يسألونه
غادر الناس بلاط المأمون ولا حديث لهم سوى هذه المعجزة الانسانيّة.. كيف يمكن لصبيّ لم يبلغ الحُلم أن يكون له كلّ هذا العِلم وهذا المنطق الفيّاض، بل إن بعضهم كان مشدوداً إليه طوال الوقت كما تنجذب فراشة مبهورة بالنور إلى شمعة متوهّجة.. إن سرّاً ما يكمن في هذه النفس الطاهرة.. وتمتم أحدهم بكلمات السماء:
يا يَحيى خُذِ الكتابَ بقوّةٍ وآتَيناه الحُكْمَ صَبيّاً... .
كم شكّك الواقفة في إمامة والده إذ اجتاز الاربعين ولم يُرزَق ولداً، حتّى إذا أطلّ هذا الصبي إذا به يكون آية إذ يكلم الناس في المهد صبيّاً!
لم يبق في البلاط سوى رجال الدولة عندما أمر المأمون كاتبه الخاص أن يستعد لتسجيل ما سيقوله صهره.
قال المأمون متودداً:
ـ إن رأيتَ جُعلتُ فداك أن تذكر الفِقه فيما فصّلتَه من وجوه قَتْل الصيد لنعلمه ونستفيده.
قال الفتى وقد تفجّرت ينابيع الحكمة:
ـ إنّ المُحرِم إذا قَتَل صيداً في الحِلّ، وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة.
فإذا أصابه في الحَرَم فعليه الجزاء مضاعفاً.
فإذا قتل فرخاً في الحِلّ فعليه حمل قد فُطم من اللبن، وليست عليه القيمة لأنّه في الحل.
وإذا قتله في الحَرَم فعليه الحمل وقيمة الفرخ.
وان كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة.
وإن كان نَعامة فعليه « بدنة » (24)، فإن لم يقدر فإطعام ستّين مسكيناً، فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوماً.
وإن كان بقرة فعليه بقرة، فإذا لم يقدر فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر فَلْيصُمْ تسعة أيّام.
فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هَدْياً بالغ الكعبة.
وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهَدْي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نَحَرَه بمِنى حيث يَنحر الناس.
وإن كان احرامه بالعُمرة نَحَره بمكّة في فِناء الكعبة ويتصدّق بمِثل ثمنه حتّى يكون مضاعفاً.
وكذلك إذا أصاب أرنباً أو ثعلباً فعليه شاة، ويتصدّق بمثل ثَمَن شاة.
وإن قتل حماماً من حمام الحرم فعليه دِرْهَم يتصدّق به، ودرهم يشتري به عَلَفاً لحمام الحرم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم، وكلّ ما أتى به المُحرِم بجهالة أو خطأ فلا شيء عليه إلاّ الصيد، فإنّ عليه فيه الفداء أكان بجهالة أم عِلم، وبخطأ أم عَمد.
وجزاء الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع ساقط عنه في الخطأ.
والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده.
والصغير لا كفّارةَ عليه، وهي على الكبير واجبة.
والنادم يسقط بندمه عنه عقابُ الآخرة، والمُصِرّ يجب عليه العقاب في الآخرة،وإن دَلَّ على الصيد وهو مُحرِم، وقُتِل الصيد فعليه الفداء.
وان أصابه ليلاً في أوكارها خطأ فلا شيء عليه إن لم يتصيّد، فإن تصيّد بليل فعليه الفداء.
وفغر المأمون فاه دهشة تصاعدت من شفاه ابن أكثم كلمات الإكبار: حاشا لله! ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَك كريم!!
وتنفّس الكاتب الهواء وقد توقّف ينبوع الحكمة عن القرارات، ولحاجةٍ ما قال المأمون:
ـ ألا تسأله يا أبا جعفر ؟!
التفت الفتى الأسمر إلى قاضي قضاة الدولة الإسلاميّة.. وقال الجواد بأدب الأنبياء:
ـ أسألك ؟
قال ابن اكثم وقد استحال إلى تلميذ لا يفقه من العِلم شيئاً:
ـ ذاك إليكَ جُعِلت فداك، فإن عرفتُ جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدتُ منك.
وطرح الإمام سؤالاً ينسجم مع ثقافة بغداد التي بدأت تسطّر حكاياتها الاسطورية.. كان السؤال يشبه لغزاً مثيراً:
ـ أخبِرني عن رجلٍ نَظَر إلى امرأةٍ في بدء النهار فكانت نظرته إليها حراماً عليه!
فلما كان الضحى حلّت له!
فلما حان الظهر حَرُمَت عليه!
فلما كان وقت العصر حلّت له!
فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له!
فلما انتصف الليل حَرُمت عليه!
فلما طلع الفجر حلّت!
