله (صلى الله عليه وآله): (إني تارك) أو (إني مخلِّف): فيه إشعار بعِظم وأهمية ما سيخلَّفه أو سيتركه للأمّة من بعده، لأن ما يخلّفه النبي (صلى الله عليه وآله) للأمّة لا بد أن يكون نفيساً وخطيراً.
ثم إنه لا بد أن يكون منبعاً من منابع العلم، ومصدراً من مصادر الحكمة، لأن الأنبياء لا يورِّثون للأمَّة دراهم أو دنانير، وإنما يورِّثون لهم العلم والحكمة.
وقد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله) أنه قال: إن الأنبياء لم يورّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر. 49
وقوله (صلى الله عليه وآله): (الثقلين): بيَّنهما فيما سيأتي من كلامه بأنهما الكتاب والعترة.
قال ابن حجر: سَمَّى رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) القرآن وعترته ـ وهي الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية. ولذا حث (صلى الله عليه [وآله] وسلم) على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت. وقيل: سُمِّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما. 50
قلت: وهذا المعنى للثقلين ذكره أرباب المعاجم اللغوية، ومنهم ابن منظور في لسان العرب، وابن الأثير في النهاية، والهروي في غريب الحديث، وغيرهم.
قال ابن منظور: قال ثعلب: سُمِّيا ثقلين لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل، قال: وأصل الثَّقَل أن العرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثَقَل. فسمَّاهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما. 51
وقريب من ذلك كلام ابن الأثير 52 والفيروزأبادي في القاموس. 53
وقال القاري في مرقاة المفاتيح: سمَّى كتاب الله وأهل بيته بهما لِعِظم قدرهما، ولأن العمل بهما ثقيل على تابعهما. 54
وقال الزمخشري في الفائق: الثقل المتاع المحمول على الدابة، وإنما قيل للجن والإنس الثقلان، لأنهما ثقال الأرض، فكأنهما أثقلاها، وقد شبَّه بهما الكتاب والعترة في أن الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين. 55
قوله (صلى الله عليه وآله): وعترتي أهل بيتى
قال ابن منظور في لسان العرب: عِتْرَة الرجل: أقرباؤه من ولد وغيره... وقال أبو عبيد وغيره: عِتْرَة الرجل وأُسرَته وفصيلته: رهطه الأدنون. [وقال] ابن الأثير: عِتْرَة الرجل أخصّ أقاربه. وقال ابن الأعرابى: العِتْرة: ولد الرجل وذرّيّته وعَقِبه من صُلبه، قال: فعترة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ولد فاطمة البتول (عليها السلام). وروي عن أبي سعيد قال: العترة ساق الشجرة، قال: وعترة النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) عبد المطلب وولده. وقيل: عترته أهل بيته الأقربون، وهم أولاده وعلي وأولاده. وقيل: عترته الأقربون والأبعدون منهم... إلى آخر ما قال. 56
وأقول: إن مسألة بيان مَن يكون التمسّك به منقذاً من الضلال لا تحتمل الإبهام من قبل النبي (صلى الله عليه وآله)، وإلا لكان ذِكرها كإهمالها، ولا سيما مع علم النبي (صلى الله عليه وآله) أن الأمة ستختلف من بعده إلى فِرَق وطوائف كثيرة.
ولذا فسَّر النبي (صلى الله عليه وآله) المراد بعِتْرته في كل الأحاديث التي سقناها إليك وغيرها بأنهم أهل بيته، والأحاديث الأخرى الكثيرة أوضحت ببيان شافٍ أن أهل البيت هم علي وفاطمة وأبناؤهما (عليهم السلام)، ولذا كان النبي (صلى الله عليه وآله) في غنى عن بيانهم هنا، لأنه (صلى الله عليه وآله) قد أحالهم في هذه الأحاديث على ما هو معلوم عندهم، وواضح لديهم.
