إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

و?ان تقياً... |رواية لــكمال السيد

تقليص
X
  •  
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • رحيق الزكية
    رد
    يسألونه

    غادر الناس بلاط المأمون ولا حديث لهم سوى هذه المعجزة الانسانيّة.. كيف يمكن لصبيّ لم يبلغ الحُلم أن يكون له كلّ هذا العِلم وهذا المنطق الفيّاض، بل إن بعضهم كان مشدوداً إليه طوال الوقت كما تنجذب فراشة مبهورة بالنور إلى شمعة متوهّجة.. إن سرّاً ما يكمن في هذه النفس الطاهرة.. وتمتم أحدهم بكلمات السماء:
    يا يَحيى خُذِ الكتابَ بقوّةٍ وآتَيناه الحُكْمَ صَبيّاً... .
    كم شكّك الواقفة في إمامة والده إذ اجتاز الاربعين ولم يُرزَق ولداً، حتّى إذا أطلّ هذا الصبي إذا به يكون آية إذ يكلم الناس في المهد صبيّاً!
    لم يبق في البلاط سوى رجال الدولة عندما أمر المأمون كاتبه الخاص أن يستعد لتسجيل ما سيقوله صهره.
    قال المأمون متودداً:
    ـ إن رأيتَ جُعلتُ فداك أن تذكر الفِقه فيما فصّلتَه من وجوه قَتْل الصيد لنعلمه ونستفيده.
    قال الفتى وقد تفجّرت ينابيع الحكمة:
    ـ إنّ المُحرِم إذا قَتَل صيداً في الحِلّ، وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة.
    فإذا أصابه في الحَرَم فعليه الجزاء مضاعفاً.
    فإذا قتل فرخاً في الحِلّ فعليه حمل قد فُطم من اللبن، وليست عليه القيمة لأنّه في الحل.
    وإذا قتله في الحَرَم فعليه الحمل وقيمة الفرخ.
    وان كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة.
    وإن كان نَعامة فعليه « بدنة » (24)، فإن لم يقدر فإطعام ستّين مسكيناً، فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوماً.
    وإن كان بقرة فعليه بقرة، فإذا لم يقدر فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر فَلْيصُمْ تسعة أيّام.
    فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هَدْياً بالغ الكعبة.
    وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهَدْي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نَحَرَه بمِنى حيث يَنحر الناس.
    وإن كان احرامه بالعُمرة نَحَره بمكّة في فِناء الكعبة ويتصدّق بمِثل ثمنه حتّى يكون مضاعفاً.
    وكذلك إذا أصاب أرنباً أو ثعلباً فعليه شاة، ويتصدّق بمثل ثَمَن شاة.
    وإن قتل حماماً من حمام الحرم فعليه دِرْهَم يتصدّق به، ودرهم يشتري به عَلَفاً لحمام الحرم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم، وكلّ ما أتى به المُحرِم بجهالة أو خطأ فلا شيء عليه إلاّ الصيد، فإنّ عليه فيه الفداء أكان بجهالة أم عِلم، وبخطأ أم عَمد.
    وجزاء الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع ساقط عنه في الخطأ.
    والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده.
    والصغير لا كفّارةَ عليه، وهي على الكبير واجبة.
    والنادم يسقط بندمه عنه عقابُ الآخرة، والمُصِرّ يجب عليه العقاب في الآخرة،وإن دَلَّ على الصيد وهو مُحرِم، وقُتِل الصيد فعليه الفداء.
    وان أصابه ليلاً في أوكارها خطأ فلا شيء عليه إن لم يتصيّد، فإن تصيّد بليل فعليه الفداء.
    وفغر المأمون فاه دهشة تصاعدت من شفاه ابن أكثم كلمات الإكبار: حاشا لله! ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَك كريم!!
    وتنفّس الكاتب الهواء وقد توقّف ينبوع الحكمة عن القرارات، ولحاجةٍ ما قال المأمون:
    ـ ألا تسأله يا أبا جعفر ؟!
    التفت الفتى الأسمر إلى قاضي قضاة الدولة الإسلاميّة.. وقال الجواد بأدب الأنبياء:
    ـ أسألك ؟
    قال ابن اكثم وقد استحال إلى تلميذ لا يفقه من العِلم شيئاً:
    ـ ذاك إليكَ جُعِلت فداك، فإن عرفتُ جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدتُ منك.
    وطرح الإمام سؤالاً ينسجم مع ثقافة بغداد التي بدأت تسطّر حكاياتها الاسطورية.. كان السؤال يشبه لغزاً مثيراً:
    ـ أخبِرني عن رجلٍ نَظَر إلى امرأةٍ في بدء النهار فكانت نظرته إليها حراماً عليه!
    فلما كان الضحى حلّت له!
    فلما حان الظهر حَرُمَت عليه!
    فلما كان وقت العصر حلّت له!
    فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له!
    فلما انتصف الليل حَرُمت عليه!
    فلما طلع الفجر حلّت!
    فما حال هذه المرأة، وبماذا حلّت به ؟ وحرمت عليه ؟
    قال القاضي الكبير مستسلماً:
    ـ واللهِ لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتَ أن تفيدنا به ؟
    قال الذي أوتي عِلم الكتاب:
    ـ هذه أَمَة لرجل من الناس، نظر إليها رجل أجنبيّ ( نظرة مُريبة ) في أوّل النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه.
    فلما ارتفع النهار ابتاعها من سيدها فحلّت له.
    فلما كان الظهر أعتَقَها فحَرُمت عليه.
    فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له.
    فلما كان وقت المغرب ظاهَرَ منها فحَرُمت عليه.
    فلما كان وقت العشاء الآخر كفّر عن الظِّهار فحلّت له.
    فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فحَرُمت عليه.
    فلما كان الفجر راجعها فحلّت له.
    ودُهِش رجال البيت العبّاسي، وشعروا أنهم أمام ظاهرة هي معجزة خارقة وآية سماويّة تخشع لها القلوب والعقول..
    قال المأمون:
    ـ هل فيكم أحد يُجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو خطر له شيء ممّا قال فيما تقدّم من السؤال ؟!
    قالوا مبهورين:
    ـ لا والله، إن أمير المؤمنين لأعلم.
    واستحال ابن أكثم الذي كان يعدّ نفسه أكبر شخصيّة عِلميّة إلى تلميذ متصاغرٍ أمام بحر العلم الإلهي.. قال متسائلاً:
    ـ ما تقول يا أبا جعفر في رجل نكح امرأة على زنا، هل يحلّ له أن يتزوّجها ؟
    قال الفتى الاسمر:
    يدعها حتى تستبرئ من نُطفته ونطفة غيره، فقد تكون قد فعلت ذلك مع غيره، ثمّ يمكنه أن يتزوّجها إذا أراد ذلك..
    إنّما مَثَلُها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً.
    هتف المأمون مأخوذاً:
    ـ أحسنتَ يا أبا جعفر، أحسن الله اليك! (25).