فما حال هذه المرأة، وبماذا حلّت به ؟ وحرمت عليه ؟
قال القاضي الكبير مستسلماً:
ـ واللهِ لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتَ أن تفيدنا به ؟
قال الذي أوتي عِلم الكتاب:
ـ هذه أَمَة لرجل من الناس، نظر إليها رجل أجنبيّ ( نظرة مُريبة ) في أوّل النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه.
فلما ارتفع النهار ابتاعها من سيدها فحلّت له.
فلما كان الظهر أعتَقَها فحَرُمت عليه.
فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له.
فلما كان وقت المغرب ظاهَرَ منها فحَرُمت عليه.
فلما كان وقت العشاء الآخر كفّر عن الظِّهار فحلّت له.
فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فحَرُمت عليه.
فلما كان الفجر راجعها فحلّت له.
ودُهِش رجال البيت العبّاسي، وشعروا أنهم أمام ظاهرة هي معجزة خارقة وآية سماويّة تخشع لها القلوب والعقول..
قال المأمون:
ـ هل فيكم أحد يُجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو خطر له شيء ممّا قال فيما تقدّم من السؤال ؟!
قالوا مبهورين:
ـ لا والله، إن أمير المؤمنين لأعلم.
واستحال ابن أكثم الذي كان يعدّ نفسه أكبر شخصيّة عِلميّة إلى تلميذ متصاغرٍ أمام بحر العلم الإلهي.. قال متسائلاً:
ـ ما تقول يا أبا جعفر في رجل نكح امرأة على زنا، هل يحلّ له أن يتزوّجها ؟
قال الفتى الاسمر:
يدعها حتى تستبرئ من نُطفته ونطفة غيره، فقد تكون قد فعلت ذلك مع غيره، ثمّ يمكنه أن يتزوّجها إذا أراد ذلك..
إنّما مَثَلُها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً.
هتف المأمون مأخوذاً:
ـ أحسنتَ يا أبا جعفر، أحسن الله اليك! (25).
غادر الناس بلاط المأمون ولا حديث لهم سوى هذه المعجزة الانسانيّة.. كيف يمكن لصبيّ لم يبلغ الحُلم أن يكون له كلّ هذا العِلم وهذا المنطق الفيّاض، بل إن بعضهم كان مشدوداً إليه طوال الوقت كما تنجذب فراشة مبهورة بالنور إلى شمعة متوهّجة.. إن سرّاً ما يكمن في هذه النفس الطاهرة.. وتمتم أحدهم بكلمات السماء:
يا يَحيى خُذِ الكتابَ بقوّةٍ وآتَيناه الحُكْمَ صَبيّاً... .
كم شكّك الواقفة في إمامة والده إذ اجتاز الاربعين ولم يُرزَق ولداً، حتّى إذا أطلّ هذا الصبي إذا به يكون آية إذ يكلم الناس في المهد صبيّاً!
لم يبق في البلاط سوى رجال الدولة عندما أمر المأمون كاتبه الخاص أن يستعد لتسجيل ما سيقوله صهره.
قال المأمون متودداً:
ـ إن رأيتَ جُعلتُ فداك أن تذكر الفِقه فيما فصّلتَه من وجوه قَتْل الصيد لنعلمه ونستفيده.
قال الفتى وقد تفجّرت ينابيع الحكمة:
ـ إنّ المُحرِم إذا قَتَل صيداً في الحِلّ، وكان الصيد من ذوات الطير وكان من كبارها فعليه شاة.
فإذا أصابه في الحَرَم فعليه الجزاء مضاعفاً.
فإذا قتل فرخاً في الحِلّ فعليه حمل قد فُطم من اللبن، وليست عليه القيمة لأنّه في الحل.
وإذا قتله في الحَرَم فعليه الحمل وقيمة الفرخ.
وان كان من الوحش وكان حمار وحش فعليه بقرة.
وإن كان نَعامة فعليه « بدنة » (24)، فإن لم يقدر فإطعام ستّين مسكيناً، فان لم يقدر فليصم ثمانية عشر يوماً.
وإن كان بقرة فعليه بقرة، فإذا لم يقدر فليطعم ثلاثين مسكيناً، فإن لم يقدر فَلْيصُمْ تسعة أيّام.
فإن قتل شيئاً من ذلك في الحرم فعليه الجزاء مضاعفاً هَدْياً بالغ الكعبة.
وإذا أصاب المُحرِم ما يجب عليه الهَدْي فيه، وكان إحرامه بالحجّ نَحَرَه بمِنى حيث يَنحر الناس.
وإن كان احرامه بالعُمرة نَحَره بمكّة في فِناء الكعبة ويتصدّق بمِثل ثمنه حتّى يكون مضاعفاً.
وكذلك إذا أصاب أرنباً أو ثعلباً فعليه شاة، ويتصدّق بمثل ثَمَن شاة.