ولوضوح المراد بالعترة عند القوم لا نرى في كل تلك الأحاديث سائلاً يسأل: مَن هم عترة النبي (صلى الله عليه وآله)؟ أو مَن هم أهل بيته (صلى الله عليه وآله)؟
وأما الأحاديث التي دلَّت على أن المراد بأهل بيته (صلى الله عليه وآله) هم علي وفاطمة وأبناؤهما (عليهم السلام)، فهي كثيرة جداً:
منها: ما أخرجه مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده، والترمذي في سُننه مختصراً، وكذا الحاكم في المستدرك على الصحيحين، عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في حديث طويل: ولمَّا نزلت هذه الآية (فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم)[سورة آل عمران: الآية 61]، دعا رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلى. 57
ومنها: ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عائشة، قالت: خرج النبي (صلى الله عليه [وآله] وسلم) وعليه مِرْط مُرَحَّل 58 من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا). 59
ومنها: ما أخرجه الترمذي في سننه وحسَّنه، والحاكم في المستدرك وصحَّحه، والهيثمي في مجمع الزوائد وغيرهم عن أنس بن مالك وغيره: أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) كان يمر بباب فاطمة ستة أشهر إذا خرج إلى صلاة الفجر يقول: الصلاة يا أهل البيت (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا). 60
ومنها: ما أخرجه الحاكم عن عامر بن سعد، قال: قال معاوية لسعد بن أبي وقاص: ما يمنعك أن تسب ابن أبي طالب؟ قال: فقال: لا أسُب ما ذكرت له ثلاثاً قالهن له رسول الله (صلى الله عليه وآله)، لأن تكون لي واحدة منهن أحب إلي من حمر النعم. قال: ما هن يا أبا إسحاق؟ قال: لا أسبُّه ما ذكرت حين نزل عليه الوحي فأخذ عليّاً وابنيه وفاطمة، فأدخلهم تحت ثوبه، ثم قال: ربِّ إن هؤلاء أهل بيتى. 61
ومنها: ما أخرجه الحاكم في المستدرك عن أم سلمة، قالت: في بيتي نزلت (إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيرا)، قالت: فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى علي وفاطمة والحسن والحسين، فقال: هؤلاء أهل بيتى. 62
إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة الدالّة على ما قلناه. 63
ثم إن المراد من العترة ههنا هم أئمة الدين من أهل البيت النبوى، لا كل من انتسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله) من طريق فاطمة (عليها السلام)، وقد نصَّ غير واحد من أعلام أهل السنة على أن المراد بالعترة هم العلماء لا الجهّال:
قال المناوى: قال الحكيم: والمراد بعترته هنا العلماء العاملون، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن، أما نحو جاهل وعالم مخلط فأجنبي عن المقام. 64
وقال ابن حجر: ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيّده الخبر السابق: (ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم)، وتميَّزوا بذلك عن بقية العلماء، لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً، وشرَّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرَّ بعضها. 65
أقول: وأوضح مصاديق هؤلاء العلماء من العترة النبوية الطاهرة أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، فإنهم الذين اتفقت الأمَّة على حسن سيرتهم، وطيب سريرتهم، وأجمعوا على أنهم علماء يُقتدى بهم، وتُقتفى آثارهم، وقد سبق الإشارة إلى ذلك فيما تقدم.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (ما إن تمسَّكتم بهما) يدل على أن ترك التمسُّك بهما موقع في الضلال، لأن المشروط عدَمٌ عند عدم شرطِه.
قال المناوى في شرح الحديث: يعني إن ائتمرتم بأوامر كتابه، واهتديتم بهدي عترتى، واقتديتم بسيرتهم، فلن تضلوا. قال القرطبى: وهذه الوصية وهذا التأكيد العظيم يقتضي وجوب احترام أهله وإبرارهم وتوقيرهم ومحبتهم، وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في التخلف عنها، هذا مع ما عُلِم من خصوصيتهم بالنبي (صلى الله عليه وآله)، وبأنهم جزء منه، فإنهم أصوله التي نشأ عنها، وفروعه التي نشأوا عنه، كما قال: فاطمة بضعة منى. 66
وقال التفتازانى: لاتّصافهم بالعلم والتقوى مع شرف النَّسَب، ألا يُرى أنه (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قَرَنَهم بكتاب الله في كون التمسّك بهما منقِذاً من الضلالة، ولا معنى للتمسّك بالكتاب إلا الأخذ بما فيه من العلم والهداية، فكذا العترة. 67
وقال الدهلوى: إن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) قال: (إني تارك فيكم الثقلين، فإن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدى، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب الله وعترتى أهل بيتى)، وهذا الحديث ثابت عند الفريقين: أهل السنة والشيعة، وقد عُلم منه أن رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) أمرنا في المقدمات الدينية والأحكام الشرعية بالتمسّك بهذين العظيمي القدر، والرجوع إليهما في كل أمر، فمن كان مذهبه مخالفاً لهما في الأمور الشرعية اعتقاداً وعملاً فهو ضال، ومذهبه باطل لا يُعبأ به، ومن جحد بهما فقد غوى، ووقع في مهاوي الردى. 68
أقول: والتعبير بالتمسُّك دون الإمساك يدل على قوة الاقتداء بهما وشدة اتَباعهما. وعليه فلا ينجو من الضلال من أخذ بشيء منهما، واتّبع غيرهما وتمذهب بأي مذهب سواهما.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (بهما) يدل على أن التمسّك بأحدهما غير منجٍ من الوقوع في الضلال. وبذلك يتّضح أن قول عمر: (حسْبنا كتاب الله) 69 يتنافى مع قول النبي (صلى الله عليه وآله) في هذه الأحاديث.
