)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا( (الأحزاب/46-47).
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صلى على محمد وال محمد
صفاتٌ خَمس لنبينا (صلى الله عليه و آله) في القرآن، شاركه بها أئمة الهدى
وصف الله سبحانه وتعالى نبيّه الكريم بهاتين الآيتين من سورة الأحزاب بخمس صفاتٍ جليلة، هنَّ مِن شؤون نبوتّه ورسالته، وحجيّته وولايته العامتين على أمته وعلى أهل الأرض جميعاً.
الأولى: كونه(صلى الله عليه و آله) شاهداً
الصفة الأولى كونه "شاهداً" يشهد على أمته يوم القيامة كما يشهد على الناس أجمعين من يهود ونصارى ومشركين وملحدين فيما يعتقدون ويعملون من إيمان أو كفر، وطاعةٍ أو معصية، يشهد لهم أو عليهم يوم القيامة حتّى يجازى كلٌ بما أعتقد وعَمِل طبق اعتقاده وعمله، وطبق شهادة الرسول(صلى الله عليه و آله) له أو عليه.
وكون النبي(صلى الله عليه و آله) شاهداً على أمته وعلى الناس أجمعين هذهِ حقيقة قرآنية قد نصّ عليها القرآن في سور عديدة وآياتٍ كثيرة، منها الآية المبحوث عنها)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا( وهكذا قال تعالى في سورة الفتح:)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا( (الفتح/9).
ومنها قوله تعالى:)إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً( (المزمل/16).
بل يصرح القرآن المجيد بأنّ كلّ امةٍ من الأمم جعل الله عليها شهيداً منهم من نبيٍ أو رسول أو إمام، قال تعالى:)فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا( (النساء/42).
وقال تعالى:)وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ( (القصص/76).
وقال تعالى:)وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاَء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ( (النمل/90).
وقال تعالى:) وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ( (النحل/85).
وقال تعالى:)وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ( (الزُمَر/70).
إلى غير ذلك من الآيات، ومن هنا جاءَ عن الإمام الصادق(عليه السلام) أنه قال: لكلّ زمانٍ وامةٍ إمام، تُبعث كلّ امّةٍ مع إمامها(1)، وإنما تبعث كل أمةٍ مع إمامها ليشهد عليها.
أمّا هذهِ الامّة الإسلامية التي هي آخر الأمم فشهيدها الأول وبالإجماع – بعد الله تعالى – هو رسول الله(صلى الله عليه و آله) ولكن هل هناك شهود عليها غير الرسول الأعظم؟ نعم، الشهود عليها بعد الرسول إنّما هم أهل بيته أئمة الهدى من بعده، يشهد كلّ إمام منهم على أهل زمانه.
الأمة الوسط الشهيدة على الناس إنّما هم الأئمة من آل محمّد(صلى الله عليه و آله)
وهذا أيضاً أشار إليه القرآن وذكره في عديدٍ من آياته، ومنها قوله تعالى:)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا( (البقرة/144).
لنقف قليلاً أو كثيراً عند هذهِ الآية الكريمة من سورة البقرة ونتدبّر في المراد من الأمة الوسط التي جعلها الله شهيدة على الناس.
نعم هذهِ الآية - حسب نصها – تقول: إنّ الأمة الوسط هي الشهيدة على الناس، ولكن مَن المراد من الأمة الوسط هل هي الأمة الإسلامية بكاملها تشهد على الناس ويشهد بعضها على بعض؟ كما يصرح به إخواننا أهل السُنّة في تفاسيرهم، وبعض أخبارهم؟
كالسيوطي في تفسيره (الدر المنثور)(2).
والفخر الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب)(3).
وابن كثير الدمشقي في تفسيره (القرآن العظيم)(4)، وغيرهم.
نعم الفخر الرازي استثنى من مجموع الأمة ثلاث فرق حيث قال: دلّت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبّه، والخوارج، والروافض فإنه لا يُعتدّ به في الإجماع، لأن الله إنّما جَعل الشهداء مَن وَصَفهم بالعدالة والخَيريّة …الخ(5).
ليست الأمة كلها شهداء
ونحن نرى أن تفسير الأمة الوسط بالأمة الإسلامية كلّها، وحتى لو استُني منها – برغم الفخر الرازي – المشبّهة والخوارج والروافض، نراه تفسيراً يخالف العقل والوجدان، والذوق، والمنطق السليم، والتحليل العلمي، كما يخالف النصوص القرآنية، من جهات عديدة.
منها إنّ الشاهد يجب أنْ يكون عالماً بما يشهد به، إذ معنى "شهد فلان عند الحاكم، أو عند القاضي" أي بيّن له ما شهده وحضره، أو بيّن له ما علمه علم اليقين، أمّا إذا كان الشاهد غير عالمٍ بما يشهد به، أو غير مشاهدٍ لما يشهد به فلا يعتبر شاهداً، ولا تقبل منه الشهادة أصلاً، وإذا كان كذلك فمن أين للأمة وأفرادها العلم بما يشهدون به على الناس، مع أنهم يعيشون في أدوار متعاقبة لم يعاصر بعضهم بعضاً، كما يعيشون في الدور الواحد في الشرق والغرب قد لا يرى أحدهم الآخر، وعلى فرض أنهم يعيشون معاً في بلدٍ واحد وحتى لو كانوا في محلةٍ واحدة فهل يعلم أحدهم بكامل أعمال الآخر؟ قطعاً لا، وعلى فرض أنه يشهد ببعض ما شاهده من عمله، فهل يعلم هذا الشاهد بحقيقة ذلك العمل وما نوى به صاحبه مِن حقٍ أو باطل؟ مثلاً شاهدتني أصلي وشهدت لي بما عملت وشاهدت لكن هل تعلم أنّي صليت خالصاً لوجه الله أو كانت صلاتي رياءً؟ وهل علمت أن صلاتي – مثلاً- كانت جامعة لشرائط القبول أم لا؟ قطعاً لا تعلم ذلك، فكيف تشهد به؟ وكيف يقبل الله شهادتك؟
هذا مع العلم انّ الله يحاسب الناس يوم القيامة بما كسبت قلوبهم وما انْطوت عليه ضمائرهم من الحقائق في الأعمال، ومن المعاني النفسانية من الكفر والإيمان والفوز والخسران كما قال تعالى:)وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ( (البقرة/226).
وهذه الأمور النفسانية لا تدركها الحواس الخمسة الظاهرية، ولا يعلمها أحد إلاّ الله، أو مَن يعلمه الله ويتوّلى أمره ويكشف له ذلك بنفسه لأنه تعالى هو وحده العالم بما في الضمائر المطلع على ما في السرائر، وعلى كّلٍ لا بدّ من أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به، وليس ذلك باستطاعة الأمة بكاملها بحكم العقل والوجدان والذوق السليم والمنطق الحاسم، والتحليل العلمي.
يجيب بعض المفسرين والمحدثين عن هذا الإشكال الحقيقي البيّن ببعض الأحاديث، وينسبونها إلى النبي(صلى الله عليه و آله) ومضمونها: أن هذه الأمة تشهد على الأمم الماضية كأمة نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، حيث ان هذه الأمم تنكر أن يكون قد جاءَهم نذير ورسول من الله، يقولون: ما آتانا من نذير، وما آتانا من أحدٍ، فيقال للرسول كـ (نوح وغيره): هل بلّغت؟ فيقول: نعم، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمّد(صلى الله عليه و آله) وأمته، فيدعى بمحمّد وأمته فيقال لهم: هل بلّغ هذا قومه؟ فيقولون: نعم، فيقال: ما علمكم؟ جاءَنا نبينا فأخبرنا إن الرسل قد بلّغوا، فذلك قوله تعالى:)وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا( أي عدلاً(6).
وأقول: على فرض صحة هذا الخبر، فالقرينة دالة على أنّ الأمة الشاهدة مع نبيها إنما هم أهل بيته أئمة الهدى الاثنى عشر، لا الأمة كلها يدعى بها لتشهد، فإن هذا غير معقول ولا مقبول، هذا من جهة.
ومن جهةٍ ثانية إنّ الشاهد يجب انْ يكون عادلاً وإلاّ لا يصح الاستشهاد به في الدنيا فضلاً عن الآخرة، قال تعالى:)وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ( (الطلاق/3).
والحال الأمة الإسلامية – بحكم الضرورة والبداهة – فيها العادل والظالم، والمؤمن والمنافق، والبر والفاجر، فكيف يستشهد الله تعالى بهم جميعاً؟ هذا ما لا يرتضيه العقل ويخالف الوجدان والذوق والمنطق السليم، والتحليل العلمي ويخالف أيضاً القرآن العظيم، يقول تعالى مخاطباً المؤمنين مِن هذهِ الأمة: )إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأْيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ( (آل عمران/141)، فقوله تعالى:)وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهدَاءَ( لفظة "منكم" هنا للتبعيض، أي يتخذ بعضكم شهداء، فلو أنّ الأمة تشهد لقال: (ويتخذكم شهداء) وهذا دليل قرآنيٌ واضح على أنّ الشهداء على الأمة الإسلامية بعضها لا كلها، فمن أولئك البعض؟:
إنّما هم خلفاء النبي على أمته من بعده وهم أئمة الهدى، وهذه الجهة الثانية.
ومِن جهةٍ ثالثة إنّ القرآن يُصّرِح بأن كل أُمّةٍ مِن الأمم يجعل الله عليها شهيداً واحداً كما في قوله تعالى:)فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ( وقوله تعالى:)وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شهِيدًا( وقوله تعالى)وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ( وقوله تعالى:)وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا( إلى غير ذلك من الآيات الأخرى في هذا المعنى.
إذاً كيف يجعل الله هذه الأمة كلّها شهداء؟ فهذا المعنى يخالف سنّة الله الجارية في الأمم، ومعلوم أنّ سنّة الله في خلقه لا تتحوّل ولا تتبدّل قال تعالى:)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً( (الأحزاب/63).
والخلاصة انّ الشهداء على هذه الأمة إنمّا هم الأئمة الاثنى عشر(عليهم السلام) كل واحدٍ منهم يكون شهيداً على أهل زمانه دون غيرهم.
يتبع
تعليق