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    المصاهَرة

    كان بلاط الخلافة في ذلك الضحى يموج بالجماهير.. الجميع يترقّبون اللحظة المصيريّة.. العبّاسيّون كانوا متأكّدين من الفوز الساحق.. الفوز الذي لن يُبقي لمنافسيهم من العلويّين وقواعدهم الشعبيّة أيّة ركيزة في الدفاع بعد اليوم.. الإمام هو أعلم أهل زمانه، فإذا انهارت هذه المقولة عندها سينهار الصرح الإماميّ بأسره..
    كانت هناك عشرات القلوب المتوجّسة من هذا الصراع والنِزال، والأمرّ من كلّ ذلك أن يُهزم هذا الفتى السيّد الوقور على يد رجل لا يستحي من شيبته وهو يقترف أعمال قوم لوط!
    غصّت القاعة بالناس الوافدين وفيهم الكثيرون من أعلام الفكر، كان المأمون قد أمر بان يُفرش لصهره المنتخب دستٌ تحفّه وسائد عن اليمين وعن الشمال، وأخذ الفتى الأسمر مكانه متواضعاً ينظر ببراءة وطُهر إلى الناس.. عيناه تشعّان بالأمل والايمان.. لقد كان منظره آية من آيات الله.
    في هذا العالم الذي يعجّ بالفساد والشرور... تتنفّس روحٌ مسّتها السماء فكانت رمزاً للطُهر والنقاء.
    هيمن صمت مَهيب، وكانت العيون تتّجه نحو نقطة في جوار المأمون.. ونظر ابن أكثم إلى الخليفة، وهزّ المأمون رأسه موافقاً.. لقد بدأت اللحظة المصيريّة، وقال قاضي القضاة بلهجة فيها تكلّف:
    ـ أتأذن لي جُعلت فداك في مسألة ؟
    وأجاب الذي عنده عِلم الكتاب:
    ـ سَل إن شئت.
    وهنا ألقى ابن اكثم سؤاله وحباله:
    ـ ما تقول يا ابا جعفر في مُحرِمٍ قَتَل صيداً.
    ما هو موقف الشريعة من انسان ارتدى لباس الاحرام في الحجّ ثمّ قتل حيواناً ؟
    كان السؤال ذكيّاً جداً، فهو وأن بدا في ظاهره بسيطاً، لكنه ينطوي على مزالق كثيرة، والاجابة عليه تعني السقوط في الفخّ! ومن ثَمّ الانقضاض عليه.
    وحَبست الحشودُ أنفاسها... إنّ مصير الإمامة بل المجد العلوي بأسره كله معلّق بين شفتَي ذلك الفتى الأسمر. وجاء الجواب:
    أسئلةٌ مدوّية تكشف عن عقليّة فذّة وعبقريّة ليست مُستمَدّة من عناصر التراب:
    ـ هل قتله في الحرم المكّي أم خارجه ؟
    هل كان عالماً بحُرمته أم جاهلاً ؟
    قَتَله عَمداً أو خطأ ؟
    هل كان القاتل صغيراً أم كبيراً ؟
    هل كان عبداً أم حُرّاً ؟
    مُبتدئاً بالقتل كان أم مُعيداً ؟
    هل كان الصيد من الطيور أو غيرها ؟
    هل كان الصيد صغيراً أم كبيراً ؟
    أكان القاتل مُصرّاً على ما فعل أو نادماً ؟
    هل فعل ذلك ليلاً أم نهاراً ؟
    هل كان مُحرِماً للحجّ أم للعُمرة ؟
    وبُهت القاضي.. كان سيل الاسئلة من القوّة بحيث يكتسح كلّ مَن يحاول الجدل..
    وتألّقت شمس الحقيقة.. الحقيقة التي أُريدَ لها أن تنطفئ.. كان الصمت معبّراً..
    التفت المأمون إلى الفتى السيّد قائلاً:
    ـ أتخطب يا أبا جعفر.
    وأطرق الفتى برأسه حياءً
    أردف المأمون:
    ـ اخطب جُعِلت فداك لنفسك فقد رضيتُك، وأنا مزوّجك ابنتي أمَّ الفضل!.. حتّى لو رُغم قوم لذلك.
    نهض الفتى الأسمر ليقول بصوت هادئ:
    ـ الحمد لله إقراراً بنِعمته، ولا إله إلاّ الله إخلاصاً لوَحدانيّته، وصلّى الله على سيّد بَرِيّته، والأصفياء من عِترته..
    أمّا بعد.. فقد كان من فضل الله على الأنام، أن أغناهم بالحلال عن الحرام، فقال سبحانه: وانكحوا الأيامى منكم والصالحين مِن عبادِكم وإمائِكم إن يكونوا فقراءَ يُغنِهم اللهُ مِن فضله واللهُ واسعٌ عليم ..
    ثمّ إنّ محمّد بن علي بن موسى يخطب أمّ الفضل بنت عبدالله المأمون، وقد بذل لها من الصداق مهر جدّته فاطمة بنت محمّد خمسمائة درهم جياداً...
    والتفت إلى المأمون:
    ـ فهل زوّجتني يا أمير المؤمنين على هذا الصداق ؟
    أجاب المأمون:
    ـ نعم! قد زوّجتُك يا أبا جعفر على الصداق المذكور، فهل قبلتَ النكاح ؟
    ـ قد قبلتُ ذلك ورضيت به
    (22).
    وارتفعت زغاريد الفرح، وأمر المأمون إلاّ يتفرّق الحاضرون، ومرّت لحظات سُمع بعدها أصوات تشبه أصوات الملاّحين في محاوراتهم، ثمّ ظهر مجموعة من الخدم يسحبون بحبال من الحرير سفينة صِيغت من الفضة الخالصة، وقد مُلئت عطراً غالياً، فخُضبت لحى الحضور، ثمّ نصبت الموائد وتناول الناس طعام الغداء.. وكان يوماً بهيجاً، وكان الشيعة أكثر الناس سعادة فقد سطعت شمس الحقيقة وتمزّقت شِباك العناكب.. ثمّ توّج ذلك كله بأن اصبح إمامهم صهراً للحاكم، وعندها يستطيعون أن يتنفّسوا الصُّعَداء.. وربما أصبح وليّاً للعهد.. مَن يدري ؟ خاصّة وقد تسامع الناس ما قاله الخليفة:
    ـ أحببتُ أن أكون جَدّاً لامرئ وَلَده رسولُ الله وعليُّ بن أبي طالب
    (23).

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    التحضير للمكيدة


    ـ يَحيى بن أكثم قاضي القضاة هو وحده الذي سينقذنا من هذه الورطة.
    هتف بذلك شاب عبّاسيّ وهو يفرك يديه.. وبرقت العيون... نعم ليس هناك مَن يفوقه عِلماً... وفِقهاً.. وهوعوا إليه كغرقى إلى طَوق نجاة...
    لم يوافق قاضي القضاة أن يزجّ بنفسه في هذه المعمعة ولكن نظرات الغلام
    (20) الشركسيّ الذي قدّمه العباسيون هديّة إليه لم تعد تُقاوَم، فوافق بعد أن عرضوا عليه أيضاً مبالغ كبيرة إذا حسم الصراع لصالحهم.
    وتقرّر اليوم المصيريّ بعد أيام وأن يُحشَر الناس ضحى، وانهمك ابن أكثم في إعداد أسئلته وحِباله، فالسؤال يجب أن يكون محيّراً غامضاً عويصاً، خاصّة وأن هذا الفتى هو ابن الرضا ذاك الذي حيّر علماء عصره... إنّه لن ينسى جلسات مرو وقد هزم زعماء المذاهب أمامه.. ولكن هناك بريق أمل في النصر، فمحمّد لم يزل صبيّاً، ثمّ أنّه لم يَرَ أباه منذ أن كان في السادسة من عمره، فهل يُعقل أن يكون قد ورث علم أبيه ؟!
    ـ لا لا... إنّه سينتصر ولا شكّ، وسيكون انتصاره مدوّياً، فهزيمة هذا الصبيّ تعني هزيمة الملايين ممّن تؤمن بإمامته، أجل سيكون انتصاره أكثر دوّياً من كلّ الحروب التي خاضها الأمويّون والعبّاسيّون ضد أبناء علي.. حروب امتدت لعشرات السنين.. حروب بعدد الثورات التي فجّرها الثائرون من أبناء فاطمة منذ لحظة عاشوراء وحتّى الآن..
    لم ينس ابن أكثم أنّه يغامر بمستقبله وهو يقبل عروض العباسيين.. لقد فرض هيبته على أساس فقهه وعلومه، وهزيمته تعني نهايته.. ولكن كيف يمكن أن يُهزَم أمام صبي حتّى لو كان ابن الرضا ؟!
    يكفي أن يجرّه إلى سؤال واحد ممّا حار فيه الفقهاء، سؤال هو في الحقيقة استدراج إلى غابة من الاحتمالات التي يضيع فيها فِقه الفقيه وعِلم العالم..
    عندما اطلّ اليوم الموعود لم يبق من أهل بغداد من لم يسمع بذلك النبأ المهمّ. كان بعض الشيعة يتوجّس خِيفة ممّا سيحدث.. إنّ المجد العلويّ، والتاريخ الشيعيّ كلّه يتوقّف على نتائج هذا اليوم المصيريّ الخطير.
    وهمس شيخ وهو يتطلّع إلى الطريق التي سيسلكها الصبي في طريقه إلى القصر:
    ـ الحمد لله الذي جعل أعداءنا من الحمقى.
    ـ ماذا تعني يا أبي ؟
    قال الابن بدهشة!
    أجاب الشيخ:
    ـ يا بُنيّ إنّك لا تعرف القاضي.. هذا دجّال ضال يُحِلّ ما حرّم الله ويعمل عمل قوم لوط... إنّ الله سينصر ابن الرضا، فالله لا يرضى لعباده الكفر.
    أتمنّى يا بُني أن أنظر إلى وجوه العباسيين وقد هُزموا.
    ـ يا أبتي إنّه صبي لم يبلغ العاشرة كما سمعت!!
    ـ يا بُنيّ إن الله أعلم حيث يجعل رسالته.. يا بُني ألم تقرأ القرآن... ألم يكلّم عيسى بني إسرائيل في المهد.. ألم يقل الله سبحانه ليَحيى: خُذ الكتاب بقوّة.. ألم يقل: وآتيناه الحُكمَ صبيّاً ؟!
    وقف إلى جانبهما رجل متوسّط العمر كان هو الآخر يتطلّع إلى الشخص الذي تدين له الملايين بالولاء، وترى طاعته واجبة كطاعة النبيّ!
    لم يكن من أهل بغداد، حتّى إنّه لم يذهب بعد إلى خان المسافرين أو إلى حمّام من حمّامات هذه المدينة.
    هتف أحدهم:
    ـ لقد جاء... جاء ابن الرضا.
    وتطلّع الناس إليه بإجلال..
    وظهر الفتى راكباً بغلة شهباء ليس في حركتها أبّهة الخيل ولا ذلّة الحمير، كان يُحيّي الجماهير المحتشدة حوله بأدب.. لكنّه عندما حاذى الرجلَ الغريب توقّف ثمّ لوى زمام بغلته نحوه وقال:
    ـ يا قاسم بن عبدالرحمن! أبشَراً مِنّا نتّبعه إنّا إذن لفي ضَلال وسُعُر.
    وبُهت الرجل! كيف يقرأ الصبي خلجات القلوب وما يموج في دنيا النفوس ؟!.. إنّه ولا شكّ ساحر!!
    قال الفتى السيّد قبل أن يستأنف طريقه:
    ـ أأُلقي الذِّكر عليه مِن بيننا بل هو كذّاب أشِر.
    واستأنف طريقه تحفّه الجماهير.. أمّا قاسم الرجل الغريب في المدينة فقد أطرق برأسه وقد اهتزّت أعماقه بشدّة كما لو أنّ زلزالاً يضربها بعنف...
    قال الشيخ:
    ـ إنّك غريب كما أرى ؟!
    ـ نعم، لقد وصلت قبل ساعة..
    ـ بغداد مدينة يضيع فيها الغرباء.. هيّا بنا إلى منزلي.
    تدخّل الابن:
    ـ أنسيتَ ما جئت إليه يا أبه.. لقد أذِن الخليفة إذناً عامّاً.
    قال الغريب:
    ـ هل لي أن أعرف ماذا يجري ؟
    قال الشيخ:
    ـ اليوم يمتحنون هذا الفتى أعني ابن الرضا.. يمتحنه قاضي القضاة.
    قال الغريب:
    ـ ما وقوفكم هنا.. هيّا.
    في الطريق قال الرجل الغريب:
    ـ أنا رجل زيديّ المذهب.. رأيت الناس يسرعون في المشي ويَعْدون، فسألت عن السبب فقالوا: سيطلع ابن الرضا.
    قلت في نفسي: والله لأنظرنّ إليه.. لكنني عندما رأيتُه قلت في نفسي: اللعنة على أصحاب الإمامة.. كيف يقولون إن الله افترض طاعة هذا ؟! فرأيتم ماذا حصل ؟ خاطبني باسمي وقرأ تلك الآية أيضاً.. إنني أشعر بالنور يضيء قلبي... ان انساناً يقرأ ما يدور في خاطري مرّتين لابدّ وأن يكون إماماً
    (21).
    واعتصم الشيخ بالصمت خاشعاً لآيات الله.

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    هزّة في بغداد


    أحدث وصول الفتى العلويّ هزّة في بغداد، وكانت القصور العباسية المتناثرة على ضفاف دجلة في الكرخ والرصافة والشمّاسية قد أقلقها حضوره، لقد تنفسّت الصُّعَداء بالأمس بعد أن تُوفّي الرضا وهو في طريقه إلى بغداد، وها هو ابنه قد جاء، ولا أحد يدري ما الذي سيفعله المأمون، فقد طالت استضافته، وفي كلّ يوم كان المأمون يهتمّ بشأنه ويُعجَب بشخصيته، وكلّ شيء يمكن تحمّله ولكن أن يُقرّر المأمون تزويجَه ابنتَه فهذا أمر لا يُطاق... سوف يكون هذا الفتى صِهر الخليفة، وقد يُسند إليه ولاية العهد كما أسندها إلى والده من قَبل، وهذا يعني نهاية المجد العباسيّ!
    ـ كلاّ!
    صرخة تنضح حقداً، تردّدت في قصور العبّاسيين التي استحالت إلى بيوت كبيوت العناكب.
    وفيما كانت السفن الشراعيّة تنحدر مع المدّ إلى مدينة البصرة حاملة المسافرين والتجار، كان رجال البيت العبّاسيّ يتقاطرون نحو قصر الخلافة.
    كان الخليفة يراقب مياه دجلة وهي تتألّق تحت ضوء القمر، والأمواج المشوبة بالغرين لا تنفكّ تتدافع نحو الضفاف لتضخّ في الشُّطآن الروح والخضرة والحياة.
    آن للمأمون أن يجلس مسترخياً بين الوسائد الحريريّة المحشوّة بريش النعام... آن له أن يلعب بلا قلق الشطرنج في رقعة مترامية تمتد من انطاكيا إلى صقلّية إلى غابات أفريقيا إلى الهند وما وراء النهر.
    اتّخذ رجال البيت العبّاسيّ أماكنهم في حضرة الحاكم الشاب وآلاف الاطماع والطموحات والوساوس تموج في عقولهم وقلوبهم... أطماع في الحكم والنفوذ والسيطرة تؤجّجها غرائز مجنونة..
    راح المأمون يتصفّح الوجوهَ المخطوفة والعيون الزائغة.. قال أحدُهم وهو يُلبس كلماته رداء النصيحة:
    ـ يا أمير المؤمنين.. نتوسّل إليك أن تنقض ما عزمتَ عليه من مصاهرة ابن الرضا.. إنّك بهذه الخطوة تعرّض مُلكنا للخطر... وأنت تعرف جيّداً أنّ الدماء أُريقت بيننا وبين العلويين قديماً وحديثاً..
    ومرّت لحظاتُ صمتٍ استأنف الرجلُ بعدَها حديثَه وسط صمتٍ مَهيب سوى خُطى خدمٍ وجوارٍ كنّ يُعْدِدنَ كؤوسَ السهرة، فالمأمون قرّر هذه الليلة أن يسكر على أمواج دجلة.
    ـ إنّك يا أمير المؤمنين قد خرجتَ عن سيرة الخلفاء من قبلك من مطاردة هؤلاء ونفيهم والحطّ من شأنهم، ولقد كان عملك مع الرضا محيّراً حتى كفانا الله ذلك بموته، وها أنت تريد أن تعيدنا إلى غمٍّ قد انحسر عنا!
    قال المأمون وقد شعر بالغيظ من هذه العقول التي لا تريد أن تدرك خُططه:
    ـ ماذا تريدون ؟!
    وجاء الجواب في فزع:
    ـ اصرِف رأيك عن ابن الرضا وانتخب مَن تشاء من فتية أهل بيتك تراه أهلاً للزواج من كريمتك... إننا أكثر من ثلاثين ألفاً
    (17).
    أجاب المأمون:
    ـ إنّ ما حصل بين البيتَين من عداء وأحقاد، فأنتم السبب فيه، ولو أنّكم أنصفتم هؤلاء الناس لكانوا أولى بكم.
    أمّا الذين كانوا يفعلون ذلك قبلي فقد كانوا قاطعي رَحِم..
    وأمّا أبو جعفر محمد بن علي فقد اخترتُه لتفوّقه في الفضل والعِلم مع صغر سنّه.. إنّه بحقّ أُعجوبة.
    قال أحدهم مناوراً:
    ـ إنّ هذا الفتى وإن راقك منه هَدْيهُ فانّه صبي لا معرفة له ولا فِقه، فأمهِلْه ليتأدب، ويتفقّه في الدين.. ثمّ اصنع ما ترى بعد ذلك.
    أدرك المأمون أنّهم سوف يرتكبون حماقة خلال هذه الفترة، فقد يغتالونه بطريقةٍ ما وتُنسَف جميع خططه الماكرة، فأجاب بحزم:
    ـ إنّي أعرَف منكم بهذا الفتى.. إنّ أهل هذا البيت عِلمهم من الله.. وموادّه وإلهامه... لم يزل آباؤه أغنياء في علم الدين والأدب.. فإن شئتم فامتحنوه.. عندها ستعرفون الحقيقة..
    برقت في العيون الزائغة نشوة نصر، وقال بعضهم بارتياح:
    ـ هذا ما كنّا نبغي.. قد رضينا يا أمير المؤمنين، فخلِّ بيننا وبينه لننصب مَن يسأله بحضرتك.
    وغادر رجال البيت العبّاسي تاركين المأمون وحيداً راح ينظر إلى دجلة تتراكض مياهه نحو الخليج البعيد..
    تناول كأساً بلّورياً مليئاً بذلك السائل الورديّ، وأفرغه في جوفه وشعر بدبيب آلاف النمال في رأسه المكدود المشحون بآلاف الهواجس والدسائس... وكان آخر ما برق في ذهنه المخدّر اسم « بابك الخرّميّ »
    (18) الذي راح يثير القلاقل في آذربيجان وأرمينيا، فكانت آخر فكرة تطفح في رأسه الغارق في الغدر واللذة أنّه كيف سيمدّ الثائر البيزنطيّ « توماس » (19) بالسلاح.

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    السيّد الأسمر في العاصمة

    الربيع فصل الورود، فصل الزوابع والرعود، ولكنّ النسائم الطيّبة التي تغمر ضفاف دجلة وقد كساها العشب الأخضر تُفجِّر في قلوب الناس حب الحياة، ولم يكن أهل بغداد الذين اعتادوا التنزّه في تلك الربوع الزاهية يتركون عادتهم بالرغم من جراح وخرائب الحرب الأهلية التي كادت تُحيل بغداد إلى خرائب وأطلال، فالقصور التي أحرقها الأمين تنهض مكانها قصور أجمل، والحياة كدجلة تتدفّق أمواجها...
    كانت شطآن دجلة تزدان ذلك الضحى بألوان زاهية، ولم يكن ذلك بسبب الورود الربيعية التي فاح شَذاها في الفضاء، وانّما يعود ذلك إلى عشرات بل مئات الفتيات والشباب الذين لا تفوتهم مثل هذه المناسبات.
    بغداد واهلها يحتفلون بالنيروز احتفالهم بالأعياد الأخرى.. كان الشحاذون وأكثرهم ماكرون يتفنّنون في إبراز عوزهم وبؤسهم ومواهبم، وفي مدينةٍ تقدّس المال والثَّراء ويتفنّن أهلُها في جمعه لابدّ وأن ينبغ شحّاذوها، وقد يُصبح أحدهم عبقرياً في فنّه. فقد تراه في بعض الأحيان شاعراً أو فنّاناً، هكذا عاشت بغداد... حسناء لعوباً، غانية طروباً، مدينة الأساطير الجميلة... لكنّ الفقراء وحدهم كانوا يعرفون أسرارها، ويعرف حقيقتها الشحّاذون أيضاً.
    إنّ من يريد الذهاب للتنزّه على ضفاف دجلة، أو الذي ينوي الذهاب إلى سوق الورّاقين، أو سوق الجواري، والذي يعبر جسر الرصافة إلى الكرخ، أو حتّى الذين يريدون دفن موتاهم في المقابر.. لابدّ وأن يُصادفوا بعض الشحّاذين الذين أتقنوا حِرَفاً يصعب على مَن يراهم الشكّ فيهم، ولعلّ بعضهم من « الشطّار »
    (12) الذين عبثوا في بغداد أثناء الحرب وبعدها، ثم طُردوا منها ـ وأعدادهم تبلغ الألوف ـ فسكنوا الطُرق والضواحي، وعاد بعضهم متلبساً زيّ الشحّاذين.
    وبغداد مدينة عجيبة، فهي لا تمنح مالاً لذوي الفاقة والحاجة حتّى يحذقوا في مهنتهم، ولا للشعراء حتّى يتغنّوا بالخمرة وليالي السُّكر والعَبَث.
    وفي ذلك الضحى الربيعي من سنة 205 هـ يصادف المرء لو أراد أن يتسكّع في المدينة أُناساً شتّى يرتدون أزياء مختلفة، ولكنه سيرى أيضاً إلى جانب المحتفلين بقدوم الربيع ناساً يرتدون أزياء البحّاره والملاّحين، أما التجّار وهم طبقة ثرية لم تتأثر بويلات الحرب، فقد كانوا يرتدون أزياء لا توجد إلاّ في قصر الخليفة.
    ودجلة وهو يخترق بغداد لم يشطرها إلى نصفَين « كرخاً » و « رصافة » فحَسْب، وإنّما شطرها أيضاً إلى أثرياء وشحّاذين، مُتخَمين وجائعين!
    بغداد تضجّ بالحياة.. بالحركة، وفي ذلك الضحى امتلأت الأديرة القريبة وحتى البعيدة بالشباب ممّن يقصدونها لشرب الأنخاب، فليس ألذّ من خمرة الأديرة ولا أجمل من تلك الفتيات وهن يخطرن حاملات الكؤوس المثلجة المُترعة بذلك السائل الشفّاف الذي يميل قليلاً إلى اللون الوردي.
    أما الشحّاذون فراحوا يتفنّنون في ابراز بؤسهم ومواهبهم.. هناك رجل يتظاهر بالنُّسك وقد كتب على قرطاس قصّته وهو يتظاهر بالعجز عن الكلام، حتّى إنّه قد أخفى لسانه بطريقة لا يمكن معها الشكّ في أنه لا لسان له بالاصل!
    وهناك من يتظاهر بالصَرَع والجنون، وقد امتلأ فمه بالزبد، حتّى إذا رأى ازدحام المارّة والعابرين، اجتاحته نوبة لا يشكّ من يراه في أنه لن يعيش بعدها.
    وبين الفترة والأخرى يهتف أحدهم:
    ـ بِينَوا... بينوا
    (13).
    وهو يعرف أنّ أكثر الناس في عاصمة الشرق يعرفون الفارسية.
    وقد يعمد بعض الشحّاذين إلى لفّ يده ورجله لفاً شديداً ليلة كاملة حتّى إذا انحصر الدم فيهما، مسحهما بالصابون والدم، ثمّ يدهنهما بالزيت ويلفّهما بحزمة من القماش كاشفاً عن جزء منهما، فلا يشك من يراه إلا أنّه مصاب بمرض خبيث.
    وفي الطريق إلى سوق الصاغة ينتشر بعض الاطفال من ذوي العاهات، فهذا أعمى وذاك أعشم أو أعضد، وكلّهم أو أغلبهم قد تعرّضوا إلى عمليات جراحية لتشويههم وتحويلهم إلى وسائل للتكدّي، وهؤلاء الاطفال يصبحون مصادر جيدة للتكسّب، حتّى أن أهليهم يُكرونهم للغير بأجر محدّد
    (14).
    حتّى الطرق الخارجية لا تخلو من شحّاذين محترفين تصادفهم القوافل المسافرة إلى مكّة والشام وخراسان، فقد يظهر أحدهم واقفاً على حمار ميت أو بعير ويدّعي أنّه صاحبه وأنه قادم من خراسان، أو اليمن أو أفريقيا، وحتّى يبدد الشكوك عنه يرطن ببعض الكلمات التي تعلّمها من قبل!!
    وفي ذلك الضحى خرج المأمون في موكب مهيب في رحلة صيد، وشاء القدر أن يصل محمد بغداد في ذلك الضحى فكان اللقاء...
    كان الأطفال يلعبون بفرح، وكان محمد يراقب مناظر البراءة وهي تتألق في عيون الصِّبْية، وفي تلك اللحظات كان موكب المأمون قد اجتاز « الطاقات » في بوّابة الكوفة، وقد أضفى مشهد الجنود على صَهَوات الخيل الرهبةَ على موكب الطاغي الذي قهر خصومه جميعاً وطرد عصابات « الشطّار » من بغداد..
    الموكب يقترب شيئاً فشيئاً، وهتف صبي بذُعر:
    ـ جنود الخليفة!
    فرّ الصبية وأقفرت الطريق الفسيحة، فيما ظل صبيّ واحد ينظر بثقة إلى الموكب.
    وأثار مشهد الصبي بثباته وشجاعته فضول المأمون الذي لوى زمام حصانه باتّجاه الصبي.
    الصبي بوجهه الاسمر الذي يشعّ براءة وطُهراً ينظر بطمأنينة إلى القادم وقد احتفّ حوله جنود غلاظ، فيما ظهر باز مدرّب على الصيد على كتف الخليفة.
    قال الخليفة متعجّباً:
    ـ ما الذي أخّرك عن الفرار يا بُنيّ ؟!
    أجاب الفتى السيّد بوقار:
    ـ ليس في الطريق ضيق حتّى أوسّعه لك، ولم اقترف ذنباً فأخشاك منه، وأظنّ أنك لن تُنزل الأذى بمَن لم يرتكب خطأ.
    ابتهج المأمون وقال:
    ـ ما اسمك ؟
    ـ محمّد.
    ـ ابن من ؟!
    ـ ابن علي الرضا
    (15).
    وبرقت في ذاكرته صورة الرضا هو يتناول حبّات العنب المسمومة وملاعق الرمّان في ذلك اليوم الخريفي، للحظات شعر بالشفقة لهذا الصبيّ اليتيم الذي تشبه سُمرتُه سمرة والده الراحل... ولكن ماذا بوسعه أن يفعل ؟ الحُكم والمُلك والسلطان وهذه الدنيا العريضة تضيق بالخير... ليس هناك من طريقٍ سوى تصفية كلّ مَن يقف في طريقه.. والحياة ليست سوى رقعة شطرنج واسعة، والبقاء للأمكر!
    همز المأمون حصانه مستأنفاً طريقه، فيما أخذ الصبي السيّد سَمْتَه باتجاه بوّابة بغداد المُشرَعة باتجاه الكوفة.
    كان السيّد الأسمر واقفاً ينظر إلى المياه المتدافعة في نهر « الصراة »
    (16) عندما عاد موكب المأمون من رحلة الصيد التي لم تستمر طويلاً ربما بسبب زوابع ذلك اليوم الربيعي.
    ظهر المأمون في مقدمة الموكب المهيب، وكان مشهد الصقر الذي أخذ مكانه فوق رأس الحصان يشدّ الانظار.
    مرّة أخرى تقابلا؛ الخليفة وصبيٌّ آتاه الله الحكمة. هتف المأمون وقد أخفى في يده شيئاً:
    ـ يا محمد، ما في يدي ؟
    قال الفتى السيّد وأضاءت في قلبه حقائق مستورة:
    ـ إنّ الله تعالى خلق في بحر قُدرته سَمَكاً يأخذ الغيم منه فتصطاده صقور الملوك، فيمتحنون بها سُلالة الأنبياء.
    واهتزّ المأمون لهذه المفاجأة.. إنّ هذا الصبي لأُعجوبة.. أُعجوبة في شجاعته وحكمته وعِلمه.. قفز من فوق حصانه وتقدّم نحوه وقبّله..
    قال باعجاب:
    ـ أنت ابن الرضا حقاً!

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    زيارة الوداع



    في بغداد وفي الكوفة وحتّى في المدينة المنورة وقم.. كثرت الشائعات حول الظروف التي تُوفّي فيها علي بن موسى الرضا عليه السّلام، وكانت أصابع الاتّهام تشير إلى الحاكم العباسيّ الماكر عبدالله المأمون الذي فاق أسلافه مكراً. ولم يكن صعباً عليه أن يجد مخرجاً من ذلك وهو الذي صمد في وجه عواصف الحوادث..
    الصورة التي صنعها المأمون كانت برّاقة، فقد تزعّم مشروع المصالحة بين البيتَين العباسي والعلوي، وكانت خطوته المذهلة بانتخاب أبرز شخصية في البيت العلوي لولاية العهد، فأخمد بذلك لهيب الثورات هنا وهناك، وكان الذين يعفو عنهم في وضح النهار يختفون في ظلام الليل وتُسجّل الوفاة طبيعية! وكانت المستحضرات القاتلة والمصنوعة بمهارة فائقة تتطوّر يوماً بعد يوم.
    لقد استطاع الداهية العباسي ضرب طوق من الحصار على الإمام الرضا حتّى بات يتمنّى الموت من أجل الخلاص
    (9)، فهل يصعب عليه صبيّ في العاشرة من عمره ؟!
    لم يشعر المأمون بالخطر، ولكن التقارير التي وصلته من المدينة تفيد بأن الغالبيّة من شيعة أهل البيت وفي طليعتهم الفقهاء قد آمنوا بـ « محمد » إماماً، والذين يعرفون تشدّدهم في امتحان الأئمّة يُدركون أنّ وراء هذا الصبي المعجزة سِرّاً إلهيّا مكنوناً.
    فصبي تخشع القلوب لمرآه، وصبي إذا سُئل أجاب، وإذا تكلّم تدفّقت من بين شفتيه ينابيع الحكمة، لكأنّ الكلمات التي يقولها حقائق مجرّدة ترتدي ثوب الألفاظ وأردية الحروف، فأيّة حقيقة أبلغ من كلماته وهو يقول:
    ـ عِزّ المؤمن في غِناه عن الناس:
    ـ كفى بالمرء خيانةً أن يكون أميناً للخَوَنة.
    ـ نِعمة لا تُشكَر كسيّئة لا تُغفَر.
    ـ مَن استحسن قبيحاً كان شريكاً فيه.
    ـ موت الانسان بالذنوب أكثر من موته بالأجل.. وحياته بالبِرّ أكثر من حياته بالعمر.
    من أجل هذا رأى المأمون ـ وهو أمهر أهل زمانه في الشطرنج
    (10) ـ أن يستدعي الصبي إلى بغداد... وأن يُعيّن على موسم الحجّ ذلك العام أميراً علويّاً، فيكون قد كمّم أفواه الذين يتّهمونه باغتيال الرضا.
    وهكذا بدأ فصل جديد في حياة محمد بن علي الرضا الذي سيُعرَف فيما بعد بابن الرضا والجواد، التقيّ، المُنتجَب، المرتضى، المختار، المتوكّل، القانع، الزكيّ، العالِم، فكانت أسماء حُسنى.. أوسمة منحتها إيّاه الجماهير التي عاصرته.
    كان مسجد النبي ذلك الضحى هادئاً، وكانت مساقط الضوء عبر الكُوى تُضيء المكان وتُكسبه حالة من الشفّافيّة... وإلى اسطوانة في الجانب الايمن من البقعة الطاهرة حيث يرقد آخر الانبياء استند شيخ قد اجتاز الثمانين... لحيته البيضاء كالقطن بدت كهالة قمرٍ في سماء صافية، وعيناه تشعّان تواضعاً، يشعر المرء وهو يجلس في حضرته أنّه يتفيأ ظِلال نخلة محمّلة برطب جَنيّ، أو نبع يتدفّق ماءً زلالاً.
    هادئاً في جلسته وحوله رجال في منتصف العمر ربّما اجتذبتهم فيه طمأنينة في زمن قلق.
    ودخل محمد بن علي، وكان وجهه المستدير الاسمر يتألّق براءة وطُهراً، وهبّ علي بن جعفر فكأنه ينفض عن بدنه عشرات السنين المُثقلة بالحوادث، ولم يكترث لردائه الذي سقط عن كتفَيه، وتقدّم إلى الصبي الذي مسّته السماء وأراد أن يُقبّل يده، لكنّ الصبي سحبها برفق.
    قال الصبي بأدب:
    ـ اجلس يا عمّ!
    قال الشيخ وهو عمّ لأبيه:
    ـ كيف اجلس وأنت قائم.
    ـ جئتُ لزيارة جدّي و.. مودّعاً.
    ـ إلى أين مولاي ؟!
    ـ إلى بغدادَ يا عم.
    وتقدّم الصبي نحو الضريح الذي تفوح منه رائحة الفردوس، فيما عاد الشيخ إلى أصحابه... وهتف أعرابيٌّ أدهشه المشهد العجيب:
    ـ مَن هذا الفتى ؟!
    أجاب الشيخ الذي تناهبته السنون:
    ـ هذا وصيّ رسول الله!
    وفغر الأعرابي فاه:
    ـ كيف ؟! رسول الله قد مات منذ مائتي سنة، وهذا صبي... إنّ هذا لشيء عُجاب!!
    ـ يا أعرابيّ، هذا وصي علي بن موسى.
    وموسى وصيّ جعفر بن محمد.
    وجعفر وصيّ محمد بن علي.
    ومحمد وصيّ علي بن الحسين.
    والحسين وصيّ علي بن أبي طالب.
    وعليّ بن أبي طالب وصيّ رسول الله.
    استاء رجل واقفيٌّ فقال متسائلاً:
    ـ ما فعل أخوك أبو الحسن موسى بن جعفر ؟
    قال الشيخ وقد اهتزّ لذكرى أخيه:
    ـ قد مات.
    ـ ومن أين تعرف أنّه مات، وقد رُوي عن أبيك جعفر الصادق قوله: إنّ ابني هذا ـ يعني موسى ـ فيه نِسبة من خمسة أنبياء: يُحسَد كما حُسِد يوسف، ويغيب كما غاب يونس...
    قال علي بن جعفر:
    ـ والله ما قال أبي ذلك، إنّما قال:
    صاحب هذا الأمر ـ ويعني المهديّ... أمّا أخي موسى فقد مات في ظلمات السجن... سجن المطبق.. ولولا ذلك ما اقُتسِمت أموالُه ولا نُكحت ( أي إماؤه )، ولولا ذلك ما نَطَق الناطق بعده!
    ـ ومَن الناطق بعده ؟
    ـ ابنه علي.
    ـ فما فعل ؟
    ـ مات.
    ـ وما يُدريك أنّه مات ؟
    ـ قُسّمت أمواله، ونُكحت ( أي إماؤه )، ونَطقَ الناطقُ بعده.
    ـ ومَن الناطق بعده ؟
    ـ أبو جعفر، وهو ذاك عند قبر جدّه.
    قال الواقفي وقد أراد أن ينفث في قلب الشيخ نفثة شيطانية:
    ـ كيف تقول ذلك وأنت ابن جعفر الصادق...
    قال الشيخ بغضب:
    ـ ما أراك إلاّ شيطاناً.
    وأردف وهو ينظر باتّجاه السماء:
    ـ ماذا أفعل إذا كان الله قد رأى هذا الصبيَّ للإمامة أهلاً، ولم يَرَ هذه الشَّيبة لها أهلاً ؟!
    (11)

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    ما أنا واللعب ؟!

    أمر عجيب!
    هتف أحد الحجّاج وهو ينهض ثم ألقى نظرة على الكرسيّ الخالي: لقد غادر الصبي الاسمر المكان.. لقد ظل طيلة الوقت ينظر إليه..
    سرٌّ ما يشدّه من الأعماق نحوه.. وعندما وقعت عينا الصبي عليه بَهَرتْه إشراقةُ النور التي تطلّ من عينيه المتألقتين وشعر أن قلبه يسبح في رشاش من الضوء.
    لم يبق في المكان سواه ورجل آخر.
    وجاء الخادم ليُلقي نظرة أو يقوم بعمل ما، فقد غادر الضيوف.
    قال موجّهاً خطابه للرجلَين:
    ـ هل مِن خدمة يا حاجّ ؟
    نهض الواسطيّ وكان شيخاً في السبعين من العمر:
    ـ أريد لقاء أبي جعفر.
    ـ سوف أستأذن لك.. وأنت يا حاجّ..
    نهض الرجل:
    ـ لا.. ليست لي حاجة..
    غاب موفّق لحظات ليعود:
    ـ يمكنك الدخول.
    دخل الشيخ وحيّى الصبيَّ المدني الذي أوتي عِلمَ الكتاب.. طافت في ذهنه تساؤلات وهو يقف مبهوتاً.. أمر عجيب.. إنّه يقف في مقابل صبيّ هو حجّة الله على الناس جميعاً.. يقف أمام إنسان لم يبلغ من العمر مبلغ الرجال، ومع ذلك فإن مئات الألوف من البشر تدين بزعامته.. كم مرّة ختم القرآن وكم مرّة ردّد قوله تعالى في يحيى: وآتَيناهُ الحكُمَ صَبيّاً ، لكنه لم يكن يستطيع أن يتصوّر هذا الأمر، بل إنه لم يتدبّر في ذلك أبداً، ولكن الحقيقة الماثلة أمامه تهزّه وتوقظه..
    كيف يمكن لصبي لم يبلغ الحُلم بعدُ أن يختصر العالم ويكون مفسّراً لكلمات الله ؟ بل كيف يمكنه المجازفة بتحمّل هذه المسؤولية الخطيرة في زمنٍ استحال فيه العباسيّ إلى غَولٍ مُخيف يلتهم أبناء عليّ أينما ثُقِفوا ؟!
    ونظر الصبي إلى الشيخ فقرأ في عينيه الحيرة.. قال الشيخ وقد تجمّعت في أعماقه دهشة الشيعة:
    ـ يا سيدي، إن الناس يُنكرون عليك حداثة سِنّك!!
    قال الصبي:
    ـ ولِم يُنكرون ذلك ؟ أنُيكرون كلمة الله يخاطب نبيّه: قُل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرةٍ أنا ومَنِ اتّبعني ... واللهِ ما تَبِعه الاّ عليٌّ وله تسع سنين؛ وأنا ابن تسع سنين »
    (7).
    ـ يا سيدي أسألك عن تفسير قول الله عزّوجلّ: إنما جزاء الذين يُحاربون اللهَ ورسولَه، ويَسْعَون في الأرض فساداً أن يُقتَّلُوا أو يُصلَّبوا أو تُقطَّعَ أيديهم وأرجلهم مِن خِلافٍ أو يُنفَوا من الأرض؛ ذلك لهم خزيٌّ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم
    (8).
    ـ إنّهم ثلاثة أنواع، فمن حارب الله فأخذ مالاً وارتكب قتلاً كان جزاؤه القتلَ والصلب، ومن حارب ولم يأخذ مالاً كان جزاؤه القتل بلا صلب..
    ومن حارب فأخذ مالاً ولم يَقتل كان جزاؤه أن تُقطع يدُه ورجله من خلاف..
    ومن حارب ولم يأخذ مالاً ولم يقتل كان جزاؤه النفي..
    وفي الآية التي تلي هذه الآية استثنى الله سبحانه التائبين، فقال عزّوجلّ: إلاّ الذين تابوا مِن قَبلِ أن تَقْدِروا عليهم .
    ـ يا سيّدي! لقد جئتك بهديّة ومصوغات من بغداد.
    قال الواسطيُّ ذلك وفتح عُقدة منديل لتظهر ألعاب الأطفال، وكان بعضها مصنوعاً من الفضة...
    توقّع الشيخ أنّ الفرحة ستجد طريقها إلى قلب الصبي وستشرق في عينيه.. لكنه فُوجئ بتلك العينين المتألقتين تستحيلان إلى نافذتين تطلاّن على عالم يموج بالحزن... إنّ غضباً مقدّساً يتأجّج في أعماق الصبيّ الطاهر... أمسك محمد بالمصوغات وراح يرميها يميناً وشمالاً.
    قال وقد تهدّج صوته من الغضب:
    ـ ما لهذا خلقني الله! ما أنا واللَّعِب ؟!
    كان منظر الألعاب المتناثرة، يعكس محنة القلوب الحائرة التي لم تدرك بعد: كيف يكون الصبي إماماً... كيف تتركز في وجوده غائيّة الوجود الإنساني.
    قال الشيخ وقد شعر بأنّه ارتكب خطأ جسيماً:
    ـ العفو يا سيدي.
    ـ عفا الله عنك.. لِم آذيتني ؟

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    أُوتي الحكم صبيّاً

    كان الجدل حول الظروف التي تُوفّي فيها الإمام الرضا عليه السّلام ما يزال محتدماً... بعض يرى أنّ الوفاة كانت طبيعية، وهؤلاء كانوا لا يشكّون بتعاطف المأمون مع العلويين، أمّا الذين كانوا يعرفون الإمام الرضا وعدم رضاه، واستياءه من ولاية العهد، فقد كانوا يشكّكون في نوايا المأمون، ثمّ ما الذي حصل لكي يموت الإمام فجأة في الطريق إلى بغداد ؟!.. أليست هذه محاولة لارضاء بني العباس في بغداد ؟ هناك الكثير من الأسرار.
    وقد سُئل الصبي العالم فأجاب:
    ـ « الأيّام تهتك لك الاسرار الكامنة »
    (5).
    كانت أُخريات ذي الحجّة، وقد انطوى موسم الحجّ، وعادت قوافل الحجيج إلى ديارها، ولكنّ ثمانين من فقهاء بغداد غادروا المدينة إلى قرية « صريّا » في الضواحي القريبة.. وكان الهدف تقصّي هويّة الإمام الجديد.. والطريق الوحيد هو الامتحان.. فالإمام إذا سُئل أجاب.. فهو مُستودَع لأسرار السماء، وامتداد لعلم الأنبياء...
    جلس الرجال ينتظرون.. وبين الفَينة والأخرى كان رجل يدخل ليتّخذ له مكاناً بين الناس... ودخل عبدالله بن موسى يرتدي ثياباً خشنة، وكان شيخاً قد أضفت آثار السجود في جبينه عليه هَيبة..
    ولم يَطُل الانتظار حتّى خرج صبي في التاسعة من العمر يرتدي ثياباً مصنوعة من الكتّان، ونعلاً بيضاء ناصعة.
    فنهض عمّه عبدالله وقبّله في جبينه، ونهض الناس جميعاً ثمّ عادوا إلى جلوسهم وساد صمت مهيب.
    هناك في حياة الإنسان أسرار لا يُدركها المرء في أمد من السنين، وقد لا يدركها أبداً... شيءٌ ما كانت تخشع له القلوب لأوّل نظرة... ولقد هيمن روح شفّاف بمجرّد أن استوى الصبي على الكرسي.
    النظرات البريئة الطاهرة والوجه المتألّق سُمرة ونوراً كان يبعث في القلوب السلام والسكينة، ونهض رجل ليسأل فقال:
    ـ ما لنا نرى البعض يصلّي فيُكثِر في الصلاة، ويصوم فلا نرى في مسلكه خيراً ؟!
    قال الذي أُوتيَ الحُكمَ صبيّاً:
    ـ القَصْد إلى الله تعالى بالقلوب أبلغ من إتعاب الجوارح بالأعمال.
    ـ ما لِلناس يُجلّون الثريّ مع أنّهم لا ينتفعون بأمواله ؟!
    ـ الغنيّ كريم عند أهله.
    ـ وعند غير أهله ؟
    ـ لا، إلاّ أن يكون يُجدي عليهم نفعاً.
    ـ فلماذا يُجلّونه إذن مع أنّهم لا ينتفعون بماله ؟!
    ـ لأنّ معشوقهم عنده، وهو المال!
    وخشعت القلوب لحكمة هذا الصبي الذي يمزّق الحُجُب لتظهر الحقيقة... حقيقة البشر.
    ونهض رجل آخر فقال:
    ـ أوصِني يا ابن النبي:
    ـ أتقبَلْ وصيّتي ؟
    ـ نعم.
    ـ توسَّدِ الصبر، واعتَنِقِ الفقر، وارفُضِ الشهوات، وخالِف الهوى، واعلَم أنّك لن تخلو من عين الله، فانظُر كيف تكون.
    وقال رجل قد ذرّف على الستّين وقد عركته الحياة:
    ـ مِن كمال مروءة الإنسان ؟
    ـ تَرْكُه ما لا يَجْمُل به.
    ـ ومِن حيائه ؟
    ـ أن لا يلقى أحداً بما يكره.
    ـ ومن عقله ؟
    ـ حُسن رِفقه.
    ـ ومن أدبه ؟
    ـ أن لا يترك ما لابُدّ له منه.
    ـ ومن عِرفانه ؟
    ـ عِلمُه بزمانه.
    ـ ومن وَرَعه ؟
    ـ غضّ بَصَره، وعِفّة بطنه.
    ـ ومن حُسن خلقه ؟
    ـ كفُّه أذاه.
    ـ ومن سخائه ؟
    ـ بِرّه بمَن يجب حقُّه عليه، وإخراجه حقَّ الله من ماله.
    ـ ومِن إسلامه ؟
    ـ تَرْكُه ما لا يعنيه، وتجنّبه الجدال والمِراء في دينه.
    ـ ومن كرمه ؟|
    ـ إيثاره على نفسه.
    ـ ومن صبره ؟
    ـ قلّة شكواه.
    ـ ومن عقله ؟
    ـ إنصافه من نفسه.
    ـ ومن حِلمه ؟
    ـ تركه الغضب عند مخالفته.
    ـ ومن إنصافه ؟
    ـ قبوله الحقَّ إذا بان له.
    ـ ومن نُصحه ؟
    ـ نَهْيُه عمّا لا يرضاه لنفسه.
    ـ ومن حفظه جوارك ؟
    ـ ترَْكُه توبيخك عند اسائتك مع عِلمه بعيوبك.
    ـ ومن رِفقه ؟
    ـ تركُه ملامتك عند غضبك بحضرة مَن تكره.
    ـ ومن حُسن صحبته لك ؟
    ـ إسقاطه عنك مؤونة أذاك.
    ـ ومن صداقته ؟
    ـ كثرة موافقته، وقلّة مخالفته.
    ـ ومن شُكره ؟
    ـ معرفة إحسان مَن أحسن إليه.
    ـ ومن تواضعه ؟
    ـ معرفته قَدْرَه.
    ـ ومن حكمته ؟
    ـ عِلمه بنفسه.
    ـ ومن سلامته ؟
    ـ قلّة حفظه لعيوب غيره، وعنايتُه بإصلاح عيوبه
    (6).
    وسكت الشيخ ثمّ هتف بخشوع:
    ـ أشهد أنّك آية من آيات الله، وإن الله أعلم حيث يجعل رسالته!

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    الإمامة الإلهية المبكِّرة

    لموسم الحجّ في بغداد نكهته، أهل بغداد يجعلون من كلّ مناسبة احتفالاً ويمرحون فيها، فإذا صادف الموسم ربيعاً كان الاحتفال كبيراً، وتستحيل البساتين في الجانب الغربي إلى متنزّه مترامي الاطراف، ويقصد الفقراء من الحجّاج أمكنة خاصّة يَتلقَّون فيها بعض العَون على رحلتهم الشاقّة إلى بيت الله، كما يستغلّ بعض الشبّان هذه المناسبة فيرتدون حُللاً زاهية جميلة يُفتنون بها الفتيات اللاتي يفعلن مثل ذلك.. ويستمر الوضع أياماً معدودة ريثما تنتظم قوافل الحجيج ويُعيَّن أمير الحج.
    وفي ذلك العام كان كثير من فقهاء بغداد واطرافها قد عزموا على الحجّ للقاء « ابن الرضا »، فقد كثر الجدل حول إمامته... وما تزال حادثة « بركة زلول »
    (4) تلقي ظِلال الشك والحَيرة على الكثيرين.
    وكان السؤال: كيف يمكن لصبيّ في التاسعة أن يكون إماماً للمسلمين! فليست الإمامة زعامة عادية... إنّها تنطوي على مسؤوليّة خطيرة...
    من أجل ذلك اجتمع ثمانون فقيهاً من بغداد وغيرها وقد عزموا على الحجّ من أجل استجلاء الحقيقة...
    من أجل هذا كثر الجدال حول هذه المسألة، وقد يسمع المرء إذا أراد الإصغاء لبعض الحُجّاج الذين جلسوا على شاطئ دِجلة هذا الحوار:
    ـ لقد سمعت أنّ « عبدالله بن موسى » قد جلس للإفتاء.. ومعنى هذا أنّه هو الإمام بعد علي الرضا.
    ـ كيف وقد جاء في الروايات أنّ الإمامة لن تكون في الأخوَين بعد الحسن والحسين ؟!
    ـ فكيف يُعقَل أن يكون صبيٌّ في التاسعة إماماً ؟!
    ـ ولِم لا... ألم يُؤتِ الله النبوّة يَحيى وقد كان صبيّاً... ألم يتكلم عيسى في المهد وبَشّر بني إسرائيل بنبوّته ؟!
    ـ إنّ يحيى وعيسى نبيّان.
    ـ وما الفرق بين الإمامة والنبوّة. كلاهما عَهد إلهيّ ؟! والله أعلم حيث يجعل رسالته..
    ـ ما تقوله صحيح، ولكني لن أصدّق، فالصبي صبي في فِكره وعقله وعِلمه.
    ـ فإذا كان هذا الصبي عالماً بالشريعة... يجيب إذا سُئل ويُفتي الناس إذا استفتوه ؟
    ـ لقد اعتدنا أن نرى العلماء وهم بيض اللحى وقد اشتعل الشيب في رؤوسهم.. أمّا أن يكون الصبي عالماً وإماماً فهذا يحيّر العقل... لقد كان أبوه عالماً كبيراً غلب رؤساء الأديان وطار صيته في الآفاق... من يصدّق أنّ عِمران الصابئ هذا الذي هزم الكثيرين يستسلم أمام الرضا ثم يسلم وجهه لله ؟!
    كأنّك نسيت « الشيخ معروف »، لقد أسلم هو ووالداه ببركة الرضا.. كانت وفاته خسارة لا تعوض!
    ـ الناس يقولون أشياء كثيرة ويتّهمون المأمون.
    ـ الله هو الذي يعلم حقائق الأمور. دعنا من هذا الكلام.. وأخبرني عن هذه المصوغات التي اشتريتَها ؟
    ـ لقد اشتريت مصوغات أطفال من السوق لأبي جعفر، فهو صبي وأنا أحبّ أن أُدخل على قلبه الفرحة...
    ـ هل تتصور أنّه سيقبلها ؟
    ـ ولِم لا ؟ لا تنسَ أنّه ما يزال صبياً ؟

    اترك تعليق:


  • رحيق الزكية
    رد
    يتكلّم في المهد

    أن يتكلم صبيٌّ في المهد فتلك معجزة... فالطفل في المهد زهرة تتفتّح للحياة... أودع الله فيه أسراره... وقذف في قلب أمّه محبّة منه... إذا جاع بكى... فإذا بكى وجد صدراً حنوناً ولَبَناً سائغاً وعاطفة هي قَبَس من رحمة الله أودعها اُمّهات..
    فإذا تكلّم صبيّ في المهد فتحطّم على شفتيه ما اعتاده الناس فيكون الطفل آية لله.. فإذا نطق بالحكمة وإذا أزاج عن الفكر البشري حُجُب الرؤية المحدودة المثقلة بالطين... فإنّ كلماته ولا شكّ ستكون كلمة الله يُريد إسماعها للإنسان..
    في ذلك الزمن وحيث كلّ شيءٍ يمضي على سُنن الطبيعة تكلم صبي اسمُه « محمّد »... فكانت كلماته الدافئة معجزة وكرامة للإنسان الذي مسّته السماء، حتّى إذا هوى والده في « طوس » غريباً، لم يكن أحد من سكان المدينة قد سمع شيئاً، فخيول البريد تستغرق أياماً طويلة.. ولكن في تلك اللحظة شعر محمد بنور يسطع في أعماقه.. وحقائق كبرى تضطرم في باطنه.. واجتاحته حالةُ حزن مرير... كأنّ دخان الدموع يتصاعد إلى عينيه.. فقال شبيهُ عيسى ابن مريم لجارية في المنزل:
    ـ قولي لهم يتهيّأون للمأتم!!
    ـ مأتم من ؟!
    ـ مأتمُ خيرِ أهل الأرض.
    وعمّ الحزن قريةَ « صريّا »، فهذا الصبي لا ينطق عن هوى، وكلماته حقّ وحقائق.. وفي تلك الليلة رَوَت الجارية وكانت حاضنة له:
    ـ ما رأيت صبياً في حياتي مثله... كان يذهل عن نفسه، ويستغرق في الفكر... قلت له ذات يوم وقد رأيته يرسل نظرات عميقة الغور: مالي أراك مفكّراً كأنك شيخ ؟ فقال لي: إن عيسى ابن مريم كان يمرض وهو صبي، فيصف لأمّه ما تعالجه به، فإذا تناوله بكى، فتقول له: يا بُنيّ إنّما أُعالجك بما علّمتَني! فيقول لها: الحُكم حُكم النبوّة، والخِلقة خلقة الصبيان!
    وتمرّ أيام وتأتي خيول البريد بأنباء طوس الحزينة، لقد هوى نجمٌ أضاء في سماء العالم حيناً من الدهر... ليسطع نجم جديد..
    هناك في قرية « صريّا » في ضواحي المدينة المنورة أشرق الكوكب التاسع، وأضحت تلك القرية الصغيرة قلباً ينبض بالسلام في زمن القلق الانساني..
    وكان الحائرون والذين يبحثون عن نجم يهديهم سَواءَ السبيل يقصدون القرية لرؤية الفتى المعجزة الذي بَهر مجتمعه بكلماته وأجوبته.

    اترك تعليق:

المحتوى السابق تم حفظه تلقائيا. استعادة أو إلغاء.
حفظ-تلقائي
Smile :) Embarrassment :o Big Grin :D Wink ;) Stick Out Tongue :p Mad :mad: Confused :confused: Frown :( Roll Eyes (Sarcastic) :rolleyes: Cool :cool: EEK! :eek:
x
يعمل...
X