وقوله (صلى الله عليه وآله): (وإنهما لن يفترقا حتى يرِدَا عليَّ الحوض).
قال المناوى في شرح ذلك: وفي هذا مع قوله أولاً: (إني تارك فيكم) تلويح بل تصريح بأنهما ـ أي الكتاب والعترة ـ كتوأمين خلَّفهم ووصَّى أمته بحسن معاملتهما، وإيثار حقّهما على أنفسهم، واستمساك بهما في الدين، أما الكتاب فلأنه معدن العلوم الدينية والأسرار والحِكَم وكنوز الحقائق وخفايا الدقائق. وأما العترة فلأن العنصر إذا طاب أعان على فهم الدين، فّطِيبُ العنصر يؤدي إلى حسن الأخلاق، ومحاسنها تؤدي إلى صفاء القلب ونزاهته وطهارته. 70
أقول: قوله (صلى الله عليه وآله): (وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض) دالٌّ على أن العترة لا يفترقون عن كتاب الله العزيز مطلقاً، وعدم الافتراق يتحقق من جهات ثلاث:
الجهة الأولى: أنهم لا يفارقون القرآن في أقوالهم وفتاواهم، فهي موافقة لمعاني القرآن الظاهرة والباطنة، وذلك لأنهم علموا محكَمه ومتشابهه، وناسخه ومنسوخه، وخاصَّه وعامَّه، ومقيَّده ومطلقه، ومبيَّنه ومجمَله، فردّوا المتشابه إلى المحكم، والمنسوخ إلى الناسخ، والعام إلى الخاص، والمطلق إلى المقيّد، والمجمل إلى المبيّن.
ولولا ذلك لوقعوا في مخالفة الكتاب العزيز من حيث لا يعلمون، فيقع بينهما الافتراق المنفي في هذا الحديث، ويتحقق التعارض بين علامتَي الحق المنصوبتين اللتين يجب أن تكونا متّفقتين، لأن كل واحدة منهما ينبغي أن تكون دالة على الحق، وهذا لا يتأتّى مع حصول التعارض بينهما.
الجهة الثانية: أنهم لا يفارقون القرآن في أفعالهم وسلوكهم، وذلك لأنهم لمَّا علموا بمعاني القرآن وفهموا مقاصده الشريفة عملوا بما فيه في جميع شؤونهم وأحوالهم، فلا يقع منهم ما يخالفه لا عن عمد ولا عن جهل ولا عن سهو ولا غفلة. ولولا ذلك لافترقوا عنه في بعض أحوالهم، فيكون هذا مانعاً من إطلاق القول عليهم بأنهم لا يفترقون عنه ولا يفترق عنهم.
الجهة الثالثة: أنهم لا يفارقون القرآن في الوجود، فلا بد من وجود مَن يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت (عليهم السلام) في كل زمن إلى قيام الساعة، حتى يتوجّه الحث المذكور على التمسّك بهاتين العلامتين على ممر الدهور.