وإن قتل حماماً من حمام الحرم فعليه دِرْهَم يتصدّق به، ودرهم يشتري به عَلَفاً لحمام الحرم، وفي الفرخ نصف درهم، وفي البيضة ربع درهم، وكلّ ما أتى به المُحرِم بجهالة أو خطأ فلا شيء عليه إلاّ الصيد، فإنّ عليه فيه الفداء أكان بجهالة أم عِلم، وبخطأ أم عَمد.
وجزاء الصيد على العالِم والجاهل سواء، وفي العمد له المأثم، وهو موضوع ساقط عنه في الخطأ.
والكفّارة على الحرّ في نفسه، وعلى السيّد في عبده.
والصغير لا كفّارةَ عليه، وهي على الكبير واجبة.
والنادم يسقط بندمه عنه عقابُ الآخرة، والمُصِرّ يجب عليه العقاب في الآخرة،وإن دَلَّ على الصيد وهو مُحرِم، وقُتِل الصيد فعليه الفداء.
وان أصابه ليلاً في أوكارها خطأ فلا شيء عليه إن لم يتصيّد، فإن تصيّد بليل فعليه الفداء.
وفغر المأمون فاه دهشة تصاعدت من شفاه ابن أكثم كلمات الإكبار: حاشا لله! ما هذا بَشَراً إنْ هذا إلاّ مَلَك كريم!!
وتنفّس الكاتب الهواء وقد توقّف ينبوع الحكمة عن القرارات، ولحاجةٍ ما قال المأمون:
ـ ألا تسأله يا أبا جعفر ؟!
التفت الفتى الأسمر إلى قاضي قضاة الدولة الإسلاميّة.. وقال الجواد بأدب الأنبياء:
ـ أسألك ؟
قال ابن اكثم وقد استحال إلى تلميذ لا يفقه من العِلم شيئاً:
ـ ذاك إليكَ جُعِلت فداك، فإن عرفتُ جواب ما تسألني عنه وإلاّ استفدتُ منك.
وطرح الإمام سؤالاً ينسجم مع ثقافة بغداد التي بدأت تسطّر حكاياتها الاسطورية.. كان السؤال يشبه لغزاً مثيراً:
ـ أخبِرني عن رجلٍ نَظَر إلى امرأةٍ في بدء النهار فكانت نظرته إليها حراماً عليه!
فلما كان الضحى حلّت له!
فلما حان الظهر حَرُمَت عليه!
فلما كان وقت العصر حلّت له!
فلما دخل عليه وقت العشاء الآخرة حلّت له!
فلما انتصف الليل حَرُمت عليه!
فلما طلع الفجر حلّت!
فما حال هذه المرأة، وبماذا حلّت به ؟ وحرمت عليه ؟
قال القاضي الكبير مستسلماً:
ـ واللهِ لا أهتدي إلى جواب هذا السؤال ولا أعرف الوجه فيه، فإن رأيتَ أن تفيدنا به ؟
قال الذي أوتي عِلم الكتاب:
ـ هذه أَمَة لرجل من الناس، نظر إليها رجل أجنبيّ ( نظرة مُريبة ) في أوّل النهار، فكان نظره إليها حراماً عليه.
فلما ارتفع النهار ابتاعها من سيدها فحلّت له.
فلما كان الظهر أعتَقَها فحَرُمت عليه.
فلما كان وقت العصر تزوّجها فحلّت له.
فلما كان وقت المغرب ظاهَرَ منها فحَرُمت عليه.
فلما كان وقت العشاء الآخر كفّر عن الظِّهار فحلّت له.
فلما كان نصف الليل طلّقها واحدةً فحَرُمت عليه.
فلما كان الفجر راجعها فحلّت له.
ودُهِش رجال البيت العبّاسي، وشعروا أنهم أمام ظاهرة هي معجزة خارقة وآية سماويّة تخشع لها القلوب والعقول..
قال المأمون:
ـ هل فيكم أحد يُجيب عن هذه المسألة بمثل هذا الجواب، أو خطر له شيء ممّا قال فيما تقدّم من السؤال ؟!
قالوا مبهورين:
ـ لا والله، إن أمير المؤمنين لأعلم.
واستحال ابن أكثم الذي كان يعدّ نفسه أكبر شخصيّة عِلميّة إلى تلميذ متصاغرٍ أمام بحر العلم الإلهي.. قال متسائلاً:
ـ ما تقول يا أبا جعفر في رجل نكح امرأة على زنا، هل يحلّ له أن يتزوّجها ؟
قال الفتى الاسمر:
يدعها حتى تستبرئ من نُطفته ونطفة غيره، فقد تكون قد فعلت ذلك مع غيره، ثمّ يمكنه أن يتزوّجها إذا أراد ذلك..
إنّما مَثَلُها مثل نخلة أكل رجل منها حراماً، ثمّ اشتراها فأكل منها حلالاً.
هتف المأمون مأخوذاً:
ـ أحسنتَ يا أبا جعفر، أحسن الله اليك! (25).
اترك تعليق: