سلام من السلام عليكم
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يكن له ندٌّ ولا ولد , ثمَّ الصلاة على نبيه المصطفى ، وآله الميامين الشرفا ، الذين خصّهم الله بآية التطهير . يقول تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
ـ فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ
[ 58 ]
الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شيء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما
[ 59 ]
أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا و نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها
و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد
فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذي نلت أطول
[ 60 ]
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل
و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
و الحمد لله الذي برهانه
أن ليس شأن ليس فيه شانه
و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره
و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب . ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا
[ 61 ]
نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب و تصعيد
رأيت موضع برهان يلوح و ما
رأيت موضع تكييف و تحديد
و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ
[ 62 ]
وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ اَلْجِبالَ أَوْتاداً و الميدان التحرك و التموج . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة . و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن
[ 63 ]
ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك و دلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شيء من أحوال غير القائل فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل . و أما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لا يسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم
[ 64 ]
الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة . ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد و البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه . و لقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعل و بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس و هذا باطل .
[ 65 ]
و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شيء للاستغراق كقوله إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الدينار فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد و قول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد
[ 66 ]
وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة . ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك
[ 67 ]
أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون . و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا
[ 68 ]
الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن
[ 69 ]
بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شيء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح . ثم قال الراوندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته . ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل
[ 70 ]
مدة الشيء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى . و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه . فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .
[ 71 ]
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته . فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر . قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات و الأرض .
[ 72 ]
قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات و الأرض و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق و تارة قال أنشأ الخلق و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء و خلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي و ذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا : أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ
[ 73 ]
وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَمَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل و أول الواجبات الدينية المعرفة و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى و تارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع . و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة و المعرفة هي المقصود بالوجوب و أمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة و قد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا و أما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
[ 74 ]
و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك و ذلك يفضي إلى تركيبهما و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط . و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن و واجب الوجود ليس بممكن و أيضا فكل عرض مفتقر و واجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم و لا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه و معرفته تكون أتم و أكمل . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم قال ع
[ 75 ]
لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة و هذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو و لا غيره و الأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما و المتصور مغاير لما ليس بمتصور و الثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني و هو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة و أما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا و قد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة و حينئذ تتم المعرفة و تكمل . ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق لأن كل مشار إليه فهو محدود
[ 76 ]
لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة و كل ما هو في جهة فله حد و حدود أي أقطار و أطراف . قال و من حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق لأن من تصور أنه في شيء فقد جعله إما جسما مستترا في مكان أو عرضا ساريا في محل و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم و إلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما و لزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث و الجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له . و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
[ 77 ]
و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن و كمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية و العرضية و البارئ ليس بجسم و لا عرض و نحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا و عالما فأصحابها أصحاب الأحوال و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه و حقيقته و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل و الفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب و الفهم فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها .
[ 78 ]
انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه . ثم قال الأول على وزن أفعل يستوي فيه المذكر و المؤنث إذا لم يكن فيه الألف و اللام فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى . و هذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد : كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا [ أَجْنَائِهَا ] قوله ع كائن و إن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث .
[ 79 ]
فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل بينهما فرق و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده و نفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته . و أما قوله مع كل شيء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . و أما قوله و غير كل شيء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر و باينه بمكان أو زمان و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان و الزمان فصدق عليه أنه غير كل شيء لا بمزايلة . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق لأن فعله اختراع و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة كما يفعل الواحد منا و لا يوجد شيئا من شيء . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر و معنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت
[ 80 ]
و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده فإذ هاهنا ظرف و معنى الكلام أن العادة و العرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه و يستوحش ببعده فانفرد عنه و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل و لا موجود سواه و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . و قوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة و أجالها رددها و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها و قوله و لا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام . و قوله و لا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات و هذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين و يعلم العلوم كلها و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع .
[ 81 ]
و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شيء و وقته كمحل الدين و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . و قوله و لاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز و قوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف . و قوله و ألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح و هذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل . و قوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل و قوله محيطا بحدودها و انتهائها أي بأطرافها و نهاياتها . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها القرائن جمع قرونة و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها .
[ 82 ]
فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا و هذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا . و قال أيضا يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به و الهمامة التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
[ 83 ]
و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ
الحمد لله الواحد الأحد ، الفرد الصمد ، الذي لم يكن له ندٌّ ولا ولد , ثمَّ الصلاة على نبيه المصطفى ، وآله الميامين الشرفا ، الذين خصّهم الله بآية التطهير . يقول تعالى : (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)
شرح نهج البلاغة
ابن أبي الحديد المعتزلي
ـ فمن خطبة له ع يذكر فيها ابتداء خلق السماء و الأرض و خلق آدم
اَلْحَمْدُ لِلَّهِ اَلَّذِي لاَ يَبْلُغُ مِدْحَتَهُ اَلْقَائِلُونَ وَ لاَ يُحْصِي نَعْمَاءَهُ اَلْعَادُّونَ وَ لاَ يُؤَدِّي حَقَّهُ اَلْمُجْتَهِدُونَ [ اَلْجَاهِدُونَ ] اَلَّذِي لاَ يُدْرِكُهُ بُعْدُ اَلْهِمَمِ وَ لاَ يَنَالُهُ غَوْصُ اَلْفِطَنِ اَلَّذِي لَيْسَ لِصِفَتِهِ حَدٌّ مَحْدُودٌ وَ لاَ نَعْتٌ مَوْجُودٌ وَ لاَ وَقْتٌ مَعْدُودٌ وَ لاَ أَجْلٌ مَمْدُودٌ فَطَرَ اَلْخَلاَئِقَ بِقُدْرَتِهِ وَ نَشَرَ اَلرِّيَاحَ بِرَحْمَتِهِ وَ وَتَّدَ بِالصُّخُورِ مَيَدَانَ أَرْضِهِ
[ 58 ]
الذي عليه أكثر الأدباء و المتكلمين أن الحمد و المدح أخوان لا فرق بينهما تقول حمدت زيدا على إنعامه و مدحته على إنعامه و حمدته على شجاعته و مدحته على شجاعته فهما سواء يدخلان فيما كان من فعل الإنسان و فيما ليس من فعله كما ذكرناه من المثالين فأما الشكر فأخص من المدح لأنه لا يكون إلا على النعمة خاصة و لا يكون إلا صادرا من منعم عليه فلا يجوز عندهم أن يقال شكر زيد عمرا لنعمة أنعمها عمرو على إنسان غير زيد . إن قيل الاستعمال خلاف ذلك لأنهم يقولون حضرنا عند فلان فوجدناه يشكر الأمير على معروفه عند زيد قيل ذلك إنما يصح إذا كان إنعام الأمير على زيد أوجب سرور فلان فيكون شكر إنعام الأمير على زيد شكرا على السرور الداخل على قلبه بالإنعام على زيد و تكون لفظة زيد التي استعيرت ظاهرا لاستناد الشكر إلى مسماها كناية لا حقيقة و يكون ذلك الشكر شكرا باعتبار السرور المذكور و مدحا باعتبار آخر و هو المناداة على ذلك الجميل و الثناء الواقع بجنسه . ثم إن هؤلاء المتكلمين الذين حكينا قولهم يزعمون أن الحمد و المدح و الشكر لا يكون إلا باللسان مع انطواء القلب على الثناء و التعظيم فإن استعمل شيء من ذلك في الأفعال بالجوارح كان مجازا و بقي البحث عن اشتراطهم مطابقة القلب للسان فإن الاستعمال لا يساعدهم لأن أهل الاصطلاح يقولون لمن مدح غيره أو شكره رياء و سمعة إنه قد مدحه و شكره و إن كان منافقا عندهم و نظير هذا الموضع الإيمان فإن أكثر المتكلمين لا يطلقونه على مجرد النطق اللساني بل يشترطون فيه الاعتقاد القلبي فأما
[ 59 ]
أن يقصروا به عليه كما هو مذهب الأشعرية و الإمامية أو تؤخذ معه أمور أخرى و هي فعل الواجب و تجنب القبيح كما هو مذهب المعتزلة و لا يخالف جمهور المتكلمين في هذه المسألة إلا الكرامية فإن المنافق عندهم يسمى مؤمنا و نظروا إلى مجرد الظاهر فجعلوا النطق اللساني وحده إيمانا . و المدحة هيئة المدح كالركبة هيئة الركوب و الجلسة هيئة الجلوس و المعنى مطروق جدا و منه في الكتاب العزيز كثير كقوله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها
و في الأثر النبوي لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك و قال الكتاب من ذلك ما يطول ذكره فمن جيد ذلك قول بعضهم الحمد لله على نعمه التي منها إقدارنا على الاجتهاد في حمدها و إن عجزنا عن إحصائها و عدها و قالت الخنساء بنت عمرو بن الشريد
فما بلغت كف امرئ متناول
بها المجد إلا و الذي نلت أطول
[ 60 ]
و لا حبر المثنون في القول مدحة
و إن أطنبوا إلا و ما فيك أفضل
و من مستحسن ما وقفت عليه من تعظيم البارئ عز جلاله بلفظ الحمد قول بعض الفضلاء في خطبة أرجوزة علمية
الحمد لله بقدر الله
لا قدر وسع العبد ذي التناهي
و الحمد لله الذي برهانه
أن ليس شأن ليس فيه شانه
و الحمد لله الذي من ينكره
فإنما ينكر من يصوره
و أما قوله الذي لا يدركه فيريد أن همم النظار و أصحاب الفكر و إن علت و بعدت فإنها لا تدركه تعالى و لا تحيط به و هذا حق لأن كل متصور فلا بد أن يكون محسوسا أو متخيلا أو موجودا من فطرة النفس و الاستقراء يشهد بذلك مثال المحسوس السواد و الحموضة مثال المتخيل إنسان يطير أو بحر من دم مثال الموجود من فطرة النفس تصور الألم و اللذة و لما كان البارئ سبحانه خارجا عن هذا أجمع لم يكن متصورا . فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود فإنه يعني بصفته هاهنا كنهه و حقيقته يقول ليس لكنهه حد فيعرف بذلك الحد قياسا على الأشياء المحدودة لأنه ليس بمركب و كل محدود مركب . ثم قال و لا نعت موجود أي و لا يدرك بالرسم كما تدرك الأشياء برسومها و هو أن تعرف بلازم من لوازمها و صفة من صفاتها ثم قال و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فيه إشارة إلى الرد على من قال إنا
[ 61 ]
نعلم كنه البارئ سبحانه لا في هذه الدنيا بل في الآخرة فإن القائلين برؤيته في الآخرة يقولون إنا نعرف حينئذ كنهه فهو ع رد قولهم و قال إنه لا وقت أبدا على الإطلاق تعرف فيه حقيقته و كنهه لا الآن و لا بعد الآن و هو الحق لأنا لو رأيناه في الآخرة و عرفنا كنهه لتشخص تشخصا يمنع من حمله على كثيرين و لا يتصور أن يتشخص هذا التشخص إلا ما يشار إلى جهته و لا جهة له سبحانه و قد شرحت هذا الموضع في كتابي المعروف بزيادات النقضين و بينت أن الرؤية المنزهة عن الكيفية التي يزعمها أصحاب الأشعري لا بد فيها من إثبات الجهة و أنها لا تجري مجرى العلم لأن العلم لا يشخص المعلوم و الرؤية تشخص المرئي و التشخيص لا يمكن إلا مع كون المتشخص ذا جهة . و اعلم أن نفي الإحاطة مذكور في الكتاب العزيز في مواضع منها قوله تعالى وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و منها قوله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ اَلْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ و قال بعض الصحابة العجز عن درك الإدارك إدراك و قد غلا محمد بن هانئ فقال في ممدوحه المعز أبي تميم معد بن المنصور العلوي
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب و تصعيد
رأيت موضع برهان يلوح و ما
رأيت موضع تكييف و تحديد
و هذا مدح يليق بالخالق تعالى و لا يليق بالمخلوق . فأما قوله فطر الخلائق إلى آخر الفصل فهو تقسيم مشتق من الكتاب العزيز فقوله فطر الخلائق بقدرته من قوله تعالى قالَ رَبُّ اَلسَّماواتِ
[ 62 ]
وَ اَلْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا و قوله و نشر الرياح برحمته من قوله يرسل الرياح نشرا بين يدي رحمته . و قوله و وتد بالصخور ميدان أرضه من قوله وَ اَلْجِبالَ أَوْتاداً و الميدان التحرك و التموج . فأما القطب الراوندي رحمه الله فإنه قال إنه ع أخبر عن نفسه بأول هذا الفصل أنه يحمد الله و ذلك من ظاهر كلامه ثم أمر غيره من فحوى كلامه أن يحمد الله و أخبر ع أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا و لو قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك ثم قال و الحمد أعم من الشكر و الله أخص من الإله قال فأما قوله الذي لا يبلغ مدحته القائلون فإنه أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده و المعنى أن الحمد كل الحمد ثابت للمعبود الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم التي يستحق بها العبادة . و لقائل أن يقول إنه ليس في فحوى كلامه أنه أمر غيره أن يحمد الله و ليس يفهم من قول بعض رعية الملك لغيره منهم العظمة و الجلال لهذا الملك أنه قد أمرهم بتعظيمه و إجلاله و لا أيضا في الكلام ما يدل على أنه ثابت على ذلك مدة حياته و أنه يجب على المكلفين ثبوتهم عليه ما بقوا . و لا أعلم كيف قد وقع ذلك للراوندي فإن زعم أن العقل يقتضي ذلك فحق و لكن
[ 63 ]
ليس مستفادا من الكلام و هو أنه قال إن ذلك موجود في الكلام . فأما قوله لو كان قال أحمد الله لم يعلم منه جميع ذلك فإنه لا فرق في انتفاء دلالة أحمد الله على ذلك و دلالة الحمد لله و هما سواء في أنهما لا يدلان على شيء من أحوال غير القائل فضلا عن دلالتهما على ثبوت ذلك و دوامه في حق غير القائل . و أما قوله الله أخص من الإله فإن أراد في أصل اللغة فلا فرق بل الله هو الإله و فخم بعد حذف الهمزة هذا قول كافة البصريين و إن أراد أن أهل الجاهلية كانوا يطلقون على الأصنام لفظة الإلهة و لا يسمونها الله فحق و ذلك عائد إلى عرفهم و اصطلاحهم لا إلى أصل اللغة و الاشتقاق أ لا ترى أن الدابة في العرف لا تطلق على القملة و إن كانت في أصل اللغة دابة . فأما قوله قد أظهر العجز عن القيام بواجب مدائحه فكيف بمحامده فكلام يقتضي أن المدح غير الحمد و نحن لا نعرف فرقا بينهما و أيضا فإن الكلام لا يقتضي العجز عن القيام بالواجب لا من الممادح و لا من المحامد و لا فيه تعرض لذكر الوجوب و إنما نفى أن يبلغ القائلون مدحته لم يقل غير ذلك . و أما قوله الذي حقت العبادة له في الأزل و استحقها حين خلق الخلق و أنعم بأصول النعم فكلام ظاهره متناقض لأنه إذا كان إنما استحقها حين خلق الخلق فكيف يقال إنه استحقها في الأزل و هل يكون في الأزل مخلوق ليستحق عليه العبادة . و اعلم أن المتكلمين لا يطلقون على البارئ سبحانه أنه معبود في الأزل أو مستحق للعبادة في الأزل إلا بالقوة لا بالفعل لأنه ليس في الأزل مكلف يعبده تعالى و لا أنعم على أحد في الأزل بنعمة يستحق بها العبادة حتى أنهم قالوا في الأثر الوارد يا قديم
[ 64 ]
الإحسان إن معناه أن إحسانه متقادم العهد لا أنه قديم حقيقة كما جاء في الكتاب العزيز حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ اَلْقَدِيمِ أي الذي قد توالت عليه الأزمنة المتطاولة . ثم قال الراوندي و الحمد و المدح يكونان بالقول و بالفعل و الألف و اللام في القائلون لتعريف الجنس كمثلهما في الحمد و البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه و إذا لم تشرف على حمده تعالى بالقول فكيف توصل إليه بالفعل و الإله مصدر بمعنى المألوه . و لقائل أن يقول الذي سمعناه أن التعظيم يكون بالقول و الفعل و بترك القول و الفعل قالوا فمن قال لغيره يا عالم فقد عظمه و من قام لغيره فقد عظمه و من ترك مد رجله بحضرة غيره فقد عظمه و من كف غرب لسانه عن غيره فقد عظمه و كذلك الاستخفاف و الإهانة تكون بالقول و الفعل و بتركهما حسب ما قدمنا ذكره في التعظيم . فأما الحمد و المدح فلا وجه لكونهما بالفعل و أما قوله إن اللام في القائلون لتعريف الجنس كما أنها في الحمد كذلك فعجيب لأنها للاستغراق في القائلون لا شبهة في ذلك كالمؤمنين و المشركين و لا يتم المعنى إلا به لأنه للمبالغة بل الحق المحض أنه لا يبلغ مدحته كل القائلين بأسرهم و جعل اللام للجنس ينقص عن هذا المعنى إن أراد بالجنس المعهود و إن أراد الجنسية العامة فلا نزاع بيننا و بينه إلا أن قوله كما أنها في الحمد كذلك يمنع من أن يحمل كلامه على المحمل الصحيح لأنها ليست في الحمد للاستغراق يبين ذلك أنها لو كانت للاستغراق لما جاز أن يحمد رسول الله ص و لا غيره من الناس و هذا باطل .
[ 65 ]
و أيضا فإنها لفظ واحد مفرد معرف بلام الجنس و الأصل في مثل ذلك أن يفيد الجنسية المطلقة و لا يفيد الاستغراق فإن جاء منه شيء للاستغراق كقوله إِنَّ اَلْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ و أهلك الناس الدرهم و الدينار فمجاز و الحقيقة ما ذكرناه فأما قوله البلوغ المشارفة يقال بلغت المكان إذا أشرفت عليه فالأجود أن يقول قالوا بلغت المكان إذا شارفته و بين قولنا شارفته و أشرفت عليه فرق . و أما قوله و إذا لم يشرف على حمده بالقول فكيف يوصل إليه بالفعل فكلام مبني على أن الحمد قد يكون بالفعل و هو خلاف ما يقوله أرباب هذه الصناعة . و قوله و الإله مصدر بمعنى المألوه كلام طريف أما أولا فإنه ليس بمصدر بل هو اسم كوجار للضبع و سرار للشهر و هو اسم جنس كالرجل و الفرس يقع على كل معبود بحق أو باطل ثم غلب على المعبود بالحق كالنجم اسم لكل كوكب ثم غلب على الثريا و السنة اسم لكل عام ثم غلب على عام القحط و أظنه رحمه الله لما رآه فعالا ظن أنه اسم مصدر كالحصاد و الجذاذ و غيرهما و أما ثانيا فلأن المألوه صيغة مفعول و ليست صيغة مصدر إلا في ألفاظ نادرة كقولهم ليس له معقول و لا مجلود و لم يسمع مألوه في اللغة لأنه قد جاء أله الرجل إذا دهش و تحير و هو فعل لازم لا يبنى منه مفعول . ثم قال الراوندي و في قول الله تعالى وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ لا تُحْصُوها بلفظ الإفراد و قول أمير المؤمنين ع لا يحصي نعماءه العادون بلفظ الجمع سر عجيب لأنه تعالى أراد أن نعمة واحدة من نعمه لا يمكن العباد عد وجوه كونها نعمة و أراد أمير المؤمنين ع أن أصول نعمه لا تحصى لكثرتها فكيف تعد
[ 66 ]
وجوه فروع نعمائه و كذلك في كون الآية واردة بلفظة إن الشرطية و كلام أمير المؤمنين ع على صيغة الخبر تحته لطيفة عجيبة لأنه سبحانه يريد أنكم إن أردتم أن تعدوا نعمه لم تقدروا على حصرها و علي ع أخبر أنه قد أنعم النظر فعلم أن أحدا لا يمكنه حصر نعمه تعالى . و لقائل أن يقول الصحيح أن المفهوم من قوله وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اَللَّهِ الجنس كما يقول القائل أنا لا أجحد إحسانك إلى و امتنانك علي و لا يقصد بذلك إحسانا واحدا بل جنس الإحسان . و ما ذكره من الفرق بين كلام البارئ و كلام أمير المؤمنين ع غير بين فإنه لو قال تعالى و إن تعدوا نعم الله و قال ع و لا يحصي نعمته العادون لكان كل واحد منهما سادا مسد الآخر . أما اللطيفة الثانية فغير ظاهرة أيضا و لا مليحة لأنه لو انعكس الأمر فكان القرآن بصيغة الخبر و كلام علي ع بصيغة الشرط لكان مناسبا أيضا حسب مناسبته و الحال بعكس ذلك اللهم إلا أن تكون قرينة السجعة من كلام علي ع تنبو عن لفظة الشرط و إلا فمتى حذفت القرينة السجعية عن وهمك لم تجد فرقا و نحن نعوذ بالله من التعسف و التعجرف الداعي إلى ارتكاب هذه الدعاوي المنكرة . ثم قال الراوندي إنه لو قال أمير المؤمنين ع الذي لا يعد نعمه الحاسبون لم تحصل المبالغة التي أرادها بعبارته لأن اشتقاق الحساب من الحسبان و هو الظن قال و أما اشتقاق العدد فمن العد و هو الماء الذي له مادة و الإحصاء الإطاقة أحصيته أي أطقته فتقدير الكلام لا يطيق عد نعمائه العادون و معنى ذلك
[ 67 ]
أن مدائحه تعالى لا يشرف على ذكرها الأنبياء و المرسلون لأنها أكثر من أن تعدها الملائكة المقربون و الكرام الكاتبون . و لقائل أن يقول أما الحساب فليس مشتقا من الحسبان بمعنى الظن كما توهمه بل هو أصل برأسه أ لا ترى أن أحدهما حسبت أحسب و الآخر حسبت أحسب و أحسب بالفتح و الضم و هو من الألفاظ الأربعة التي جاءت شاذة و أيضا فإن حسبت بمعنى ظننت يتعدى إلى مفعولين لا يجوز الاقتصار على أحدهما و حسبت من العدد يتعدى إلى مفعول واحد ثم يقال له و هب أن الحاسبين لو قالها مشتقة من الظن لم تحصل المبالغة بل المبالغة كادت تكون أكثر لأن النعم التي لا يحصرها الظان بظنونه أكثر من النعم التي لا يعدها العالم بعلومه و أما قوله العدد مشتق من العد و هو الماء الذي له مادة فليس كذلك بل هما أصلان و أيضا لو كان أحدهما مشتقا من الآخر لوجب أن يكون العد مشتقا من العدد لأن المصادر هي الأصول التي يقع الاشتقاق منها سواء أ كان المشتق فعلا أو اسما أ لا تراهم قالوا في كتب الاشتقاق أن الضرب الرجل الخفيف مشتق من الضرب أي السير في الأرض للابتغاء قال الله تعالى لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي اَلْأَرْضِ فجعل الاسم منقولا و مشتقا من المصدر . و أما الإحصاء فهو الحصر و العد و ليس هو الإطاقة كما ذكر لا يقال أحصيت الحجر أي أطقت حمله . و أما ما قال إنه معنى الكلمة فطريف لأنه ع لم يذكر الأنبياء و لا
[ 68 ]
الملائكة لا مطابقة و لا تضمنا و لا التزاما و أي حاجة إلى هذا التقدير الطريف الذي لا يشعر الكلام به و مراده ع و هو أن نعمه جلت لكثرتها أن يحصيها عاد ما هو نفي لمطلق العادين من غير تعرض لعاد مخصوص . قال الراوندي فأما قوله لا يدركه بعد الهمم فالإدراك هو الرؤية و النيل و الإصابة و معنى الكلام الحمد لله الذي ليس بجسم و لا عرض إذ لو كان أحدهما لرآه الراءون إذا أصابوه و إنما خص بعد الهمم بإسناد نفي الإدراك و غوص الفطن بإسناد نفي النيل لغرض صحيح و ذلك أن الثنوية يقولون بقدم النور و الظلمة و يثبتون النور جهة العلو و الظلمة جهة السفل و يقولون إن العالم ممتزج منهما فرد ع عليهم بما معناه أن النور و الظلمة جسمان و الأجسام محدثة و البارئ تعالى قديم . و لقائل أن يقول إنه لم يجر للرؤية ذكر في الكلام لأنه ع لم يقل الذي لا تدركه العيون و لا الحواس و إنما قال لا يدركه بعد الهمم و هذا يدل على أنه إنما أراد أن العقول لا تحيط بكنهه و حقيقته . و أيضا فلو سلمنا أنه إنما نفى الرؤية لكان لمحاج أن يحاجه فيقول له هب أن الأمر كما تزعم أ لست تريد بيان الأمر الذي لأجله خصص بعد الهمم بنفي الإدراك و خصص غوص الفطن بنفي النيل و قلت إنما قسم هذا التقسيم لغرض صحيح و ما رأيناك أوضحت هذا الغرض و إنما حكيت مذهب الثنوية و ليس يدل مذهبهم على وجوب تخصيص بعد الهمم بنفي الإدراك دون نفي النيل و لا يوجب تخصيص غوص الفطن
[ 69 ]
بنفي النيل دون نفي الإدراك و أكثر ما في حكاية مذهبهم أنهم يزعمون أن إلهي العالم النور و الظلمة و هما جسمان و أمير المؤمنين ع يقول لو كان صانع العالم جسما لرئي و حيث لم ير لم يكن جسما أي شيء في هذا مما يدل على وجوب ذلك التقسيم و التخصيص الذي زعمت أنه إنما خصصه و قسمه لغرض صحيح . ثم قال الراوندي و يجوز أن يقال البعد و الغوص مصدران هاهنا بمعنى الفاعل كقولهم فلأن عدل أي عادل و قوله تعالى إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً أي غائرا فيكون المعنى لا يدركه العالم البعيد الهمم فكيف الجاهل و يكون المقصد بذلك الرد على من قال إن محمدا ص رأى ربه ليلة الإسراء و إن يونس ع رأى ربه ليلة هبوطه إلى قعر البحر . و لقائل أن يقول أن المصدر الذي جاء بمعنى الفاعل ألفاظ معدودة لا يجوز القياس عليها و لو جاز لما كان المصدر هاهنا بمعنى الفاعل لأنه مصدر مضاف و المصدر المضاف لا يكون بمعنى الفاعل و لو جاز أن يكون المصدر المضاف بمعنى الفاعل لم يجز أن يحمل كلامه ع على الرد على من أثبت أن البارئ سبحانه مرئي لأنه ليس في الكلام نفي الرؤية أصلا و إنما غرض الكلام نفي معقوليته سبحانه و أن الأفكار و الأنظار لا تحيط بكنهه و لا تتعقل خصوصية ذاته جلت عظمته . ثم قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد محدود و لا نعت موجود و لا وقت معدود و لا أجل ممدود فالوقت تحرك الفلك و دورانه على وجه و الأجل
[ 70 ]
مدة الشيء و معنى الكلام أن شكري لله تعالى متجدد عند تجدد كل ساعة و لهذا أبدل هذه الجملة من الجملة التي قبلها و هي الثانية كما أبدل الثانية من الأولى . و لقائل أن يقول الوقت عند أهل النظر مقدار حركة الفلك لا نفس حركته و الأجل ليس مطلق الوقت أ لا تراهم يقولون جئتك وقت العصر و لا يقولون أجل العصر و الأجل عندهم هو الوقت الذي يعلم الله تعالى أن حياة الحيوان تبطل فيه مأخوذ من أجل الدين و هو الوقت الذي يحل قضاؤه فيه . فأما قوله و معنى الكلام أن شكري متجدد لله تعالى في كل وقت ففاسد و لا ذكر في هذه الألفاظ للشكر و لا أعلم من أين خطر هذا للراوندي و ظنه أن هذه الجمل من باب البدل غلط لأنها صفات كل واحدة منها صفة بعد أخرى كما تقول مررت بزيد العالم الظريف الشاعر . قال الراوندي فأما قوله الذي ليس لصفته حد فظاهره إثبات الصفة له سبحانه و أصحابنا لا يثبتون لله سبحانه صفة كما يثبتها الأشعرية لكنهم يجعلونه على حال أو يجعلونه متميزا بذاته فأمير المؤمنين ع بظاهر كلامه و إن أثبت له صفة إلا أن من له أنس بكلام العرب يعلم أنه ليس بإثبات على الحقيقة و قد سألني سائل فقال هاهنا كلمتان إحداهما كفر و الأخرى ليست بكفر و هما لله تعالى شريك غير بصير ليس شريك الله تعالى بصيرا فأيهما كلمة الكفر فقلت له القضية الثانية و هي ليس شريك الله تعالى بصيرا كفر لأنها تتضمن إثبات الشريك و أما الكلمة الأخرى فيكون معناها لله شريك غير بصير بهمزة الاستفهام المقدرة المحذوفة .
[ 71 ]
ثم أخذ في كلام طويل يبحث فيه عن الصفة و المعنى و يبطل مذهب الأشعرية بما يقوله المتكلمون من أصحابنا و أخذ في توحيد الصفة لم جاء و كيف يدل نفي الصفة الواحدة على نفي مطلق الصفات و انتقل من ذلك إلى الكلام في الصفة الخامسة التي أثبتها أبو هاشم ثم خرج إلى مذهب أبي الحسين و أطال جدا فيما لا حاجة إليه . و لقائل أن يقول الأمر أسهل مما تظن فإنا قد بينا أن مراده نفي الإحاطة بكنهه و أيضا يمكن أن يجعل الصفة هاهنا قول الواصف فيكون المعنى لا ينتهي الواصف إلى حد إلا و هو قاصر عن النعت لجلالته و عظمته جلت قدرته . فأما القضيتان اللتان سأله السائل عنهما فالصواب غير ما أجاب به فيهما و هو أن القضية الأولى كفر لأنها صريحة في إثبات الشريك و الثانية لا تقتضي ذلك لأنه قد ينفي قول الشريك بصيرا على أحد وجهين إما لأن هناك شريكا لكنه غير بصير أو لأن الشريك غير موجود و إذا لم يكن موجودا لم يكن بصيرا فإذا كان هذا الاعتبار الثاني مرادا لم يكن كفرا و صار كالأثر المنقول كان مجلس رسول الله ص لا تؤثر هفواته أي لم يكن فيه هفوات فتؤثر و تحكى و ليس أنه كان المراد في مجلسه هفوات إلا أنها لم تؤثر . قال الراوندي فإن قيل تركيب هذه الجملة يدل على أنه تعالى فطر الخليقة قبل خلق السموات و الأرض .
[ 72 ]
قلنا قد اختلف في ذلك فقيل أول ما يحسن منه تعالى خلقه ذاتا حية يخلق فيها شهوة لمدرك تدركه فتلتذ به و لهذا قيل تقديم خلق الجماد على خلق الحيوان عبث و قبيح و قيل لا مانع من تقديم خلق الجماد إذا علم أن علم بعض المكلفين فيما بعد بخلقه قبله لطف له و لقائل أن يقول أما إلى حيث انتهى به الشرح فليس في الكلام تركيب يدل على أنه تعالى فطر خلقه قبل خلق السموات و الأرض و إنما قد يوهم تأمل كلامه ع فيما بعد شيئا من ذلك لما قال ثم أنشأ سبحانه فتق الأجواء على أنا إذا تأملنا لم نجد في كلامه ع ما يدل على تقديم خلق الحيوان لأنه قبل أن يذكر خلق السماء لم يذكر إلا أنه فطر الخلائق و تارة قال أنشأ الخلق و دل كلامه أيضا على أنه نشر الرياح و أنه خلق الأرض و هي مضطربة فأرساها بالجبال كل هذا يدل عليه كلامه و هو مقدم في كلامه على فتق الهواء و الفضاء و خلق السماء فأما تقديم خلق الحيوان أو تأخيره فلم يتعرض كلامه ع له فلا معنى لجواب الراوندي و ذكره ما يذكره المتكلمون من أنه هل يحسن تقديم خلق الجماد على الحيوان أم لا : أَوَّلُ اَلدِّينِ مَعْرِفَتُهُ وَ كَمَالُ مَعْرِفَتِهِ اَلتَّصْدِيقُ بِهِ وَ كَمَالُ اَلتَّصْدِيقِ بِهِ تَوْحِيدُهُ وَ كَمَالُ تَوْحِيدِهِ اَلْإِخْلاَصُ لَهُ وَ كَمَالُ اَلْإِخْلاَصِ لَهُ نَفْيُ اَلصِّفَاتِ عَنْهُ لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ اَلْمَوْصُوفِ وَ شَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّهُ غَيْرُ اَلصِّفَةِ فَمَنْ وَصَفَ اَللَّهَ سُبْحَانَهُ فَقَدْ قَرَنَهُ وَ مَنْ قَرَنَهُ فَقَدْ ثَنَّاهُ وَ مَنْ ثَنَّاهُ فَقَدْ جَزَّأَهُ وَ مَنْ جَزَّأَهُ فَقَدْ جَهِلَهُ
[ 73 ]
وَ مَنْ جَهِلَهُ فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ وَ مَنْ أَشَارَ إِلَيْهِ فَقَدْ حَدَّهُ وَ مَنْ حَدَّهُ فَقَدْ عَدَّهُ وَ مَنْ قَالَ فِيمَ فَقَدْ ضَمَّنَهُ وَ مَنْ قَالَ عَلاَمَ فَقَدْ أَخْلَى مِنْهُ إنما قال ع أول الدين معرفته لأن التقليد باطل و أول الواجبات الدينية المعرفة و يمكن أن يقول قائل أ لستم تقولون في علم الكلام أول الواجبات النظر في طريق معرفة الله تعالى و تارة تقولون القصد إلى النظر فهل يمكن الجمع بين هذا و بين كلامه ع . و جوابه أن النظر و القصد إلى النظر إنما وجبا بالعرض لا بالذات لأنهما وصله إلى المعرفة و المعرفة هي المقصود بالوجوب و أمير المؤمنين ع أراد أول واجب مقصود بذاته من الدين معرفة البارئ سبحانه فلا تناقض بين كلامه و بين آراء المتكلمين . و أما قوله و كمال معرفته التصديق به فلأن معرفته قد تكون ناقصة و قد تكون غير ناقصة فالمعرفة الناقصة هي المعرفة بان للعالم صانعا غير العالم و ذلك باعتبار أن الممكن لا بد له من مؤثر فمن علم هذا فقط علم الله تعالى و لكن علما ناقصا و أما المعرفة التي ليست ناقصة فأن تعلم أن ذلك المؤثر خارج عن سلسلة الممكنات و الخارج عن كل الممكنات ليس بممكن و ما ليس بممكن فهو واجب الوجود فمن علم أن للعالم مؤثرا واجب الوجود فقد عرفه عرفانا أكمل من عرفان أن للعالم مؤثرا فقط و هذا الأمر الزائد هو المكني عنه بالتصديق به لأن أخص ما يمتاز به البارئ عن مخلوقاته هو وجوب الوجود .
[ 74 ]
و أما قوله ع و كمال التصديق به توحيده فلأن من علم أنه تعالى واجب الوجود مصدق بالبارئ سبحانه لكن ذلك التصديق قد يكون ناقصا و قد يكون غير ناقص فالتصديق الناقص أن يقتصر على أن يعلم أنه واجب الوجود فقط و التصديق الذي هو أكمل من ذلك و أتم هو العلم بتوحيده سبحانه باعتبار أن وجوب الوجود لا يمكن أن يكون لذاتين لأن فرض واجبي الوجود يفضي إلى عموم وجوب الوجود لهما و امتياز كل واحد منهما بأمر غير الوجوب المشترك و ذلك يفضي إلى تركيبهما و إخراجهما عن كونهما واجبي الوجود فمن علم البارئ سبحانه واحدا أي لا واجب الوجود إلا هو يكون أكمل تصديقا ممن لم يعلم ذلك و إنما اقتصر على أن صانع العالم واجب الوجود فقط . و أما قوله و كمال توحيده الإخلاص له فالمراد بالإخلاص له هاهنا هو نفي الجسمية و العرضية و لوازمهما عنه لأن الجسم مركب و كل مركب ممكن و واجب الوجود ليس بممكن و أيضا فكل عرض مفتقر و واجب الوجود غير مفتقر فواجب الوجود ليس بعرض و أيضا فكل جرم محدث و واجب الوجود ليس بمحدث فواجب الوجود ليس بجرم و لا عرض فلا يكون حاصلا في جهة فمن عرف وحدانية البارئ و لم يعرف هذه الأمور كان توحيده ناقصا و من عرف هذه الأمور بعد العلم بوحدانيته تعالى فهو المخلص في عرفانه جل اسمه و معرفته تكون أتم و أكمل . و أما قوله و كمال الإخلاص له نفي الصفات عنه فهو تصريح بالتوحيد الذي تذهب إليه المعتزلة و هو نفي المعاني القديمة التي تثبتها الأشعرية و غيرهم قال ع
[ 75 ]
لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف و شهادة كل موصوف أنه غير الصفة و هذا هو دليل المعتزلة بعينه قالوا لو كان عالما بمعنى قديم لكان ذلك المعنى إما هو أو غيره أو ليس هو و لا غيره و الأول باطل لأنا نعقل ذاته قبل أن نعقل أو نتصور له علما و المتصور مغاير لما ليس بمتصور و الثالث باطل أيضا لأن إثبات شيئين أحدهما ليس هو الآخر و لا غيره معلوم فساده ببديهة العقل فتعين القسم الثاني و هو محال أما أولا فبإجماع أهل الملة و أما ثانيا فلما سبق من أن وجوب الوجود لا يجوز أن يكون لشيئين فإذا عرفت هذا فاعرف أن الإخلاص له تعالى قد يكون ناقصا و قد لا يكون فالإخلاص الناقص هو العلم بوجوب وجوده و أنه واحد ليس بجسم و لا عرض و لا يصح عليه ما يصح على الأجسام و الأعراض و الإخلاص التام هو العلم بأنه لا تقوم به المعاني القديمة مضافا إلى تلك العلوم السابقة و حينئذ تتم المعرفة و تكمل . ثم أكد أمير المؤمنين ع هذه الإشارات الإلهية بقوله فمن وصف الله سبحانه فقد قرنه و هذا حق لأن الموصوف يقارن الصفة و الصفة تقارنه . قال و من قرنه فقد ثناه و هذا حق لأنه قد أثبت قديمين و ذلك محض التثنية . قال و من ثناه فقد جزأه و هذا حق لأنه إذا أطلق لفظة الله تعالى على الذات و العلم القديم فقد جعل مسمى هذا اللفظ و فائدته متجزئة كإطلاق لفظ الأسود على الذات التي حلها سواد . قال و من جزأه فقد جهله و هذا حق لأن الجهل هو اعتقاد الشيء على خلاف ما هو به . قال و من أشار إليه فقد حده و هذا حق لأن كل مشار إليه فهو محدود
[ 76 ]
لأن المشار إليه لا بد أن يكون في جهة مخصوصة و كل ما هو في جهة فله حد و حدود أي أقطار و أطراف . قال و من حده فقد عده أي جعله من الأشياء المحدثة و هذا حق لأن كل محدود معدود في الذوات المحدثة . قال و من قال فيم فقد ضمنه و هذا حق لأن من تصور أنه في شيء فقد جعله إما جسما مستترا في مكان أو عرضا ساريا في محل و المكان متضمن للتمكن و المحل متضمن للعرض . قال و من قال علام فقد أخلى منه و هذا حق لأن من تصور أنه تعالى على العرش أو على الكرسي فقد أخلى منه غير ذلك الموضع و أصحاب تلك المقالة يمتنعون من ذلك و مراده ع إظهار تناقض أقوالهم و إلا فلو قالوا هب أنا قد أخلينا منه غير ذلك الموضع أي محذور يلزمنا فإذا قيل لهم لو خلا منه موضع دون موضع لكان جسما و لزم حدوثه قالوا لزوم الحدوث و الجسمية إنما هو من حصوله في الجهة لا من خلو بعض الجهات عنه و أنتم إنما احتججتم علينا بمجرد خلو بعض الجهات منه فظهر أن توجيه الكلام عليهم إنما هو إلزام لهم لا استدلال على فساد قولهم فأما القطب الراوندي فإنه قال في معنى قوله نفي الصفات عنه أي صفات المخلوقين قال لأنه تعالى عالم قادر و له بذلك صفات فكيف يجوز أن يقال لا صفة له . و أيضا فإنه ع قد أثبت لله تعالى صفة أولا حيث قال الذي ليس لصفته حد محدود فوجب أن يحمل كلامه على ما يتنزه عن المناقضة .
[ 77 ]
و أيضا فإنه قد قال فيما بعد في صفة الملائكة أنهم لا يصفون الله تعالى بصفات المصنوعين فوجب أن يحمل قوله الآن و كمال توحيده نفي الصفات عنه على صفات المخلوقين حملا للمطلق على المقيد . و لقائل أن يقول لو أراد نفي صفات المخلوقين عنه لم يستدل على ذلك بدليل الغيرية و هو قوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف لأن هذا الاستدلال لا ينطبق على دعوى أنه غير موصوف بصفات المخلوقين بل كان ينبغي أن يستدل بان صفات المخلوقين من لوازم الجسمية و العرضية و البارئ ليس بجسم و لا عرض و نحن قد بينا أن مراده ع إبطال القول بالمعاني القديمة و هي المسماة بالصفات في الاصطلاح القديم و لهذا يسمى أصحاب المعاني بالصفاتية فأما كونه قادرا و عالما فأصحابها أصحاب الأحوال و قد بينا أن مراده ع بقوله ليس لصفته حد محدود أي لكنهه و حقيقته و أما كون الملائكة لا تصف البارئ بصفات المصنوعين فلا يقتضي أن يحمل كل موضوع فيه ذكر الصفات على صفات المصنوعين لأجل تقييد ذلك في ذكر الملائكة و أين هذا من باب حمل المطلق على المقيد لا سيما و قد ثبت أن التعليل و الاستدلال يقضي ألا يكون المراد صفات المخلوقين . و قد تكلف الراوندي لتطبيق تعليله ع نفي الصفات عنه بقوله لشهادة كل صفة أنها غير الموصوف بكلام عجيب و أنا أحكي ألفاظه لتعلم قال معنى هذا التعليل أن الفعل في الشاهد لا يشابه الفاعل و الفاعل غير الفعل لأن ما يوصف به الغير إنما هو الفعل أو معنى الفعل كالضارب و الفهم فإن الفهم و الضرب كلاهما فعل و الموصوف بهما فاعل و الدليل لا يختلف شاهدا و غائبا فإذا كان تعالى قديما و هذه الأجسام محدثة كانت معدومة ثم وجدت يدل على أنها غير الموصوف بأنه خالقها و مدبرها .
[ 78 ]
انقضى كلامه و حكايته تغني عن الرد عليه . ثم قال الأول على وزن أفعل يستوي فيه المذكر و المؤنث إذا لم يكن فيه الألف و اللام فإذا كانا فيه قيل للمؤنث الأولى . و هذا غير صحيح لأنه يقال كلمت فضلاهن و ليس فيه ألف و لام و كان ينبغي أن يقول إذا كان منكرا مصحوبا بمن استوى المذكر و المؤنث في لفظ أفعل تقول زيد أفضل من عمرو و هند أحسن من دعد : كَائِنٌ لاَ عَنْ حَدَثٍ مَوْجُودٌ لاَ عَنْ عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُقَارَنَةٍ وَ غَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لاَ بِمُزَايَلَةٍ فَاعِلٌ لاَ بِمَعْنَى اَلْحَرَكَاتِ وَ اَلآْلَةِ بَصِيرٌ إِذْ لاَ مَنْظُورَ إِلَيْهِ مِنْ خَلْقِهِ مُتَوَحِّدٌ إِذْ لاَ سَكَنَ يَسْتَأْنِسُ بِهِ وَ لاَ يَسْتَوْحِشُ لِفَقْدِهِ أَنْشَأَ اَلْخَلْقَ إِنْشَاءً وَ اِبْتَدَأَهُ اِبْتِدَاءً بِلاَ رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا وَ لاَ تَجْرِبَةٍ اِسْتَفَادَهَا وَ لاَ حَرَكَةٍ أَحْدَثَهَا وَ لاَ هَمَامَةِ نَفْسٍ اِضْطَرَبَ فِيهَا أَحَالَ اَلْأَشْيَاءَ لِأَوْقَاتِهَا وَ لاَءَمَ لَأَمَ بَيْنَ مُخْتَلِفَاتِهَا وَ غَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَ أَلْزَمَهَا أَشْبَاحَهَا عَالِماً بِهَا قَبْلَ اِبْتِدَائِهَا مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَ اِنْتِهَائِهَا عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَ أَحْنَائِهَا [ أَجْنَائِهَا ] قوله ع كائن و إن كان في الاصطلاح العرفي مقولا على ما ينزه البارئ عنه فمراده به المفهوم اللغوي و هو اسم فاعل من كان بمعنى وجد كأنه قال موجود غير محدث .
[ 79 ]
فان قيل فقد قال بعده موجود لا عن عدم فلا يبقى بين الكلمتين فرق . قيل بينهما فرق و مراده بالموجود لا عن عدم هاهنا وجوب وجوده و نفي إمكانه لأن من أثبت قديما ممكنا فإنه و إن نفى حدوثه الزماني فلم ينف حدوثه الذاتي و أمير المؤمنين ع نفى عن البارئ تعالى في الكلمة الأولى الحدوث الزماني و نفى عنه في الكلمة الثاني الذاتي و قولنا في الممكن أنه موجود من عدم صحيح عند التأمل لا بمعنى أن عدمه سابق له زمانا بل سابق لوجوده ذاتا لأن الممكن يستحق من ذاته أنه لا يستحق الوجود من ذاته . و أما قوله مع كل شيء لا بمقارنة فمراده بذلك أنه يعلم الجزئيات و الكليات كما قال سبحانه ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ . و أما قوله و غير كل شيء لا بمزايلة فحق لأن الغيرين في الشاهد هما ما زايل أحدهما الآخر و باينه بمكان أو زمان و البارئ سبحانه يباين الموجودات مباينة منزهة عن المكان و الزمان فصدق عليه أنه غير كل شيء لا بمزايلة . و أما قوله فاعل لا بمعنى الحركات و الآلة فحق لأن فعله اختراع و الحكماء يقولون إبداع و معنى الكلمتين واحد و هو أنه يفعل لا بالحركة و الآلة كما يفعل الواحد منا و لا يوجد شيئا من شيء . و أما قوله بصير إذ لا منظور إليه من خلقه فهو حقيقة مذهب أبي هاشم رحمه الله و أصحابه لأنهم يطلقون عليه في الأزل أنه سميع بصير و ليس هناك مسموع و لا مبصر و معنى ذلك كونه بحال يصح منه إدراك المسموعات و المبصرات إذا وجدت
[ 80 ]
و ذلك يرجع إلى كونه حيا لا آفة به و لا يطلقون عليه أنه سامع مبصر في الأزل لأن السامع المبصر هو المدرك بالفعل لا بالقوة . و أما قوله متوحد إذ لا سكن يستأنس به و يستوحش لفقده فإذ هاهنا ظرف و معنى الكلام أن العادة و العرف إطلاق متوحد على من قد كان له من يستأنس بقربه و يستوحش ببعده فانفرد عنه و البارئ سبحانه يطلق عليه أنه متوحد في الأزل و لا موجود سواه و إذا صدق سلب الموجودات كلها في الأزل صدق سلب ما يؤنس أو يوحش فتوحده سبحانه بخلاف توحد غيره . و أما قوله ع أنشأ الخلق إنشاء و ابتدأه ابتداء فكلمتان مترادفتان على طريقة الفصحاء و البلغاء كقوله سبحانه لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ و قوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً . و قوله بلا روية أجالها فالروية الفكرة و أجالها رددها و من رواه أحالها بالحاء أراد صرفها و قوله و لا تجربة استفادها أي لم يكن قد خلق من قبل أجساما فحصلت له التجربة التي أعانته على خلق هذه الأجسام . و قوله و لا حركة أحدثها فيه رد على الكرامية الذين يقولون إنه إذا أراد أن يخلق شيئا مباينا عنه أحدث في ذاته حادثا يسمى الأحداث فوقع ذلك الشيء المباين عن ذلك المعنى المتجدد المسمى أحداثا . و قوله و لا همامة نفس اضطرب فيها فيه رد على المجوس و الثنوية القائلين بالهمامة و لهم فيها خبط طويل يذكره أصحاب المقالات و هذا يدل على صحة ما يقال إن أمير المؤمنين ع كان يعرف آراء المتقدمين و المتأخرين و يعلم العلوم كلها و ليس ذلك ببعيد من فضائله و مناقبه ع .
[ 81 ]
و أما قوله أحال الأشياء لأوقاتها فمن رواها أحل الأشياء لأوقاتها فمعناه جعل محل كل شيء و وقته كمحل الدين و من رواها أحال فهو من قولك حال في متن فرسه أي وثب و أحاله غيره أي أوثبه على متن الفرس عداه بالهمزة و كأنه لما أقر الأشياء في أحيانها و أوقاتها صار كمن أحال غيره على فرسه . و قوله و لاءم بين مختلفاتها أي جعل المختلفات ملتئمات كما قرن النفس الروحانية بالجسد الترابي جلت عظمته و قوله و غرز غرائزها المروي بالتشديد و الغريزة الطبيعة و جمعها غرائز و قوله غرزها أي جعلها غرائز كما قيل سبحان من ضوأ الأضواء و يجوز أن يكون من غرزت الإبرة بمعنى غرست و قد رأيناه في بعض النسخ بالتخفيف . و قوله و ألزمها أشباحها الضمير المنصوب في ألزمها عائد إلى الغرائز أي ألزم الغرائز أشباحها أي أشخاصها جمع شبح و هذا حق لأن كلا مطبوع على غريزة لازمة فالشجاع لا يكون جبانا و البخيل لا يكون جوادا و كذلك كل الغرائز لازمة لا تنتقل . و قوله عالما بها قبل ابتدائها إشارة إلى أنه عالم بالأشياء فيما لم يزل و قوله محيطا بحدودها و انتهائها أي بأطرافها و نهاياتها . و قوله عارفا بقرائنها و أحنائها القرائن جمع قرونة و هي النفس و الأحناء الجوانب جمع حنو يقول إنه سبحانه عارف بنفوس هذه الغرائز التي ألزمها أشباحها عارف بجهاتها و سائر أحوالها المتعلقة بها و الصادرة عنها .
[ 82 ]
فأما القطب الراوندي فإنه قال معنى قوله ع كائن لا عن حدث موجود لا عن عدم أنه لم يزل موجودا و لا يزال موجودا فهو باق أبدا كما كان موجودا أولا و هذا ليس بجيد لأن اللفظ لا يدل على ذلك و لا فيه تعرض بالبقاء فيما لا يزال . و قال أيضا قوله ع لا يستوحش كلام مستأنف و لقائل أن يقول كيف يكون كلاما مستأنفا و الهاء في فقده ترجع إلى السكن المذكور أولا . و قال أيضا يقال ما له في الأمر همة و لا همامة أي لا يهم به و الهمامة التردد كالعزم و لقائل أن يقول العزم هو إرادة جازمة حصلت بعد التردد فبطل قوله أن الهمامة هي نفس التردد كالعزم و أيضا فقد بينا مراده ع بالهمامة حكى زرقان في كتاب المقالات و أبو عيسى الوراق و الحسن بن موسى و ذكره شيخنا أبو القاسم البلخي في كتابه في المقالات أيضا عن الثنوية أن النور الأعظم اضطربت عزائمه و إرادته في غزو الظلمة و الإغارة عليها فخرجت من ذاته قطعة و هي الهمامة المضطربة في نفسه فخالطت الظلمة غازية لها فاقتطعتها الظلمة عن النور الأعظم و حالت بينها و بينه و خرجت همامة الظلمة غازية للنور الأعظم فاقتطعها النور الأعظم عن الظلمة و مزجها بأجزائه و امتزجت همامة النور بأجزاء الظلمة أيضا ثم ما زالت الهمامتان تتقاربان
[ 83 ]
و تتدانيان و هما ممتزجتان بأجزاء هذا و هذا حتى انبنى منهما هذا العالم المحسوس و لهم في الهمامة كلام مشهور و هي لفظة اصطلحوا عليها و اللغة العربية ما عرفنا فيها استعمال الهمامة بمعنى الهمة و الذي عرفناه الهمة بالكسر و الفتح و المهمة و تقول لا همام لي بهذا الأمر مبني على الكسر كقطام و لكنها لفظة اصطلاحية مشهورة عند أهلها : ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ فَتْقَ اَلْأَجْوَاءِ وَ شَقَّ اَلْأَرْجَاءِ وَ سَكَائِكَ اَلْهَوَاءِ فَأَجْرَى [ أَجَازَ ] فِيهَا مَاءً مُتَلاَطِماً تَيَّارُهُ مُتَرَاكِماً زَخَّارُهُ حَمَلَهُ عَلَى مَتْنِ اَلرِّيحِ اَلْعَاصِفَةِ وَ اَلزَّعْزَعِ اَلْقَاصِفَةِ فَأَمَرَهَا بِرَدِّهِ وَ سَلَّطَهَا عَلَى شَدِّهِ وَ قَرَنَهَا إِلَى حَدِّهِ اَلْهَوَاءُ مِنْ تَحْتِهَا فَتِيقٌ وَ اَلْمَاءُ مِنْ فَوْقِهَا دَفِيقٌ ثُمَّ أَنْشَأَ سُبْحَانَهُ رِيحاً اِعْتَقَمَ مَهَبَّهَا وَ أَدَامَ مُرَبَّهَا وَ أَعْصَفَ مَجْرَاهَا وَ أَبْعَدَ مَنْشَأَهَا فَأَمَرَهَا بِتَصْفِيقِ اَلْمَاءِ اَلزَّخَّارِ وَ إِثَارَةِ مَوْجِ اَلْبِحَارِ فَمَخَضَتْهُ مَخْضَ اَلسِّقَاءِ وَ عَصَفَتْ بِهِ عَصْفَهَا بِالْفَضَاءِ تَرُدُّ أَوَّلَهُ عَلَى إِلَى آخِرِهِ وَ سَاجِيَهُ [ سَاكِنَهُ ] عَلَى إِلَى مَائِرِهِ حَتَّى عَبَّ عُبَابُهُ وَ رَمَى بِالزَّبَدِ رُكَامُهُ فَرَفَعَهُ فِي هَوَاءٍ مُنْفَتِقٍ وَ جَوٍّ مُنْفَهِقٍ فَسَوَّى مِنْهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ جَعَلَ سُفْلاَهُنَّ مَوْجاً مَكْفُوفاً وَ عُلْيَاهُنَّ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ سَمْكاً مَرْفُوعاً بِغَيْرِ عَمَدٍ يَدْعَمُهَا وَ لاَ دِسَارٍ يَنْتَظِمُهَا يَنْظِمُهَا ثُمَّ زَيَّنَهَا بِزِينَةِ اَلْكَوَاكِبِ وَ ضِيَاءِ اَلثَّوَاقِبِ وَ أَجْرَى فِيهَا سِرَاجاً مُسْتَطِيراً وَ قَمَراً مُنِيراً فِي فَلَكٍ دَائِرٍ وَ سَقْفٍ سَائِرٍ وَ رَقِيمٍ مَائِرٍ
تعليق