قال ابن حجر: والحاصل أن الحث على التمسّك بالكتاب والسنة وبالعلماء بهما من أهل البيت، ويستفاد من مجموع ذلك بقاء الأُمور الثلاثة إلى قيام الساعة. 71
وقال: وفي أحاديث الحث على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهِّل منهم للتمسّك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك، ولهذا كانوا أماناً لأهل الأرض، ويشهد لذلك الخبر السابق: (في كل خَلَف من أُمتي عدول من أهل بيتى... ) إلى آخره. 72
وقال المناوى: قال الشريف: هذا الخبر يُفهم وجود من يكون أهلاً للتمسك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كل زمن إلى قيام الساعة حتى يتوجه الحث المذكور إلى التمسك بهم كما أن الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض. 73
وقوله (صلى الله عليه وآله): (فانظروا كيف تخلّفونّي فيهما)
معناه: فانظروا لأنفسكم ماذا تختارون: هل تسلكون سبيل الهدى باتباع الكتاب والعترة، أم سبيل الضلال باتباع غيرهما، والعاقل مَن يسلك ما ينجيه، ويبتعد عما يُرديه. وفيه إشارة إلى قوله تعالى (قل هل من شُركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق أفمن يهدي إلى الحق أحَقُّ أن يُتَّبَع أمَّن لا يَهِدِّي إلا أن يُهْدَى فما لكم كيف تحكمون )[سورة يونس: الآية 35].
ولو نظرنا إلى أئمة المذاهب وغيرهم من علماء أهل السنة لوجدنا بعضهم يلجأ في أمور الدين إلى بعض، وكل واحد منهم يعترف بالقصور، فتأمل في سِيَرهم وأحوالهم وأخبارهم لترى أنهم علموا شيئاً وغابت عنهم في أمور الدين أشياء وأشياء.
وفي قوله (صلى الله عليه وآله): ( فانظروا كيف تخلفوني فيهما) إشارة إلى أن كثيراً من هذه الأمة لن يتّبع الكتاب والعترة، كما حدث في قوم موسى فيما أخبر به الله جل وعلا، حيث قال: (ولما رَجَعَ موسى إلى قومه غضبان أَسِفًا قال بئسما خَلَفْتُمُوني من بعدي أَعَجِلتُم أَمْرَ ربِّكم وأَلقى الأَلواح وأَخَذَ بِرأس أَخيه يَجُرُّه إليه قال ابنَ أُمَّ إنَّ القوم استضعَفُوني وكادوا يَقتُلُونني فلا تُشْمِتْ بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظَّالمين)[سورة الأعراف: الآية 150].
وهذا ما حدث في هذه الأمة، فإن أكثر الناس جحدوا فضل العترة النبوية الطاهرة، حتى لا يذكرهم ذاكر بما هم أهله من الذِّكْر الحسن والثناء الجميل.
قال المناوى بعد أن ذكر أن التمسّك بالعترة واجب على الأمة وجوب الفرائض المؤكَّدة التي لا عذر لأحد في تركها: ومع ذلك فقابل بنو أمية عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسَبَوا نساءهم، وأسَروا صغارهم، وخرَّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبَّهم ولعنهم، فخالفوا المصطفى (صلى الله عليه وآله) في وصيّته، وقابلوه بنقيض أمنيّته، فواخجلهم إذا وقفوا بين يديه، ويا فضيحتهم يوم يُعرَضون عليه. 74
أقول: إن بني أمية وبني العباس صنعوا الأفاعيل بأهل البيت (عليهم السلام) فماذا فعل أهل السنة لنصرة أهل البيت؟
تاالله إن كانت أميّةُ قد أتَتْ * قتلَ ابنِ بنتِ نبيها مظلومــا
فلقد أتتْه بنو أبِيه بمثلــــِــه * هذا لعمْرُك قبرُه مهدومــــا
أسِفُوا على ألا يكونُوا شــا * ركوا في قتْلِه فتتبَّعوه رميما
ثم إن أهل السنة مضافاً إلى أنهم مالوا عن أهل البيت إلى سواهم، فاتّبعوا غيرهم وقلدوهم، فإنهم أنكروا فضل أهل البيت وجحدوهم حقوقهم، واتّفقوا على مخالفة الأحاديث الصحيحة الدالة على فضلهم (عليهم السلام) التي رووها في كتبهم وصحَّحوها، وهذا الحديث الذي نحن بصدد الحديث عنه (حديث الثقلين) مثال واضح بيَّن يُلزَمون به، والله المستعان.
تعليق